الثورة الفلسطينية: الفصل الثاني
جوزف سماحة
السفير
قال الشعب الفلسطيني في الأرض
المحتلة كلمته. قالها في يوم انتخابي هادئ ونموذجي انتهى إلى ما
يمكننا اعتباره، بحق، أول تداول سلمي للسلطة بهذه الجذرية في
تاريخنا العربي. سنعيش مع هذه المحطة الفاصلة لسنوات قادمة.
وسيكون في وسعنا لاحقاً أن نرى ما إذا كنا أمام حشرجة تواكب
تراجعنا أم أمام بداية موجة ارتدادية تصد عن المنطقة غائلة عدوان
مهين يزداد همجية بمقدار ما يلحظ وهناً في مقاومته. هذه دفعة
أولى من الملاحظات حول الدرس الذي لقننا إياه شعبنا
الفلسطيني.
؟ لقد حققت حركة <<حماس>> فوزاً يفوق
توقعاتها وتقديرات الجميع. إنه نوع من الفوز الذي يُقال فيه إنه
لو كان أقل لكان أفضل. لقد كان مستحسناً، ربما، أن تتقدم
<<فتح>> وأن تشكل <<حماس>> قوة ضغط
اعتراضية جدية. لكن الناخب أراد غير ذلك وفضّل القطع على
التدرّج. لقد ارتمت السلطة بين يدي <<حماس>> فارضة
عليها تعايشات قد تكون صعبة مع الرئيس المنتخب محمود عباس، ومع
الإدارة الفتحاوية، ومع أجهزة الأمن. كما بات على الحركة أن
تبادر بسرعة إلى اقتراح تصورها لإعادة هيكلة منظمة التحرير
وإعادة صوغ العلاقات المتقطعة بين <<الداخل>>
و<<الخارج>>.
؟ الفوز الذي يفوق التوقعات هو فوز
في سياق. من أجل أن نفهمه علينا أن نستحضر السياسة الإسرائيلية
الأميركية حيال ياسر عرفات وحيال الشعب الخاضع للاحتلال وحيال
محمود عباس نفسه. لقد استمرت هذه السياسة، بعد أن انضمت إليها
أوروبا، حتى قبل ساعات من الاقتراع حين هُدّد الفلسطينيون
بالتجويع في حال مارسوا حرياتهم. إلا أن مسؤولية خاصة تقع على
عاتق <<فتح>>. لقد <<نجحت>> هذه الحركة
الرائدة في أن تجمع المساوئ: فساد، فوضى أمنية، سوء إدارة، إسقاط
ثنائية الاحتلال المقاومة. ويمكن للمرء أن يتخيّل ما كانت ستكون
النتائج لولا مروان البرغوثي، وكتائب الأقصى، وإبعاد المترهلين
عن تصدر اللائحة. إن حركة لا ينقذها مروان البرغوثي هي حركة في
أزمة كبرى ولا خيار لها لإنقاذ نفسها إلا بالعودة إلى تلك
الوطنية الواقعية التي ميّزتها.
؟ أوضح الشعب الفلسطيني أنه
يملك مخزوناً نضالياً يكمّ الأفواه التي بنت استراتيجيتها على
أساس أنه شعب منهك يفترض إنقاذه قبل أن يستسلم ولكنها في الواقع
انصرفت إلى الانفصال الوجداني والاجتماعي عنه. لقد تعاطى
فلسطينيون وعرب، بضغط عالمي، مع الانحياز الإسرائيلي إلى اليمين
وكأنه قدر لا راد له. لا بل خرج مَن يزعم أن إسرائيل تجنح إلى
السلام كلما كانت أقوى. رفض الفلسطينيون هذه المقولة لأن تجربتهم
التاريخية تقول عكس ذلك وعبّروا عن رفضهم عبر صناديق
الاقتراع.
؟ تستطيع <<حماس>>، اليوم، أن تملك ترف
الدعوة إلى <<الوحدة الوطنية>>. الرد
<<الفتحاوي>> الأول محكوم بالمرارة إلا أنه لا يفعل
سوى تدعيم النتائج. إن هذا هو الحل الأفضل للفلسطينيين وإلا
سيكون على الفائز أن يتحمّل تبعات فوزه مستفيداً من تجربة في
إدارة مؤسساته ومن خبرته في البلديات.
؟ ستكون
<<حماس>> مضطرة إلى رفع منسوب الواقعية لديها. لقد
استلمت مسؤوليات حكم ذاتي على تماس يومي مع الاحتلال وثمة عالم
من التفاصيل اليومية الذي يفرض الاحتكاك. ولا بد لذلك من أن يترك
أثره على صياغتها لمشروعها الوطني العام بدءاً ببت مصير الهدنة
وصولاً إلى مرحلية الحل.
؟ ستتدخل نتائج الانتخابات
الفلسطينية في مسار الانتخابات الإسرائيلية. وسيتعزز، على
الأرجح، منطق الحلول المفروضة من جانب واحد وعلى حساب التفاوض
و<<خريطة الطريق>> و... <<تفكيك المنظمات
الإرهابية>>. وليس مستبعداً أن يدعو بعض الغلاة إلى تصعيد
العنف. إلا أن الوضع الناشئ في الأرض المحتلة سيجعل
<<الانفراد>> هروباً إلى الأمام. إن مَن كان يشك في
أن الصراع مفتوح عليه أن يتأكد من ذلك.
