استساغ بعض المثقفين العرب التحدث عن موت القومية أو نكرانها واعتبارها وهما ، في نفس الوقت الذي تتعرض فيه الأمة العربية بكل أقطارها إلى ضغوط كبيرة  بهدف تغيير قيمها ومحو هويتها ، وأخطر هذه الضغوط تمثل ، في بداية هذا القرن ، باحتلال العراق وطرح مشروع الشرق الأوسط الأكبر ، وفي نفس الوقت الذي يغيب فيه برنامج قومي لمواجهة المشروع الأمريكي وتداعياته للسيطرة على كل الأقطار العربية، وما يعتري النضال القومي من وهن ، وغياب ممارسة الفعل النضالي القومي في الشارع العربي .

     من هذا الواقع تداعى ، في القطر العربي السوري  في أوائل شهر أيار 2005، عدد من الشخصيات الذين يشعرون بمسؤولياتهم تجاه أمتهم ويحملون قيمها وأهدافها ، وتدارسوا فيما بينهم  ، وفي ثلاثة لقاءات لهم ، الأسس والشروط لتفعيل التيار القومي ، وانبثقت عن اللقاء لجنة مصغرة كلفت بوضع مشروع يبلور تلك الأسس والشروط .

   تواصلت اجتماعات اللجنة المكونة من " منصور الأطرش -  محمود جيوش – لمى قنوت - محمد سعيد طالب – حسين العودات –  نظمي فلوح – عبد القادر نيال -  أحمد برقاوي – طارق أبو الحسن - منير درويش – مروان حبش " فترة ثمانية شهور ، وناقشت عددا من المشاريع والأوراق التي قدمها بعض أعضائها ، كما اطلعت على مشروع التيار القومي في فلسطين ، وكلفت أحد أعضائها الدكتور أحمد برقاوي  بإعداد الصياغة النهائية لمشروع  يراعى فيه ما ورد في الأوراق المقدمة والملاحظات التي طرحت حولها .

     إن المشروع الذي نقدمه ، هو مشروع لكل القوميين والوطنيين العرب " حركات وأحزاب وشخصيات " . وهو مشروع سياسي  لتيار وليس مشروعا لتأسيس حزب ، وتأمل اللجنة أن يساهم كل مخلص لأمته في إبداء الرأي حول مضمونه بغية تطويره وإنضاجه ليكون دليل نضال يجد طريقه إلى التطبيق ويقود إلى الهدف .          

                

           دمشق      25 شباط 2006                                          مروان  حبش                                                                                                                    

 

 

المشروع النظري للتيار القومي العربي

المقـدمـة

        لماذا العودة إلى تجديد المشروع القومي؟ وهل الواقع العربي اليوم بحاجة إلى مثل هذا التجديد؟ وهل مازال الحلم القومي حاضراً في وجدان الإنسان العربي بعد انكسار أحلامه؟ هذه الأسئلة وغيرها سرعان ما يستحضرها الذهن وهو يتأمل مشروعاً نظرياً للتيار القومي العربي .

       وبعيداً عن أية نزعة طوباوية، ورومانسية، وهي نزعة غالباً ما تميز الأيديولوجيات الكبرى، فليس تحقيق الأهداف القومية الكبرى للعرب وعلى رأسها قيام دولة الأمة أو تحقيق الدولة الأمة رهناً فقط بوجود تيار قومي عربي أو وجود مشروع قومي عربي، أو ظهور أيديولوجيا قومية جديدة. فقد دللت التجربة التاريخية على أهمية العلاقة بين الفكر وبين الواقع وبين الإرادة .

فلقد جاء حين من الدهر سادت فيه النزعات القومية العربية وخاصة في المشرق العربي ومصر وفي بعض أجزاء جزيرة العرب دون أن تتحقق الأهداف القومية .

       ولكن لا يمكن أن يكون الكفاح العربي من أجل أهداف عربية-قومية دون مشروع هادٍ لهذا الكفاح .

ولهذا فإن المشروع القومي الجديد يجب أن يحقق وحدة الفكر والواقع والإرادة البشرية. ويجب أن يتعامل مع الواقع العربي:

   1- في ضوء ما يتوافر في الواقع من إمكانيات.

   2-   في ضوء الترابط بين هذه الإمكانيات ووعيها الحق.

