من أجل اغناء اعلان دمشق وتطويره
رجاء الناصر
ملاحظات أولية لابد
منها احدى النقاط المتميزة في " اعلان
دمشق " أنه فتح السبيل لتطويره وتعديله عبر الحوار
ولم يعتبر ما ورد فيه القول الفصل ونهاية الطريق .
وانطلاقا من هذا الموقف أي السعي للتطوير عبر
الحوار أسجل مجموعة من الملاحظات الأساسية رغبة في
تفعيله ، حتى يكون أكثر قبولاً من التيار الشعبي
العريض ولا يبقى أسير " نخبة " من العاملين في
الشأن العام . الملاحظة الأولى : أن الاعلان
تجاهل ما يحيط بسورية من أزمات ومخاطر خارجية وقصر
رؤيته على الأزمات الداخلية وتحديداً على أزمة
غياب الديمقراطية ، وانسداد آفاق التغيير ، رغم أن
سورية تتعرض لهجمة أمريكية صهيونية تستهدف هويتها
القومية وهي هجمة عنيفة تستهدف الأمة العربية كلها
، وما يجري من حول سورية ، سواء في العراق و
فلسطين ولبنان لا يمكن عزل تأثيره عن سورية ، بل
هو يشكل حلقة من حلقات المخطط الواسع للمنطقة .
إن تجاهل هذه المخاطر وتصوير أن كل
الأزمات تحل عبر الدعوة للتغيير الديمقراطي ، خطأ
فادح لا يمكن تصوره ، وهو يؤدي إلى نتائج شديدة
السلبية ، مثل مساندة المخطط المعادي عن طريق
التخلي عن مهام مساندة القوى المناهضة والمقاومة
للعدوان والهيمنة الامريكية – الصهيونية وبالتالي
تلبية المطالب الامريكية في التحول الى قوى مساندة
من حيث النتيجة للعدوان ذاته . وهو ما يتعارض بقوة
مع المصالح الاستراتيجية العليا للأمة ولسورية .
الملاحظة الثانية : أن هناك
تناقضاً واضحاً في تفاصيل " الاعلان " فهو من حيث
المبدأ يشدد على إقامة الدولة الوطنية ويرى في
المواطنة أساس العقد الاجتماعي في بناء الدولة ،
حيث المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق
والواجبات ، ولكننا نجده في التفاصيل ، يقف مراراً
عند مكونات الدولة السورية . اثنية وطائفية
ومذهبية وعشائرية ، ويدعو لحرية العمل السياسي
لجميع تلك المكونات ، وهو ما يوحي بالقبول بالنشاط
السياسي على أساس الخلفيات المذهبية والأثنية ،
وهو ما يتعارض بشدة مع الدولة الوطنية التي تتجاوز
تلك الانقسامات " ما قبل الأمة " وما قبل " الوطن
" . ومما يزيد من خطورة هذا التوجه أن هناك من
يغذي تلك الانقسامات ويعمل على تأطيرها سياسياً
وتقسيم الدولة القطرية ، وفق تلك الانقسامات .
ولعل ما يجري في العراق من بعث للانقسامات
المذهبية والاثنية والعمل على تشكيل كانتونات داخل
الدولة على تلك القاعدة مؤشراً لخطورة القبول باسم
الواقعية للعمل السياسي على خلفيات مذهبية وطائفية
ومناطقية وأثنية . الملاحظة الثالثة : تشويه الهوية
الوطنية لسورية ، حيث شهدت سورية توافقاً منذ عهود
الاستقلال الأولى عن هويتها العربية وأنها جزء لا
يتجزأ من الأمة العربية ، وهي تسعى لتحقيق الوحدة
العربية . هذه الهوية التي يجري اليوم تحويرها
لتكون مجرد ارتباط بـ " منظومة عربية " وهو مصطلح
مشتق من منظومات دولية تجتمع بالنطق أو استخدام
لغة رسمية موحدة ، " مثل" المنظومة الفرانكفونية "
أو " الكومونويلث " أو تجتمع على هوية سياسية مثل
" منظومة الدول الاشتراكية " في العهد السوفياتي .
أو على قاعدة الجغرافيا ، مثل " منظومة دول أمريكا
اللاتينية " . ان الهوية القومية الواضحة تحدد
طبيعة الالتزامات وطبيعة الدور الذي تضطلع به
الدولة في أمتها . أما تلك الهوية الملتبسة فهي
تساعد على التباس الأدوار ، فيسمح باعتبار مساندة
المقاومة العراقية أو الفلسطينية تدخلاً في الشؤون
الداخلية لهاتين الدولتين ، كما يسمح برفع شعار
السيادة القطرية بمواجهة المصالح القومية العليا ،
ومتطلبات الأمن العربي المشترك . الملاحظة الرابعة : غياب الموقف
الاجتماعي ، فالتغيير أي تغيير يحتاج إلى حامل
اجتماعي وإلى قوى اجتماعية معينة صاحبة مصلحة في
التغيير ، وفي سورية فإن القوى الاساسية التي تشكل
حاضنة التغيير الديمقراطي وقواه هي الطبقات
المنتجة والعاملة والفقيرة ، وهي عندما تطرح مطلب
الديمقراطية فلأنها تجد فيها طريقاً إلى تحقيق
أهدافها ومصالحها ، وهي بالقطع لا يجوز أن تستخدم
كمجرد رافعة لتمكين قوى اقتصادية مترفة من زيادة
ترفها وغناها وفسادها ، من هنا فإن إغفال الاعلان
لأهمية المطلب الاجتماعي والاقتصادي للأغلبية
الشعبية في محاربة الفساد وتحسين أوضاعها المعيشية
، والتزام الدولة الوطنية الديمقراطية بضمان أمنها
الاقتصادي والاجتماعي . يصبح أمراً خطيراً لأنه
يجعل من التغيير أداة لزيادة نفوذ قوى الليبرالية
الجديدة الملتحقة بالعولمة المتوحشة . الملاحظة الأخيرة : إن الحديث عن
الاسلام وعن كونه دين ومعتقد الاكثرية يبدو وكأنه
وضع حشراً وخصوصاً أن تلك الصيغة تقسم المجتمع إلى
أغلبية وأقلية على أسس دينية ومذهبية ، بينما
سورية والوطن العربي كانت مهبط ديانات السماء وهي
تشترك في حضارة وثقافة عربية واسلامية ومسيحية
شرقية صنعتها عبر الاجيال . وهي ثقافة توحيدية
تحتوي انعتاقاً نحو العقلانية والحرية والتجدد حيث
تتبدل الأحكام بتبدل الزمان ، وحيث الشريعة مرتبطة
بالضرورة بالمصلحة العامة وقواعد العدل . إن هذه الالتباسات في الهوية وفي
الموقف من التحديات والمخاطر الخارجية وفي المسألة
الاجتماعية وغيرها تفسر الأسباب الكامنة وراء
تأييد بعض القوى والشخصيات المرتبطة بالفساد أو
بالمخطط الخارجي ( الأمريكي – والغربي ) للاعلان .
وهو تأييد لا يصبّ في صالح " الاعلان " وإنما على
العكس يسيء إليه ، بينما وضوح تلك المسائل يحدد
تماماً التخوم بين القوى الوطنية الديمقراطية وبين
ما عداها . وهو تحديد لا بد منه من أجل خوض صراع
ناجح وتكون نتائجه في خدمة أغلبية المواطنين. nasser46@gawab.com