؟ لانتصار
<<حماس>> آثاره المباشرة على الوضع العربي المحيط.
على مصر المعنية بالصراع والمتدخلة في <<حل غزة>>.
على الأردن حيث يفترض بالمملكة أن تعيد النظر في الكثير من
حساباتها في ظل وجود حركة إسلامية قوية لديها. على سوريا التي
ستعتبر أن ثغرة فُتحت في جدار الحصار. على لبنان حيث السؤال
الفلسطيني مطروح بقوة وحيث يأتي التحوّل ليضيف قوة إلى موقف
<<حزب الله>> والمقاومة.
؟ سيضع الانتصار دولاً
عربية أخرى أمام مسؤوليات جديدة وخيارات صعبة. إن دعمها للسلطة
قد يتهم بأنه دعم للإرهاب. وسيكون عليها أن توازن بين علاقتها
بالقضية الفلسطينية، في صيغتها الناشئة، وبين علاقاتها مع الدول
الغربية.
؟ يؤدي الانتصار إلى إرباك المجتمع الدولي. ستظهر
تباينات داخل أوروبا وبينها وبين الولايات المتحدة. ولكن يجب أن
يكون مفهوماً هنا أن العلاقة مع الأوروبيين محكومة بهموم
إسرائيلية أولاً وبالدرجة الأساسية. لن يكون الانسحاب سهلاً. ومن
المقدّر حصول مناورات كثيرة تحت عنوان مطالبة
<<حماس>> بتعديل استراتيجيتها وتغيير أهدافها. سيعود
تعريف <<الإرهاب>> ليكون مطروحاً بقوة على جدول
الأعمال.
؟ يوجه انتصار <<حماس>> ضربة قاسية إلى
خرافة <<الهلال الشيعي>>. ثمة <<هلال
ممانعة>> لكل طرف فيه توجهاته المحلية الخاصة. إن إضافة
البُعد الفلسطيني إلى محور الممانعة حدث استثنائي بالمعايير
كلها. فبرغم كل ما يُقال فإن الوهج الرمزي للقضية الفلسطينية
يطال العالمين العربي والإسلامي، ومن يقبض على هذا الوهج يتحوّل،
مباشرة، إلى قوة ذات امتداد إقليمي ودولي لا يستهان به.
؟
يكشف الانتصار جوهر التناقض في مشروع جورج بوش الزاعم نشر
الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير. لا تفعل الديموقراطية سوى
توفير قاعدة شعبية شرعية للاعتراض على السياسة الأميركية وذلك في
بلدان عربية وإسلامية عديدة وكذلك في بلدان أميركا اللاتينية. إن
واشنطن أمام مشكلة في احترام إرادة الشعوب أو في رفضها. إن
الإصابة في القلب: ليست الديموقراطية بديلاً للوطنية، إنها أداة
من أدوات تحقيقها. إن للتطلب الوطني والتحرري أولوية. إن ركام
التنظيرات والخزعبلات سينهار. لقد اهتز في العراق وجعلته فلسطين
حطاماً. هاتوا ديموقراطية وخذوا مقاومة! لقد اقتربت المنطقة أمس
خطوة مهمة من توفير الأرضية اللازمة لمنع المشروع الأميركي من
هزيمتها.
؟ تقدم <<حماس>> يؤكد اتجاهاً عاماً:
<<أسلمة>> القضية الوطنية. قد يحب البعض ذلك وقد لا
يحبه. إلا أن هذا هو الواقع. إن من لا يدرك المعاني العميقة
لخسارة <<فتح>>، إحدى أبرز حركات التحرر الوطني
الشعبية في التاريخ المعاصر، إن من لا يدرك ذلك يوحي أنه يعيش
خارج المنطقة ومزاجها ومتاعبها ورغباتها وإرادتها في عدم
الانكسار واستعداد شعوبها للدفاع عن النفس بأي لغة متاحة.
؟
لقد اعتقد العالم الغربي، نخبه الحاكمة على الأقل، أن إضعاف
الحركة الوطنية والشعور القومي يفتح الطريق أمام التيار
الليبرالي الالتحاقي. ها هي البدائل الإسلامية تملأ الفراغ
وتستعد لتتحكّم بمرحلة تاريخية مديدة نافية إلى الهامش الإرهاب
العدمي ومعه التبعية التي لا تقل عدمية.
إن هذه الدفعة الأولى
من الملاحظات لا تختزل إطلاقاً ما يمكن أن يقال في هذه الانعطافة
المهمة. إن الإحاطة بالمعطى الطارئ صعبة وخاصة أنه خاضع لتجاذبات
لا حصر لها. إلا أن الإحاطة قد تكون عمل الغد. يمكن الاكتفاء،
اليوم، بتسجيل الإنجاز الديموقراطي الفلسطيني وبالانحناء أمامه،
وبالتمني على <<حماس>> أن تكون على مستوى تطلعات
شعبها وشعوب المنطقة.