سورية
والممر الإجباري!!
أكرم البني
يصح القول إن سورية تعيش اليوم نهاية حقبة طويلة من التفاهم
والتسليم العالميين بدورها الإقليمي، وأن ثمة مرحلة جديدة بدأت عنوانها تفكيك آليات
الصراع القديمة وقلب قواعد لعبة سادت لعقود في منطقة المشرق العربي، والتي كان
يفترض أن تتهاوى منذ زمن طويل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة،
إلا أن اختيار السلطة السورية الانضواء تحت راية الولايات المتحدة ضمن التحالف
الدولي المناهض لصدام حسين في حرب الخليج الثانية مد من أنفاس هذه القواعد حتى
الآن.
وبالتالي ترتبط قراءة المجرى أو المسار أمام الحالة السورية مع فهم
جديد السياسة الأمريكية، هل ترمي الى إحكام العزلة والحصار على النظام تمهيداً
لإسقاطه، أم تقف عند حدود إجباره على إنجاز تغييرات في البنية السياسية السورية
وتفكيك بعض وجوه السيطرة الشمولية في علاقة السلطة مع المجتمع، أم تكتفي بما درجت
عليه في ممارسة الابتزاز فقط لإخضاع السلطة القائمة للمطالب الأمريكية وتحوير دورها
الإقليمي بما يخدم مخططاتها، وبمعنى آخر هل يحتمل أن تحمل السياسة الأمريكية اليوم
موقفاً جذرياً جديداً من النخبة الحاكمة في سورية، أم الأمر هو استمرار لنهجها
البراغماتي في تمرير مصالحها، ربما بمبادلة العودة إلى صمتها عن الداخل السوري،
بتنازلات يقدمها الحكم في صيغ تعاون صريح وملموس لتعزيز سيطرتها في المنطقة!!
ربما لم يعد من المبكر القول إن العلاقات الأمريكية السورية تشهد
منعطفاً نوعياً، وأنها صارت من اجتهادات أيام زمان ربط تطور ضغوط واشنطن على دمشق
بالرغبة في تطويع سياسات النظام السوري، فما يميز التصعيد الأمريكي اليوم أنه يتم
في شروط وتطورات جديدة تعطيه معناً جديداً وأفقاً جديداً. ما شجع البعض على القول
إن السياسة الأمريكية تتخذ اليوم منعطفاً نوعياً عنوانه القطيعة والمواجهة والصدام
مع نظام البعث، ويرجح أنها قد وضعت نصب عينيها مهمة إطاحته أو تغيير بنيته تغييراً
جذرياً وتحاول بناء الشروط الكفيلة بتحقيق ذلك.
صحيح أنه قدرها أن وجدت سورية في منطقة حساسة من العالم أو بالتعبير
الأمريكي منطقة المصالح الحيوية
منطقة لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب قوة حضور المصالح الغربية
وتنامي الدور الصهيوني ومخاطره، لكن الصحيح أيضاً أنه لم يعد من المجدي التعاطي مع
هذه الخصوصية من خلال منطق تحوير الحقائق وطمس الوقائع أو من خلال حملات تعبئة
ساخنة، إيديولوجياً وسياسياً، لا طائل تحتها تستهتر بماهية الأخطار القادمة وتستخف
بحجم الخسائر والأضرار التي سوف تتكبدها البلاد ومستقبل أجيالها إن جرى إهمال
الجديد الحاصل ودفعت التطورات الى معركة غير متكافئة وغير مبررة سياسياً وشعبياً،
ناهيك عن أن مثل هذه العقلية جربت لعقود ولم تعط ثماراً وكانت النتائج ما وصلت إليه
حالنا اليوم ..!!
