انعطاف أساس في مسار المعارضة السورية

(افتتاحية)

بدا إعلان دمشق وكأنه مفاجأة غير متوقعة بالنسبة للكثير من المحللين والمعلقين السياسيين، وهذا كان بسبب رهانات العديد من أطراف المعارضة في سوريا على إصلاحٍ يأتي من فوق تقوم به السلطة الحاكمة؛ لكن تجربة خمس سنوات من الحوار والجدل والرهان على الوعود السلطوية كانت كافية لإقناع أغلبية أطراف المعارضة بأن هذا النظام أعجزُ من أن يقيمَ إصلاحاً أو بالأحرى هو ليس سوى بنية غير قابلةٍ للإصلاح. فإعلان دمشق جاء ليقطع مع كل الرهانات على تغييرٍ يأتي من السلطة، وليطرحَ مسألة التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا كما جاء في موضوعته الأولى:" إقامة النظام الوطني الديمقراطي هو المدخل الأساس في مشروع التغيير والإصلاح السياسي…".

في الواقع، لم يكن هذا الإعلان مفاجأةً، لأنه أتى كمحصلة للصراع السياسي الحاد الذي تمرُّ به السلطة في علاقاتها القمعية مع مجتمعها ومع قوى المعارضة، ونتيجة للسياسات المتخبطة والمدمرة التي سلكها النظام في مجمل سياساته الخارجية، خصوصاً فيما يتعلق بسياسته القصيرة النظر وتصرفاته المغامرة في لبنان (التمديد للحود والقرار 1559، وتداعياته التي أعقبها اغتيال رفيق الحريري ومن ثم انسحاب الجيش السوري من لبنان والاغتيالات والتفجيرات اللاحقة والقرار 1595 وتشكيل لجنة التحقيق الدولية وتقرير ميليس ونتائجه وتأجج الصراعات على السلطة وتغييب وزير الداخلية غازي كنعان في ظروف غامضة...).

ويندرج في هذا الإطار تفاقم الاحتقانات الاجتماعية يوماً عن يوم في الساحة السورية، التي راحت تتمظهر على شكل صدامات محلية، تعبر بشكل أو بآخر عن نمو التهتك والتفكك في النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتحمل في طياتها مخاطر مستقبلية تدعو للقلق؛ وبالإضافة إلى ذلك هنالك ملامح الانهيارات الاقتصادية التي بدأت تلوح في الأفق( انهيار أسعار العملة السورية، وفقدان مواد هامة مثل الوقود ومواد البناء، وتفاقم الفروق الكبيرة بين مستوى الأجور المنخفضة والأسعار الجنونية، وفوق كل ذلك البطالة التي فاقت كل النسب العالمية...). فسوريا على كل المستويات تعاني من أزمة عامة!.

ولقد فاقمت هذه الحالة المزرية عزلة النظام على المستوى الداخلي والعربي والدولي، ووضعت البلاد على مفترق طرق جعل كلَ مواطنٍ في حالٍ من القلق إزاء القادمِ من الأيام؛ وهي التي دفعت قوى المعارضة لأن تتآلف وتتوحد على مخرجٍ إنقاذي يجنب سوريا ما حصل في العراق.

وعلى نفس المستوى من الأهمية جاء إعلان دمشق في لحظة تاريخية، راحت تحاول معظم الشعوب في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، بأطيافها الوطنية وفعالياتها المختلفة، وعبر التوافق على قواسم أساسية مشتركة، تبنيَ (نظماً سياسيةً مدنيةً دستوريةً وديمقراطية) للخلاص من الأنظمة الاستبدادية والشمولية والتي شكلت وتشكل على الدوام العائق الأساس في وجه نهوض هذه الشعوب وتحررها، فبناء مثل هذه النظم في العالم العربي بات في الوقت الراهن مهمة ملحة وتاريخية تطرح نفسها كقضية ينبغي انجازها دون تأخير.

