سبل نجاح حوار الثقافات في عالم متغيّر
(1-2)
عبد الله تركماني
تظل الثقافة، تبعاً لحركيتها، مفتوحة التعريف، ذات مكوّنات متغيّرة، محكومة بالتطور. فلم يعد أي من المجتمعات الإنسانية رهين ثقافته الخاصة، ومن ثم لم يعد سلوك هذه المجتمعات، أو تفكيرها الجماعي، هما النتاج الطبيعي والضروري لثقافتها الوطنية فحسب. إذ أنّ العالم غني بثقافات القارات الخمس، ومضطر إلى صياغة قواعد لتعايشها وانسجامها، ويحمل في ذاته القدرة على مواجهة تحديات تاريخه الكبرى.
فبدلاً من المزاعم الخرقاء عن صراعات الثقافات المعاصرة، ينبغي التحرك للكشف عن المضامين المشتركة الكامنة في أغلب ثقافات الجنس البشري، والتي تنشد حرية الإنسان وانتصاره المتلاحق على اختناقات الضرورات المختلفة. ففي عالم تكتنفه تحوّلات عميقة تبقى التساؤلات الجديرة بالاهتمام: كيف نفكر في تواصل التاريخ الإنساني وفي المحافظة على حلم البشرية بحياة أفضل لأكبر عدد ممكن من الناس؟ وهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالثقافات المتنوعة؟
ولعل منبع الإشكال راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار توحّد البشرية واقتران مصائر أبنائها عبر آليتي توحّد الأنظمة الاتصالية وتوحّد الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية من جهة أخرى.
إنّ البحث في العلاقات التاريخية بين الحضارات الكبرى يؤكد أنها تتميز بالانفتاح والتواصل وليس بالصدام والتنافر. وما زلنا نذكر دهشة المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي تجاه الوجود الفرنسي القادم مع نابليون بونابرت في حملته على مصر منذ أكثر من مائتي عام، وكيف أصابت المؤرخ المسلم صدمة حضارية واضحة، ولكنه لم يكن رافضاً لثقافة الفرنسيس بل كان مقارنا فقط بينها وبين التقاليد المصرية التي كان يعيش بها ويعبر عنها. كما أنّ رفاعة رافع الطهطاوي - رجل الدين الأزهري - قد عاد من باريس في الربع الثاني من القرن التاسع عشر لكي يكتب بشيء من الانبهار عن الحضارة الغربية والحياة الفرنسية، وينقل عنها كتبه الشهيرة من دون أن تقف أمامه جدران الكراهية أو حواجز التعصب. بل إنّ الإمام محمد عبده - المصلح الديني والاجتماعي - هو الذي قال يوماً إنه قد ترك في بلاده مسلمين بغير إسلام ووجد في فرنسا إسلاماً بغير مسلمين! لكي يدلل عن ارتياحه للأخلاق الغربية في جانبها الإيجابي الذي يتمثل في الصدق مع الذات والبعد عن الكذب والرياء وكأنها تطبيق لتعاليم الإسلام الحقيقية.
وعلى أساس هذا التواصل التاريخي لثقافات العالم، فإنّ السؤال الجوهري اليوم هو: إلى أية مبادئ سوف يستند الحوار الثقافي اليوم؟ وما هي السبل لنجاح هذا الحوار؟
1 - في عالم تتحول فيه الحدود السياسية للدول إلى مناطق سلام وتبادل المصالح وتتداخل فيه الثقافات الوطنية، يستوجب الحديث عن واقع التعددية الثقافية وانعكاساته سياسياً ووطنياً؛ التوقف أمام الأمور الثلاثة الآتية:
أ - تحوّل القضايا الداخلية الوطنية (مثل حقوق الأقليات، وحتى الأفراد، وحرية العبادة وسواها) إلى قضايا خارجية عالمية. وكذلك تحوّل القضايا العالمية (مثل السلام والتنمية وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات والخدمات وتبادل السلع) إلى قضايا داخلية تمس صميم الاقتصاد الوطني والأمن الاجتماعي.