ومع أن السياسة السورية لم تفقد بعد كل أوراق قوتها، وهي مازالت
تملك ما يحلو للبعض أن يصفه بـالقدرة على التحرش والأذى، فمن الخطأ الاعتقاد أنها
قادرة على المواجهة والمقاومة طويلاً، خاصة مع وضوح المأزق الذي تعيشه اليوم، والذي
تجلى باندفاعات غير منطقية، وظواهر الارتباك والاضطراب التي تكشف على نحو فاضح عمق
اتساع الهوة بين ما تدعيه هذه السياسة وما تستطيعه، وبين ما تعلنه وما تضمره، والذي
أفضى الى انسحاب مذل للقوات السورية من لبنان، وخضوع عدد من المسؤولين الأمنيين
والسياسيين السوريين للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
إن السياسة السورية التي استمرأت طمر الرأس في الرمال، وتجاهلت
عامدة ربما- ما استجد من تطورات إقليمية وعالمية، صارت تحت المجهر، وصار استجرار
أساليبها القديمة للدفاع عن الوضع القائم أشبه بالعبث، خاصة وأنه لم تعد ثمة قيمة
تذكر في عالم اليوم للشعارات الأيديولوجية، والوصاية على المجتمع بذريعة الأهداف
الوطنية والقومية. وأيضاً، بات من الوهم الرهان على بناء محاور إقليمية وعالمية
للرد على ما يجري، فإيران غارقة في همومها وتعاني من حصار مشابه وربما لن يشكل بناء
محور مشترك بينهما أي فعالية استراتيجية تذكر، فيما تحكم المصالح الصريحة موقفي
روسيا والصين كما أنه ليس هناك أي أمل في تعريب الأزمة في ظل اهتراء النظام الرسمي
العربي وعجزه عن المبادرة أو الاتفاق على مهمات أبسط وأقل تعقيداً
ويمكن أن يضاف الى ما سبق حالة اللامبالاة والفتور في الأوساط
الشعبية السورية، وكأن دمشق
قلب العروبة النابض باتت تعرف جيداً الى أي حال أوصلتها الشعارات
الطنانة وخطابات ولى زمنها! والدليل هو النتائج الهزيلة التي حصدتها أبواق التعبئة
السياسية والقرارات الفوقية بتسيير التظاهرات، ومحاولات تجييش الناس ضد أميركا
وأنها وراء كل ما يجري. وفي المقابل، يبدو لافتاً شيوع رأي يجد أن الخطر الرئيس على
مستقبل البلاد هو استمرار ممانعة السلطة وإصرارها على أساليبها القديمة في إدارة
الأزمات، وتمسكها بالدفاع عن مصالح ضيقة على حساب مصالح الوطن ومستقبله، ما يعني
أنه يستحيل إخراج سورية من أتون الظروف العصيبة التي تعيشها دون التقدم صوب مهمة
إسعافية مزدوجة لم تعد تقبل أي تأخير أو تأجيل، وتتمثل في:
أولاً: المسارعة في طريق التغيير الديمقراطي والانفتاح على المجتمع
وقواه الحية، وفي هذا السياق، ثمة الكثير الذي يجب عمله لبناء عتبة من الثقة مع
الناس؛ برد المظالم الى أهلها، وتوخي الشفافية والوضوح والصراحة، والتوقف عن حجب ما
صارت حالنا إليه بمزايدات وطنية أو قومية.
إن نقل مركز الثقل صوب الداخل والسير قدماً نحو الانفتاح السياسي هو
أشبه بممر إجباري، فالنفع كل النفع يأتي، ليس من الإصرار على إدارة الأزمة بعقلية
الماضي ووضع البلاد في أتون مجازفة غير محسوبة النتائج وربما مدمرة، بل من إطلاق
عملية الإصلاح والتغيير الديمقراطي على مداها ليس بوصفها مطلباً طبيعياً ومشروعا
لكل مواطن كي يمارس حريته ويشارك في تقرير مصيره فحسب، وإنما أيضاً كونها ضرورة
حيوية للوطن ككل، تهيئ الشروط المناسبة لمساهمة الجميع في تقوية البنيان الداخلي
وتمكينه من مواجهة مختلف التحديات السياسية والاقتصادية، فشعور الإنسان بالحرية
والثقة بجدوى انتمائه لوطنه ما هو إلا صمام أمان التماسك الداخلي والقاعدة السليمة
لتفاعل كل القوى الاجتماعية والسياسية وتالياً لاستنهاضها واستقطابها في خدمة
الأهداف الوطنية العامة.