* * *

يجب أن يدرك الجميع أن إعلان دمشق ليس وثيقة برنامجية سياسية نهائية، وكذلك ليس برنامج حكومةٍ ائتلافية، وإنما تنبع أهميته في هذه اللحظة السياسية من كونه يعبر ولأول مرة عن التوافقات الرئيسية لشكل ومضمون النضال السياسي من أجل تكوين ائتلاف عريض لإقامة نظام ديمقراطي يحل محل النظام الشمولي القائم. وهذه النقطة الأساس هي التي يلتقي عليها اليوم أغلب السوريين، أي العمل معاً لإقامة نظام يتيح للجميع التعبير عن أفكارهم وأهدافهم وبرامجهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية. فالوظيفة المحورية لوثيقة إعلان دمشق هي حشد جميع القوى والفعاليات السورية التي لها مصلحة بتأسيس نظام ديمقراطي، تتكرس فيه سيادة الشعب، والمواطنية المتساوية، أي المساواة بين الجميع بصرف النظر عن الأصل والجنس والقومية والدين والمذهب والانتماء الإيديولوجي.

وكذلك يجب أن ندرك أن الإعلان ليس موجها لجمهور الأحزاب الموقعة عليه، إنما هو موجه للرأي العام السوري بكامل أطيافه، من أجل الانخراط في عملية التغيير التي أصبحت راهنة. وإن تطور هذا الإعلان واغتناء مضامينه وانفتاح الآفاق أمامه، مرهون بانخراط أوسع التمثيلات الشعبية، وتضافر جهود كل الفعاليات والشخصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، على طريق بناء المرتكزات والحوامل الموضوعية التي تجعل من هذا الإعلان معبراً على نحو متزايد عن إرادة شعبية حقيقية.

وهو يشي بنشوء قوة ثالثة في سورية تعبر عن مصالح شعبنا، لا تتلاقى أبداً مع سياسات النظام، وقادرة على التعامل العقلاني الموضوعي مع الخارج الإقليمي والدولي، وفي آن ترفض أي تدبير يؤدي إلى الضرر بمصالح شعبنا، وهذا يعني أنها ترفض أي تدخل عسكري أو احتلال وأية عقوبات اقتصادية تمس المواطنين السوريين في حياتهم كما جرى في العراق سابقاً.

والإعلان يجمع بين المعارضة في الداخل والخارج ويحسم الجدل حول أولية الداخل أو أولوية الخارج في عملية التغيير، ويميَّز بوضوح بين التغيير المحمول من الخارج والتغيير غير المعزول موضوعياً عن العلاقات العضوية والوثيقة بين العوامل الجوانية والبرانية المؤثرة فيه، وضمن هذا السياق لن تبقى مسألة العلاقة بين الخارج والداخل حكراً على السلطة فقط، فالقوة الثالثة الناشئة لا بد وأن تمتلك مشروعية الإسهام في إدارة هذه العلاقة. بما يحفظ مصالح البلاد وسيادتها.

وفي الواقع فقد تخطى الإعلان الكثير من الحواجز التي يضعها النظام بين أطراف المعارضة تحت شتى الذرائع، وعلى وجه الخصوص تخويف المعارضة الديمقراطية(القومية والعلمانية والليبرالية واليسارية) من الأخوان المسلمين والتيارات الإسلامية المعتدلة الأخرى، ومن القوى الكردية، وكذلك التخويف من الخارج.

إن مضمون الإعلان ببنوده الأساسية وخطه العام يشكل معياراً أساسياً في تحديد الموقف، ليس منه فقط، وإنما في تحديد الموقف من النظام، فبصرف النظر عن الانتقادات التي وجهت لبعض بنوده فإنه يبقى العنصر المشترك والجامع لكل من يسعى إلى الخلاص من الاستبداد والانتقال إلى رحاب الحرية والديمقراطية وحماية الاستقلال الوطني.

لقد وسَّع الإعلان دائرة الحوار، وهذا يؤدي بدوره إلى شرح مضامينه وتعميقه وتطويره وتنشيط الحراك السياسي في سوريا على كافة المستويات. لكنه حتى الآن لا يزال حدثاً سياسياً يأتي في زحمة الأحداث الكبرى التي تجري في المنطقة، ولكي يأتي أكله ويحقق أهدافه لا بد للقوى التي حملته أن تتحرك باتجاهين رئيسيين: أولاً توسيع دوائره نحو مفاتيح المجتمع الحقيقية كي لا يبقى محصوراً بيد موقعيه لأنهم لا يشكلون قوة كافية لإجراء الحراك من أجل التغيير. وثانياً لا بد من وضع آليات للعمل الميداني(اعتصام، تظاهر، وتعبيرات أخرى مختلفة فيما يتعلق بالمسائل الاجتماعية والمطلبية المختلفة). وخاصة أن في معادلة التغيير لا يزال الخارج إلى الآن هو العامل الأقوى فيها، لذلك فهذه القوة الثالثة المتشكلة بمقدار ما تجسد ما جاء في الإعلان على أرض الواقع بمقدار ما تتحول إلى قوة مؤثرة يحسب حسابها من الخارج ومن النظام.