   3- في ضوء معرفة العوامل النابذة والجاذبة للأهداف القومية: سواء كانت عوامل محلية- عربية أو عوامل عالمية .

         وهذا بدوره يتطلب فهماً عميقاً لواقع العرب الراهن: سياسياً، اقتصادياً، طبقياً، ثقافياً. وفي ضوء ما سبق تبرز أهمية تجديد المشروع القومي العربي أو تجديد الفكر القومي العربي .

       ولماذا المشروع القومي العربي أصلاً ؟ أو ام  يأت الزمان على وعي كهذا في العالم؟

      إن واقعة وجود العرب واقعة لا يمكن الشك بوجودها دون أن نحدد الآن في أي حالٍ هم ، فعلى مساحة كبيرة من الكرة الأرضية تصل إلى 12 مليون كم2 يعيش مجموعة من السكان يربو تعدادها على ثلاثمائة مليون من البشر، يتحدثون لغة واحدة هي اللغة العربية في تعدد لهجاتها التي تتقلص الاختلافات فيما بينها بفعل تعميم وسائل الإعلام العربية الناطقة بلغة عربية مشتركة، ويعلن أكثرهم أن هويته عربية، بل ويحتفظون بفكرة الأصل المشترك، كما أنهم يحوزون على رموز مشتركة: إن كانت رموزا ثقافية أو رموزا تراثية –إسلامية، أو رموز قادة تاريخيين، ويحتفظون بكثير من العادات والتقاليد والقيم المشتركة ويعبرون في ساعات الخطر على عصبية تضامنية مشتركة: قضية فلسطين قضية العراق… إلخ. فضلاً عن آمال مشتركة في حرية العمل والإقامة والتنقل الحر بين أجزاء الوطن العربي .

إن هذه عوامل تخلق وعياً مشتركاً بضرورة أن تصل العرب إلى حالٍ من دولة الأمة. حتى لو افترضنا جدلاً أن العرب أمة، فالأمة خارج الإطار السياسي- القومي أي الدولة لا قيمة لها في العالم .

      ثم إن العالم اليوم ينحو نحو التكتلات الكبرى، والأجزاء الصغرى من العالم هي موضوع هيمنة ليس إلا. فإذا كانت أوروبا بكل تاريخ صراعاتها، وتكون أممها تتجه نحو الوحدة، فمن الأولى بمن هم متوافرون على عوامل مشتركة أن يعملوا من أجل وجود كتلة تاريخية كبيرة ذات شأن في هذا العالم في إطار دولة الأمة.

      إن العرب اليوم أمة مجزأة، ودول ذات سيادة معترف بها عالمياً، واقتصاديات العرب لا علاقات فيما بينها، كما أن هناك تفشياً لنزعات قطرية أو قبيلية أو طائفية بين السكان. وبسبب وجود العرب على هذا النحو لابد من مشروع قومي عربي . فلو كان العرب في حال الأمة- الدولة أو دولة الأمة لما كانت هناك حاجة لمشروع كهذا.

1- أزمة الحركة القومية العربية

 

      قد يتناسى أعداء الحركة القومية أو ينسون أن الحركة القومية العربية هي وليدة نهايات القرن التاسع عشر. وبالتالي فهي ليست بنت منتصف القرن العشرين أو وليدة هذه الأيام . وهم إن تذكروا قالوا: إن استمرار حركة لمدة قرن من الزمان دون أن ترى أهدافها النور لهو تعبير عن وهم هذه الحركة، أو أن الواقع العربي ضد هذه الفكرة.

ولكن للقضية جانباً آخر. إن استمرار الحركة القومية العربية والفكر القومي العربي بصعوده أو انحداره، لدليل على حيوية الوعي القومي بسبب الوجود العربي ذاته ولو لم يكن الوجود العربي خالقاً دائماً لوعي قومي عربي لما قدر للفكر القومي العربي أن يستمر إلى هذا اليوم وتعود الحركات القومية العربية بالتفكير من جديد بالمسألة القومية.

ولكن استمرار الحركة القومية العربية والفكر القومي العربي على أنحاء مختلفة لا يعني أن الحركة والفكر لم يعيشا أزمة: حالت دون تحقق الأهداف وأدت إلى خفوت الوعي القومي وبروده . ولكنها ليست أزمة وعي فحسب، بل هي أزمة واقع عربي وعالمي .