ب - القرار الوطني في دولة ما لم يعد ملكاً لأصحابه فقط، ولكنّ عملية اتخاذه باتت جزءاً من عملية أوسع تلعب فيها عناصر ما وراء الحدود الوطنية دوراً أساسياً. وتالياً فإنّ الممثلين المنتخبين المكلفين بإدارة أمور دولة ما، أصبحوا رهينة نظام عالمي له حساباته ومصالحه وقوانينه الخاصة التي لا تلتقي بالضرورة مع المحلي - الوطني منها، بل التي كثيرا ما تتناقض معها أيضاً.
ج - انحسار فرص المحافظة على التنوّع الثقافي وتآكل المساحات الوطنية التي توفر لهذا التنوّع قوة استمراره. إنّ الشعور بالاختناق الذي بدأت تعاني منه ثقافات متعددة يعود إلى هيمنة ثقافة واحدة على العالم ومحاولة فرض قيمها واعتماد هذه القيم مقياساً للتخلف أو للتحضر.
2 - إنّ الدعوة المطروحة تحت عنوان "حوار الثقافات" تظل بحاجة إلى عنوان جوهري آخر يسبق هذا المفهوم للمسألة الفكرية التاريخية المطروحة، ألا وهو الاتفاق أولاً على تأسيس وتكريس "ثقافة الحوار" المنطلقة من مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أي الإقرار بأسس المساواة بين المتحاورين، والانطلاق من قاعدة أننا جميعاً "جيران في عالم واحد". وبالتالي فإنّ المتحاورين لهم الحق، كل الحق، في سعيهم نحو تحقيق الحرية والحياة الكريمة، والتمتع بقيم العدالة والتكافل الإنساني، عبر النهوض الذاتي المستقل عن الوصاية والهيمنة والاستعلاء الخارجي.
إنّ الحوار الذي يخدم التفاهم بين الشعوب والاعتراف بالآخر، سياسياً وثقافياً، لا يمكن أن يكون إلا حواراً حضارياً يتخذ من المقاربة التاريخية الثقافية منهجاً ونبراساً.
3 – تستمد الدعوة إلى "ثقافة اللاعنف" أهميتها في أنّ الدعوة لحوار الثقافات حيناً، وحوار الحضارات والأديان أحياناً أخرى، أصبحت تمثل القاسم المشترك بين الكثير من المثقفين ورجال السياسة والدين والمفكرين، ليس في العالم العربي فقط، بل في العالم كله أيضاً. وهي لم تعد ترفاً فكرياً، بل أصبحت ضرورة مصيرية، ومقدمة لإنهاء دورات العنف المغلقة المهلكة، وفتح طريق التطور السلمي والتحول الديمقراطي.
ولا يمكن لمثل هذه الثقافة أن تنتشر وتتوطد من دون بذل جهود معتبرة في بنى مجتمعاتنا لإقامتها على أنقاض ثقافة العنف، من البيت، إلى المدرسة، إلى الأحزاب السياسية والفعاليات الفكرية، إلى الدولة بجميع مؤسساتها. فلم تعد أوطاننا تتحمل دورات جديدة من العنف الأعمى، هنا وهناك، لا تحصد منها غير الكوارث.
والمهم في ذلك هو بداية اقتناع قطاعات كبيرة في الغرب بضرورة النظر إلى كل ثقافة في ضوء معاييرها الذاتية والتخلّي عن موقف الاستعلاء من الثقافات الأخرى، إذ أنّ لكل ثقافة مقوّماتها وخصائصها وإمكاناتها التي تستحق الاحترام، وأنّ كرامة كل الثقافات متساوية.
4 - إنّ حوار الثقافات هو مشروع حياة البشرية ومستقبلها، والمنهج الذي يدفع الشعوب إلى أن تتعاطى مع بعضها بالأسلوب الإنساني الرفيع القائم على أساس التعارف لا الخصام. وهو حتماً بديل عن وسائل العنف والقوة، فليس هناك من وجه مقارنة أو مقاربة بين حوار السلاح وحوار العقول. هو مشروع طويل الأمد، ينطوي على مسؤولية الكلمة.