من هنا نرى أن على الموقعين على الإعلان والمؤيدين له، وعلى الشخصيات والقوى التي دعمته والتحقت به أن تجد آليات للعمل المشترك بشكل تجمع بين الخارج والداخل لتوحيد الخطاب السياسي وتنسيق الأعمال المشتركة. وفي الداخل لا بد من إطلاق حملة من اللقاءات والندوات والتجمعات بكافة المستويات لإبقاء هذه الوثيقة حية ورهن الحوار وكذلك لابد من العمل على لجنة داعمة في كل محافظة مهمتها الاتصال بالشخصيات والقوى والفعاليات المختلفة وأوسع الدوائر. ويجب الإبقاء على الحوار حول مضمون الوثيقة من أجل ألتفاف أوسع حولها.

* * *

لاقى إعلان دمشق صدىً كبيراً في أوساط السياسيين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام في الداخل السوري وفي وسائل الإعلام المختلفة العربية وكذلك في وسائل الإعلام الدولية، ولقد حظي بتأييد هام و ملموس في هذه الأوساط واعتبر خطوة تاريخية في مسار المعارضة في سوريا التي حسمت أمرها على أن تأتلف على قواسم سياسية مشتركة من أجل التغيير الديمقراطي.

ولكن في المقابل لاقى الإعلان نقداً واسعاً أيضاً، وكان هنالك من الانتقادات التي وجهت له بهدف تعميقه وتحسينه وتطويره، وفي آن لاقى من الكتابات التي لم ترقَ إلى مستوى النقد بل اقتصرت على القدح والذم والمواقف الإيديولوجية المتشنجة، والبعض من هؤلاء كانت تشي كتاباتهم بأنهم لم يقرأوا من الإعلان سوى بنداً أو بندين فراحوا يخرجون من قواميسهم مختلف مفردات السباب.

وفي الواقع إن نقد الإعلان بمعايير النقد الجدية سوف لن يؤدي إلاّ إلى دفعه إلى شرائح أوسع من شعبنا وتجسيده لديهم كقوة تغييرية خلاقة باتجاه الديمقراطية. فهنالك بعض النقاد الذين أظهروا دعمهم له ولكنهم أخذوا عليه تطويل النص والدخول في التفاصيل وفي أشياء ثقافية وفكرية ليس محلها قبل التغيير في بيان الائتلاف على قواسم مشتركة رئيسة، في الوقت الذي يمكن بحث التفاصيل والقضايا الفكرية والإشكالية ويتم النقاش حولها بعد التغيير الديمقراطي، حينئذ يحق لكل طرف من الأطراف المؤتلفة أن يناضل من أجل تطبيق برنامجه السياسي وهذه طبيعة وسِمات الديمقراطية. وهنالك بعض آخر رأى في إعلان دمشق خطوة تاريخية لكونه يعترف بوجود كل أطراف الطيف السياسي السوري ويرى أن أي ائتلاف سياسي يُستبعد منه في هذه المرحلة الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية المعتدلة يبقى مجزوءاً وقليل الفاعلية، ولكن من جانب آخر يرى هذا البعض من النقاد أنه من الخطأ الفادح قيام الائتلاف على أساس من الصيغ التوليفية أو التلفيقية غير المتوازنة. وبعض النقاد الآخرين اعتبر الفقرة التي تتكلم عن الإسلام كثقافة أبرز وعن ثقافات أخرى أقل بروزاً أنها على تناقض مع معظم بنود الإعلان التي تتكلم عن النظام الديمقراطي. ويعتبرون أن هذا الكلام في كل الأحوال ليس مكانه في هذا الإعلان الائتلافي الذي يتعلق مدى تأثيره وفعاليته بتوسع دوائره في كل أنحاء المجتمع السوري المتعدد الانتماءات والأديان والثقافات.

على أية حال كل نقد جدي لوثيقة إعلان دمشق، يكون همه إغناؤها وتجسيدها كأداة ائتلاف عريض فاعل في الساحة السورية يمتلك كل المشروعية والصدقية والتصميم على الانخراط فيه؛ وكما جاء في التوضيحات المرفقة: "ليس هذا الإعلان نهاية المطاف في العمل الوطني المشترك".

"العدد 47 من نشرة الرأي"