 فأول أزمة واجهتها الحركة القومية العربية التي عبر عنها مؤتمر باريس 1913 هي التقاسم الاستعماري للمنطقة، والطبيعة التأخرية- وعياً وواقعاً – للهاشميين بعد القضاء على قادة الحركة عبر إعدامهم . ناهيك عن الطبيعة التأخرية للمجتمع العربي آنذاك .                                                    

لكن العامل الأهم في فشل المشروع القومي العربي الذي سعى في ذلك الوقت لتوحيد آسيا العربية هو التقاسم الاستعماري للمنطقة، واستمرار الاستعمار فاعلاً في تحديد مصائر المنطقة العربية، وخلق الكيان العنصري الصهيوني.

      أما الأزمة الثانية فهي التي تولدت من التقسيم الاستعماري والاستعمار المباشر وخضوع فاعلية حركات التحرر من الاستعمار لمنطق التقسيم ذاته. فكان النضال ضد الاستعمار مجزأ، وبالتالي تحقق الاستقلال لمناطق مجزاة بالأصل تحولت بفعل معاهدات الاستقلال ورغبة المستعمر إلى دول مستقلة في الظاهر. ودخلت المجتمع الدولي بوصفها دولاً " للأمم المتحدة " ناهيك أن هذا الاستقلال لكل بلد من البلدان تكرس في ميثاق جامعة الدول العربية ، حيث أكد ميثاقها على الاستقلال والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

ونشأة الدولة، واستمرارها، وحمايتها دولياً، قد أفرز ضمن ما أفرز" السلطة المحلية " في مجتمعات لم تعرف في تاريخها الحديث على الأقل مفهوم السلطة- الدولة. فكان من الطبيعي أنه في مجتمع متأخر عن حركة التقدم العالمية أن تنتج العصبيات المحلية من حيث قوتها أولاً ومن حيث علاقتها بالمستعمر ثانياً سلطاً لا تنظر إلى الدولة- السلطة إلا بوصفها ملكية محلية وراحت هذه السلط تتحول شيئا فشيئاً إلى أكبر عائق أمام تحقق أي مشروع قومي يطرح فكرة الوحدة والتحرر.

      لكن المشروع القومي نما وتطور في صراع مع السلط الوليدة ، في مجتمع متأخر تاريخياً. فالبرجوازية الوليدة ضعيفة جداً والإقطاع القروي يحدد أفق الوعي الجديد بالدولة. والطبقة الفلاحية غارقة في القرون الوسطى من حيث وعيها وعصبياتها.

وانتصبت مهمة صعبة أمام السلطة الوليدة ألا وهي إكمال شخصية الدولة عبر التسريع بتأسيس المؤسسات: " التعليم ، الجيش ، القضاء ، الجهاز الحكومي ، الشرطة " والتسريع في تقدم المدينة وبخاصة العاصمة. ولقد تحدد هذا التسريع بنسبة المجتمعات وعصبياتها . فضمت الفئات الوسطى ذات المنبت الفلاحي والمديني إلى هذه المؤسسات ، وبخاصة مؤسسة الجيش . ومع الأيام وبفضل طموح البرجوازية الوليدة لبناء دولة على غرار الدول الحديثة وخاصة في بلاد الشام والعراق ومصر والمغرب وتونس راحت الفئات الوسطى تتسع إلى حد كبير لتغدو خصماً طبقياً للبرجوازية المزعومة، وخصماً مسلحاً بالأيديولوجيا القومية التحررية. وبخاصة أن نكبة فلسطين قد ألصقت بعجز هذه السلط الوليدة.

       لقد تأسس الوعي الطبقي لهذه الفئات انطلاقاً من أمرين:

              أولاً: الحقد الدفين على الإقطاع والبرجوازية التي تولدت غالباً من رحم الإقطاع ذاته.

             ثانياً: كره الطبقة الفلاحية عموماً للفئات المدينية. حيث ظاهرة اضطهاد المدينة للقرية ظاهرة شائعة في أغلب بلدان العالم.

      وحيث أضيف إلى هذا الوعي الطبقي، الوعي الأيديولوجي القومي- السياسي ، وهو وعي تكون انطلاقاً من فكرة العروبة وتحرير فلسطين وتعامل السلط مع الاستعمار القديم، صار من السهل على القوى الطبقية الجديدة أن توحد نفسها عبر مؤسسة الجيش لتنيط  به قلب السلطة، من حيث أن السلطة هي أداة تحقيق الأهداف وهنا يبرز الشكل الثالث للأزمة.