ثانياً: احترام قرارات الأمم المتحدة بصورة كاملة، والكف عن الترويج
لمغالطات تدمج الشرعية الدولية بالدور الأميركي وأغراضه. فالتحقيق في اغتيال
الحريري ليس جزءا من ضغوط مبيتة تقودها واشنطن ضد سياسات النظام السوري، بل قرار من
الشرعية الدولية يستوجب احترامه والامتثال لشروطه. فليس من مصلحة المجتمع السوري
مخالفة الشرعية الدولية أياً تكن الحجج والذرائع، ورغم معاناته من مثالبها وخاصة
لجهة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين؛ فقدر مجتمعنا الضعيف والمحاصر هو
الاستقواء بالأمم المتحدة وقراراتها، ليس لأنها البديل المرتجى بل لأنها الإطار
الأقل سوءاً وظلماً لحقوقنا، هذا جنباً الى جنب مع الكف عن دمج مسؤولية بعض رجالات
النظام بالدولة أو بالمجتمع السوري ككل؛ إذ ثمة مسافة يجب أن تؤخذ بوضوح بين النظام
وأفراد هم موضع اشتباه واتهام، وبين سورية كدولة وشعب، وهذا الأخير لا يتحمل، ويجب
أن لا يتحمل وزر أخطاء إذا ثبت أن ارتكبها بعض السياسيين أو المسؤولين الأمنيين
الذين هم المعنيون، أولاً وأخيراً، بالرد على مسار ونتائج التحقيقات عبر دلائل
وقرائن معاكسة تؤكد براءتهم مما جرى في الرابع عشر من شباط، وتالياً عدم التهرب من
المسؤولية حين تقتضي المصلحة الوطنية ذلك.
ما تعيشه سورية اليوم ليس أكثر من مرحلة انتقالية يتطلب الخروج
الصحي منها أولوية التجاوب مع حاجات التحول الديمقراطي والانفتاح على الناس، بما في
ذلك صياغة علاقة ديمقراطية متكافئة مع الوضع اللبناني شعبياً وسياسياً والعمل على
تحسين صورة البلاد عالمياً على صعيد الحريات واحترام حقوق الإنسان، بينما الإصرار
على تجاهل ما استجد والاستمرار في إدارة الأزمة بحسابات المصالح الخاصة وبعقلية
الماضي ومناوراته يدفع الأمور إلى الأسوأ وربما نحو حافة الهاوية
هذا المقال كان بمثابة اجابة عن محور طرحه موقع المشهد السوري على
العديد من الكتاب والمهتمين في سورية، وكان السؤال المطروح هو التالي:
بعد تراجع المشاريع القومية العربية والأممية، و بدء ظهور فكر
وأحزاب في سوريا تستند الى شعار سورية أولا بعيدا عن المشروعيات التقليدية، ترافق
ذلك مع صعود واضح للتيارات الاسلامية والكردية ، وسط تسارع المتغيرات الداخلية
والدولية، و اعادة صياغة المنطقة في اطار الدول الوظيفية ؛
نتوجه لكم بالسؤال عن المسار الذي ستتخذه سوريا، وما يمكن ان تؤول
اليه في المستوى الداخلي، وفي مستوى علاقاتها الاقليمية والدولية؟
خاص بالمشهد السوري
ونحن في صفحات سورية اذ نستنكر حجب موقع المشهد السوري وحجب مواقع
أخرى نقوم باعادة نشر هذا المقال كنوع من التضامن المعنوي مع الموقع.