وليس هناك حوار حقيقي للثقافات، إذا لم يقم علي أساس النقد المزدوج: نقد الذات وتفكيك خطاب الآخر. والواقع أنّ ممارسة النقد الذاتي فضيلة غربية أساساً، إذ أنّ أحد أسباب التقدم الغربي هو الممارسة المنهجية للنقد الذاتي في المجتمعات الغربية، وهذا النقد الذاتي يقوم به في بعض الأحيان أعضاء النخب السياسية الحاكمة إذا قصّروا أو أخطأوا في عملية صنع القرار، وكذلك المثقفون والكتاب والمفكرون، الذين يراجعون مواقفهم وفقاً للأحداث الكبرى العالمية والإقليمية والمحلية، أو إذا ما اتجهوا إلى تغيير وجهة مشروعاتهم الفكرية، نتيجة للتطور الذاتي للمثقف أو كانعكاس لتغيّرات الظروف المحيطة به.
إنّ الحوار الحقيقي يتطلب مجموعة من العناصر أهمها قبول أطراف الحوار بالاختلاف وإدراكهم أنّ للحوار مستويين: أولهما، داخلي ضمن الحضارة الواحدة للوصول إلى معالم الخطاب المعتمد. وثانيهما، خارجي موجه إلى الأطراف الأخرى. وكلاهما متعدد الأبعاد، فالغرب ليس كتلة واحدة وكذلك الشرق، وهذا يتطلب الاقتناع بضرورة سعي كل طرف لرصد وفهم خطاب الطرف الآخر مؤكداً أنّ الثقافات تقوم على الإبداع وتختلف مساراتها باختلاف الشعوب التي أنتجتها.
وهكذا، ليس هناك من حوار في ظل الهيمنة. فالهيمنة لا تنتج حواراً لأنها نقيضه، وتسعى إلى تعميم مفاهيمها وفرضها بأشكالها المختلفة: السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. وكلما رُفض الآخر من خلال إهدار حقوقه الأساسية والسعي إلى السيطرة عليه وعلى مقوّمات وجوده أو اختصاره من خلال قرارات وإجراءات تحد من ممارسة حقوقه، كلما اتجهت المعالجات في اتجاه الحلول الأمنية أو العسكرية، والسيطرة من خلال القوة والقمع.
5 - الحوار يفترض وجود حد أدنى من المرجعية المشتركة، ولا يقوم إلا على الدفاع عن قيم جماعية. والقيم التي تشكل مرجعية هذا الحوار وحافزه ليست - اليوم - شيئاً آخر سوى القيم التي عممتها الحضارة الحديثة وعمقت مفاهيمها، إنها قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع البشر شعوباً وأفراداً على حد سواء. وهذا يعني أنّ الحوار لا يدور في إطار الخصوصيات القومية أو الثقافية، ولكن في إطار المشتركات الإنسانية، أي القواعد والمعايير والقيم التي يقبل الجميع النظر إليها باعتبارها قاسماً مشتركاً مقبولاً من جميع أو اغلب المجتمعات البشرية.
وكما هو شأن التعاون الثقافي الدولي، فإنّ على الحوار، بوجه عام، أن يبرز الأفكار والقيم التي من شأنها توفير مناخ صداقة وسلام، وأن يستبعد جميع مظاهر العداء في المواقف وفي التعبير عن الآراء، على أن يتوخى الحوار أيضاً النفع المتبادل لجميع الأمم التي تمارسه، ويسعى في جهد مشترك مع الأطراف جميعاً للقيام بعملية حضارية كبرى، هي تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسود المجتمعات وتعيق مسيرة التعاون والتقارب والتفاهم والحوار. وهكذا يفتح الحوار المجال واسعاً أمام تفاهم المجتمعات، ويساهم في تلاقح الثقافات، وهو ما نصطلح عليه هنا بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون الدولي على مواجهة تحديات العصر ومشاكله والسعي لحلها.