      لقد حطمت الانقلابات العسكرية المدعومة بأيديولوجيا قومية تحريرية التطور الطبيعي لأكثر البلدان تقدماً مصر وسورية والعراق ، ولأكثر البلدان تخلفاً اليمن، السودان، ليبيا .

      وهنا تبرز ظاهرة الصراع على السلطة بين أوساط القوى التي حطمت السلطة القديمة بالقوة . ومن الخطأ تفسير الصراع على السلطة دائماً على أنه تعبير عن الصراع الطبقي ، ربما يصح القول أنه قد يكون في الحالة موضوع الدراسة تعبيراً عن نزوعات طبقية ، حيث بدت السلطة طريقاً إلى الثروة . أو قد يكون الصراع بين قوى متشابهة طبقياً لأن السلطة بحد ذاتها أمر مرغوب لاسيما في بلدان العالم الثالث بوصفها تعبيراً عن القوة.

      إن الجسم الطبقي الذي توحد ضد البرجوازية المزعومة سرعان ما تفرق إلى عصبيات متصارعة على السلطة، ولما كانت العصبية الأيديولوجية الكبرى قد كفت عن أن تكون عصبية سلطة راحت الفئات المتصارعة على السلطة تبحث عن عصبياتها في المجتمع ، عصبيات مناطقية أو قبيلية أو طائفية.

      فما أن تمت السيطرة على السلطة حتى تحولت السلطة من حيث الاحتفاظ بها إلى هاجس أول، فانتقل الهدف الأيديولوجي الأساسي: السلطة طريق نحو تحقيق الأيديولوجيا إلى هدف أضيق بكثير الاحتفاظ بالسلطة كطريق للثروة.

      إن الصراع على السلطة والانقلابات والتصفيات داخل النخبة الحاكمة، وعمليات الإثراء اللا  مشروع. والإخفاق في إحداث التنمية المطلوبة، وازدياد حالة الفقر، وتوسع الفئات الرثة ، والحكم الاستبدادي أو شبه المستبد، وابتلاع السلطة للدولة وللمجتمع المدني في بلدان حركات التحرر، كل ذلك جعل المجتمع يعيش تناقضاً صارخاً:

       التناقض بين الخطاب الأيديولوجي الواعد بالوحدة والاشتراكية وحرية الأمة … إلخ ، والمقطوع الجذر عن التحقق الواقعي، وبين واقع يودي بالملايين في أتون الفقر والاستعباد . وعندها عاشت شعارات الحركة القومية أزمة كبيرة وخانقة وخاصة بعد هزيمتي حزيران وتشرين. فالهزيمة العسكرية لحرب الخامس من حزيران عام 1967 قد هزت الوجدان القومي العربي وكشفت العورات المستورة وعلى الرغم من لاءات الخرطوم: لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف ، غير أن منطق التسوية شق طريقه إلى الحياة السياسية وخلق مناخ ظهور السلطات النفطية في السعودية والخليج ، كسلطات فاعلة على المسرح السياسي والتي كانت قبلاً في مرحلة الدفاع عن النفس.

      كان لوفاة عبد الناصر وظهور السادات بما يمثله من تحول كبير في الخطاب والممارسة لصالح التحالف مع أمريكا والتصالح مع العدو ، وكان لما حدث في حزب البعث ، ولتصفية المقاومة الفلسطينية في الأردن ،الأثر الأكبر على  حركة التحرر القومية العربية وبدأت  تلفظ أنفاسها ، وخاصة بعد حرب تشرين تلك الحرب المتناقضة: فما تمخض عنها سياسياً غير متطابق مع صيرورتها العسكرية .

      وكان حزيران يحتاج إلى تشرين كي يرى النور، فازداد العدو قوة، في مقابل ضعف دول المواجهة ، واشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، وأصبحت السعودية قوة إقليمية ، وتراجعت قوة مصر وسوريا إلى الوراء ، ودخلت المنطقة في دائرة النفوذ الأمريكي وبدأ الفساد يطل برأسه دون أي خجل أو خوف.

     وفي هذه المرحلة بالذات رافق أزمة حركة التحرر القومية مأزق السلطة القطرية في عموم أرجاء الوطن العربي ، و ظهرت الحركات الأصولية لتملأ الفراغ .

 

 

 

2 - مـأزق السلطـة القطريـة

 

      في الوقت الذي تعيش فيه الحركة القومية العربية أزمتها، والفكر القومي العربي خبا تأثيره ، تعيش السلطة القطرية في الوطن العربي مأزقاً خانقاً ينذر بكوارث اجتماعية كبيرة.

      ويجب التأكيد أن أزمة السلطة القطرية لا يعود إلى أخطاء في الحركة القومية العربية كما يدعي أعداء الفكرة القومية. ذلك أن أغلب السلط القطرية هي سلط لا علاقة لها بالمشروع القومي العربي ، ويمكن أن نحدد أهم ملامح مأزق السلطة القطرية بما هو آتٍ:

     أولاً: إن جميع السلطات العربية تكونت بالأصل في تناقض مع الأمة، وبالتالي أنيط بالسلط أن تشكل دولاً، ولم تأت السلط ثمرة الحياة الداخلية للدول ، وكان من الصعب أن تنشأ السلطات في تطابق مع الأمة ، وألقت هذه الواقعة بظلها على مسألة هوية الانتماء إلى "الدولة- السلطة" فلم تستطع السلطة أن تخلق دولة الأمة، وبالتالي فإن جنسية دولة السلطة جاءت تعسفية جدا ، إذ ليس هناك من لغة مميزة لدولة السلطة وليس لها قيم وعادات وتاريخ خاص ، وبالتالي فشلت دولة السلطة في إنتاج الدولة وسلطة الدولة ، ولما كانت الشروط الحديثة في تكوين الدول القومية أكدت دولة الأمة، فإن أية سلطة قطرية لا يمكن أن تكون دولة.

     ثانياً: أمام بقاء الشعور بالانتماء الكلي العربي حاولت دولة السلطة أن تعزز وجودها عبر دعائم اقتصادية معزولة عن المحيط العربي  وعبر البحث في التاريخ القديم ما قبل الإسلامي عن شرعنة وجودها، وعبر التبعية المطلقة للدول ذات القوة العالمية، وبالتالي عبر فقدان سيادتها ، ومع أنها دخلت عالم الاعتراف الدولي والمؤسسات الدولية ودول العالم ولكن كل محاولاتها للشرعنة باءت بالفشل تقريباً، رغم وجود البوق الأيديولوجي الذي لا يكف عن القول: هذا البلد أولاً. وأكبر مثال عن التناقض بين الهوية والانتماء لدى السكان وسياسة دول الشك هو الموقف من القضايا القومية العربية الراهنة : قضية فلسطين وقضية العراق.

      ثالثاً: لما كانت دولة السلطة هي سلطة فسحب، ولما كانت السلطة ليست ثمرة عقد اجتماعي، فإن الطريقة المثلى لاستمرار السلطة هو القضاء على السياسة في المجتمع ، والقضاء ، أيضا ،  على كل أشكال المجتمع المدني ، وبالتالي ، جرت عملية قمع تاريخية شديدة التأثير السلبي على تطور المجتمع العربي ، ومن هنا يمكن إدراك  أغلب ردود فعل المجتمع الععنفية والغير سلمية ضد السلطة .

      رابعاً: إن المأزق الأخطر والأعقد والأعمق للسلطة في الوطن العربي هو التناقض بين التطور الموضوعي والعفوي والإرادي أحياناً للمجتمع بفعل قوانين المجتمع الداخلية وحاجات السكان والعلاقة مع العالم، وبين بنية السلطة الثابتة، إنه تناقض وصل حداً لا يمكن حله بأية عملية مصالحة تريد أن تقوم بها السلطة مع بقائها على ما هي عليه.

      هذا المأزق البنيوي بين التطور الموضوعي  للمجتمع  وبين ثبات السلطة، أدى إلى بروز عدة ظواهر :

      الأولى: أن السلطة لكي تستمر أنفاً عن التاريخ فلابد لها من استخدام أعلى درجات القمع المادي والروحي اعتقاداً منها أنها قادرة

بإبقاء البنية القديمة التي أنتجتها، ولهذا فإنها في بنيتها استبدادية بشكل مطلق. ولكي يتحول استبدادها إلى فاعل يحول دون بروز قوى معارضة قادرة على تغيير التاريخ فإنها تبحث عن العصبيات التقليدية لتقويها ولتستند إليها.