6 - إنّ حوار الشعوب والثقافات يحمل في طياته متطلبات وطموحات أخرى، فهو يفترض احترام الآخر، ووعياً للذات واحترامها في آن واحد. واحترام الآخر يعني في الدرجة الأولى معرفته، كي لا يتم إدراكه كآخر في شكل جذري، من دون أي تمييز ممكن. كما يعني في الدرجة الثانية، الإصغاء إليه، والعمل معه، وعدم اتخاذ القرارات بدلاً عنه. وفي الدرجة الثالثة، اعتبار الآخر ليس نقيضاً، الأمر الأكثر بداهة والأكثر صعوبة في آن واحد. وفي الدرجة الرابعة، يجب أن يدار حوار الثقافات بتبصر وتواضع، لأنّ عدوه الاسوأ هو العجرفة. إذ أنّ كل حضارة وكل شعب يمكنهما، ويجب أن يكونا فخورين بما حققاه وقدماه للعالم. لهذا السبب يجب على كل ثقافة أن تطبق على نفسها عمل نقد ذاتي: إنها واجب كل ثقافة، وكل مجتمع، وكل دين. وفي هذا المجال الأساسي الذي هو مجال الطريقة التي ننظر بواسطتها إلى أنفسنا، ثمة الكثير الذي لم يتحقق حتى الآن.
هناك خطوات أساسية لا بد من مراعاتها لتحقيق احترام متبادل ومتكافئ بين أطراف الحوار، وتتمثل هذه الخطوات فيما يلي:
أ - ضرورة تعرّف كل طرف على الطرف الآخر، على آرائه وأفكاره ومعتقداته وأسلوب تعامله، وبصفة عامة على ثقافته.
ب - إنّ التعرّف على الآخرين لن يكون مكتملاً ومؤدياً للغرض المقصود، إلا إذا كان كل طرف على استعداد تام للاعتراف بحق كل مخلوق بشري في الكرامة الإنسانية، بصرف النظر عن أية اختلافات أخرى تتصل بالجنس أو اللون أو أي اعتبار آخر .. وإدراك هذا المعنى علي حقيقته يؤدي إلي تجنب الميل نحو النزعات الاستعلائية أو عقد التفوق العرقي أو الحضاري التي من شأنها أن تقضي علي أية فرصة لأي حوار بنّاء. ولاشك في أنّ التعرف على الآخر من منطلق الإقرار بما له من كرامة إنسانية سيؤدي بدوره إلى احترام الآخر.
ج - يرتبط احترام الآخر بشكل أساسي باحترام الذات، فاحترام الذات من شأنه أن ينعكس بشكل إيجابي على النظرة إلى الآخر باحترام، وعلى أساس من احترام الذات يدرك المرء أنّ الآخر مساوٍ له، وهذا الاعتراف بالمساواة يعني الاعتراف للآخر بنفس الحقوق التي يطلبها الإنسان لذاته، وعلى ذلك تتأسس قيمة الاحترام المتبادل بين الناس.
د - إن التعرف الحقيقي على الآخر وعلى ثقافته، علي النحو المشار إليه أعلاه، من شأنه أن يؤدي إلى تأكيد قيمة التسامح الإيجابي إزاء الآخرين، وليس مجرد التسامح الحيادي. وهذا يعني الإقرار بالتعددية الثقافية، ويعني أيضاً احترام حضارة الآخر وثقافته مهما يكن مستواه من الرقي المادي، لأنّ احترام الآخر والتعرّف عليه من شأنه أن يؤدي إلى تفهم كل الظروف المحيطة به، ومن شأنه كذلك أن يقضي على الكثير من الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة لدى أطراف الحوار.
7 - حتى يتسنى تحقيق إنسانيتنا المشتركة، نحن بحاجة إلى المزيد من التبادل والتعامل، ومزيد من الفرص للسفر والتعارف بين الشعوب. وهناك حاجة لمزيد من التعاون بين المؤسسات التعليمية، وتنقّل الفنانين والمثقفين والعلماء والقيادات المحلية والطلبة عبر الحدود في جميع الاتجاهات، ليتسنى لهم إقامة حوارات وتفاعل مباشر واحترام متبادل وفهم أفضل للحقائق.
خاصة وأنّ البشرية تواجه اليوم خيارات مختلفة: إما إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم تحت شعار النظام العالمي الجديد، أو خلق نظام ما بعد الهيمنة والذي سيستمد مضمونه من البحث عن أرضية مشتركة بين التقاليد المكوّنة للحضارة الإنسانية، وتتمثل هذه الأرضية المشتركة بـ:
أ- الاعتراف المتبادل بالتقاليد المميّزة للثقافات الإنسانية المتعددة.
ب- تجاوز نقطة الاعتراف المتبادل والاتجاه نحو تقبّل التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التقاليد الحضارية.