     الثانية: أن المجتمع بأغلب طبقاته وفئاته يعيش ثورة صامتة نتيجة القضاء على السياسة والمجتمع المدني، دون أن يستطيع أالتعبير عن ذاته بشكل عملي  في حين جاءت المعارضة الأصولية للنظام السياسي بوصفه شكلاً من أشكال التناقض غير المثمر بينهما دون أن يعني ذلك أن هذا ينسحب على جميع الحركات الإسلامية.

     الثالثة: التعويل الدائم على الحماية الخارجية (أمريكا والغرب) وخاصة من ذلك العدد من السلط الصغيرة والضعيفة.

    هذا المأزق التاريخي لدول السلط هو الذي يفرض ، منطقياً ، ضرورة البحث عن مخرج قومي عربي لواقع الحال، مخرج يقدم للبشر التائقين لحريتهم وحرية أمتهم  قوة لإرادة صامتة، ولثورة صامتة ، ولاحتجاج صامت ،  ليكون الفعل في العلن.

     وإذا أضفنا إلى هذه المظاهر الثلاثة للمأزق التاريخي للسلطة القطرية ، ظاهرة فشل التنمية وعدم تحقيق حد أدنى من التقدم التاريخي أدركنا أهمية تجاوز دولة السلط هذه .

 

 

 

 

الأهداف العامة للتيار القومي العربي

 

أولا : الوحدة العربية

 

     إن استخدام صياغة دولة السلطة كان بقصد التأكيد أن ليس هناك دولة قطرية في الوطن العربي . وجميع هذه الكيانات هي سلط ما قبل الدولة ربما يشذالنموذج المصري عن هذا.

فلو كان هناك دولة قطرية في الوطن العربي تنتج سلطتها بوصفها دولة معبرة عن مصالح مجتمع الدولة لكانت مسألة الوحدة العربية قد حلت اليوم في شكل ما من الأشكال. وذلك أن مواطني الدولة القطرية لو وجدت لأنتجوا سلطة دولة تحقق مصالحهم في دولة الأمة.

إذاً ، جاء التفكير بدولة الأمة في ظل غياب الدولة القطرية وفي ظل حضور دولة السلطة ، ولقد أدى استمرار دولة السلطة والتي هي ليست دولة قطرية -  بل ملكية خاصة للسلطة - على مساحة جغرافية من الوطن العربي ، إلى بروز سمات الواقع العربي على النحو التالي:

لقد حاز التذرر في الوطن العربي (أي التجزئة السياسية والجغرافية والاقتصادية ) على شرعية عالمية ، وعلى اعتراف متبادل بين دول السلط ، وعلى حدود جغرافية- رغم أنها تعسفية لكنها صارت واضحة-وما خلافات الحدود بين الأشقاء إلا تأكيد نزوعهم نحو تأبيد التجزئة، وعلى أشكال حماية خارجية وبخاصة للمناطق الصغيرة، جغرافياً وسكانياً.

ثم إن هذه الكيانات قد تفاوتت من حيث عدد السكان،  وتفاوتت في المساحة الجغرافية ، كما أن هذه الكيانات تتفاوت في مستوى دخل الفرد من دول (النفطية) يصل دخل الفرد فيها سنوياً إلى آلاف الدولارات إلى دول لا يتجاوز دخل الفرد السنوي فيها مئات الدولارات.

ومن كيانات ذات إمكانيات إنتاجية عالية محلياً وقادرة على سد أكثر حاجاتها الغذائية والخدماتية إلى كيانات تستورد أغلب حاجاتها من الخارج.

ومن كيانات ذات إرث ثقافي قديم وعريض مستمر في التقدم في مجالات الإبداع المتنوعة، إلى كيانات مازالت تحبو في هذا المجال.

ومن كيانات ذات سلط ملكية أتوقراطية وشبه أتوقراطية ، وكيانات ذات سلط جمهورية مستبدة وشبه مستبدة ، إلى كيانات مازالت العصبيات التقليدية تقوم بالوظيفة الأساس في تحديد الانتماء للقبيلة، أو الطائفة، وكيانات تجاوزت إلى حد ما هذه العصبيات.

وهكذا عقدت سلط هذه الكيانات من مستويات التطور المتشابهة من جهة، وأصبحت هي أكبر العوائق بما خلفته من وقائع أمام دولة الأمة.

فهل من الواقعية أن يعود التيار القومي العربي ليفكر بالوحدة العربية في ظل شروط كهذه ؟ وهي كلها شروط نابذة للوحدة القومية.

ومرة أخرى ، يجب التأكيد ، أن واقع العرب على هذا النحو ليس هو الواقع الذي يطمح له أبناء العرب، وأن هذا الواقع هو ثمرة سلط تابعة متحكمة مالكة للبلاد  والعباد  ، إنها سلط ضد الأمة.

ولهذا فإن هدف التيار القومي هو تجاوز الواقع الراهن للعرب عبر أول مظهر من مظاهر هذا التجاوز ، أي: الوحدة العربية.

المقصود بالوحدة العربية بكل بداهة، قيام دولة الأمة. أي التعين السياسي الدولاني للأمة ،   بإزالة جميع الحدود السياسية ، و الجغرافية ، والجمركية ، أو أي حدود أخرى تمنع قيام دولة الأمة وبمعزل عن صور هذه الدولة " اتحادية  فدرالية، إندماجية " و هذه الصور تابعة لشروط واقعية ، ولكن الأصل هو: أن ينتمي ثلاث مائة مليوناً من العرب -  يعيشون على مساحة جغرافية تصل إلى 12 مليون كم2، ويحوزون على شواطئ بحار ومحيطات ومكان استراتيجي وثروات ويشعرون بأنهم عرب - إلى دولة واحدة تكون جنسيتها متطابقة مع جنسية الأفراد الحقيقية.

فكل الجنسيات التي يحملها أو أجبر على حملها الإنسان العربي هي جنسيات زائفة متناقضة مع الجنسية - الأصلية والحقيقية -  العربية .

إذا ، فإن الغاية من الوحدة - التي هي هدف عام لدى أبناء العربية – هو أن يتحول هذا الكم الهلامي غير الفاعل إلى كيف فاعل له مكانة مهيبة تشعر العربي بكرامته الروحية والعملية.

               الغاية من الوحدة ، هو الانتقال في ظل نشوء التكتلات العالمية إلى حال تكتل عربي فاعل ذي سيادة قادر على حماية الأمة وأبنائها.

الغاية من الوحدة ، هو تحقيق الشعور بالأمن الذاتي عبر تحقيق الأمن القومي .

الغاية من الوحدة هو تحقيق الأمن الاقتصادي عبر تحقيق التنمية القومية لدولة الأمة جمعاء.  

الغاية من الوحدة هو إعادة تكوين الجغرافيا السياسية، بتطور متكافئ بين جميع مناطق العرب.                         

الغاية من الوحدة هو جعل الأمة مالكة للثروة العامة، لتتحول إلى قوة بيد الأمة.

فلا سيادة ، ولا استقلال ، و لا تقدم ، ولا تنمية ، ولا حداثة ، ولا مكان للعرب تحت الشمس من دون دولة الأمة.

 وفي مقابل من يصرخون اليوم دون خجل وأمام الملأ: الدويلة أولاً ، يكون الرد: العرب أولاً دولة الأمة أو لا.

 

أ -  الطـريـق إلـى الوحـدة

لقد تحدث الخطاب القومي التقليدي عن العوائق التي تقف أمام قيام الوحدة العربية فتحدث عن العشائرية ، والإقليمية ، والاستعمار ، والإمبريالية ،  والرجعية العربية والنزعات الانعزالية إلخ… وكان الاعتقاد سائداً أن استلام القوى التقدمية للسلطة كافٍ لقيام الوحدة. وإذا بالأنظمة التي سميت تقدمية تزيد من العزلة بين مناطق حكمها ، بل  وتخوض فيما بينها صراعات زائفة مازالت العرب تدفع ثمنها إلى الآن. ويكفي تأمل الحالة السورية - العراقية التي وصلت حد الصراع العسكري بين قطرين يحكمها حزب له نفس الاسم ونفس الشعارات والرموز والخطاب .

               تتعين عوائق تحقيق الوحدة بعوامل تحققها ،  فهناك عاملان ضروريان لتحقيق الوحدة:

             1 - المصلحة.

            2- الوعي بالهوية العربية.

             وهذان العاملان مترابطان ترابطاً صميميا،  لا يمكن لأحدهما أن يحقق الوحدة إذا ما توافر بمفرده .  وإن كان عامل المصلحة نظرياً أقوى من عامل الوعي ، فالمصلحة بين تركيا وسوريا تحقق منافع ولكن لا تحقق وحدة، فيما المصلحة بين سوريا والأردن قادرة على أن تحقق الوحدة بسبب هوية الانتماء – العروبة.

           فهل المصلحة في الوحدة العربية  - قيام دولة الأمة -  متحققة في الوطن العربي؟ وهل الانتماء القومي حاضر في الوعي إلى الحد الذي يحول المصلحة إلى واقع؟.

     أولا :   هناك ، في كل كيان عربي ، عالمان من المصالح: عالم المصالح المتعارضة مع المصلحة في الوحدة وعالم المصالح المتطابقة مع المصلحة في الوحدة.

يتشكل العالم الأول من جهاز السلطة الحاكمة ، أي من دولة السلطة التي لا ترى وجودها واستمرار وجودها إلا في استمرار الكيان الذي تحكم ، حيث يتشكل الجهاز الحاكم من عصبية ضيقة تضم الحاكم الأول وأدواته : الجهاز التنفيذي " أمن، حرس ، جيش " ثم الجهاز الأيديولوجي المتمثل في ثلة من المبررين الأيديولوجيين للتجزئة ، وهذا عائق أساسي.

فيما يتشكل العالم الثاني من مجموعة فئات وطبقات اجتماعية وحركات سياسية معارضة للعالم الأول وهو عالم أوسع وأغنى " برجوازية، فئات مثقفة، حرفية، عمالية، فلاحية … إلخ."  فضلاً عن أنه يعلن انتماءه الصريح إلى الهوية الكلية.

تشذ عن الحالة السابقة بعض الدول الصغيرة التي تملك من الثروة ما يجعلها تعيش حالة رفاه استثنائي وبالتالي فإن مصالحها بالثروة لا تسمح لها بأن تفكر في إطار الوحدة حتى ولو كانت عواطفها قومية عربية.

ثانياً: يشكل العالم الغربي- الأميركي عائقا عمليا شديد القوة ضد قيام أي نمط من أنماط الأمة- الدولة (دولة الأمة) في شرق المتوسط والخليج العربي ، وهذا أمر قديم بالنسبة إلى أوروبا التي عملت عبر الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي على التقسيم وحماية التقسيم ، وهو حاضر في سياسة الولايات المتحدة لنفس الأسباب التي تجعل أوروبا تقف ضد دولة الأمة.

          لكن هذا العامل الخارجي لن يكون فاعلاً ولم يكن فاعلاً دون العامل الداخلي أي دولة السلطة.

تأسيساً على ما سبق فإن العائق الأساسي الذي يحول بين العرب ووحدتهم هو المصلحة الضيقة للسلطة المتطابق مع مصالح القوى الغربية الكبرى " وأمريكا بهذا المعنى غرب "  والتطابق بين العائقين الداخلي "السلطة " والخارجي  "الغرب " كبير جداً.

                  وهذا يعني أن أول شرط من شروط تحقيق الوحدة هو تغيير بنية دولة السلطة إلى سلطة دولة معبرة عن مصالح الكل الاجتماعي وتأتي تعبيراً عن الخيارات الحرة للمجتمع.

فليس مطلوباً استبدال سلطة بسلطة كيفما اتفق، بل خلق سلطة العقد الاجتماعي ، أي سلطة ديمقراطية ناتجة عن مجتمع ديمقراطي.

فلما كانت الوحدة قراراً سياسياً فإن المجتمع ، عبر السلطة التي ينتجها ، هو صاحب القرار، والديمقراطية إذ تنتج سلطة دولة -  وليس دولة سلطة -  تحرر السلطة من مفهوم الملكية الشخصية الذي يتحكم بوعي السلط السائدة ، وبالتالي قيام سلطة دولة بين قطرين أو أكثر ،أي سلطة ديمقراطية ،  يبقي على الديمقراطية كنظام سياسي ويوسع من مساحة الدولة ويزيد من عدد سكانها وتنمية  ثرواتها إلخ.... ، ويعيد للهوية معناها الحقيقي ، وكذلك ، لن تتأثر حقوق المواطن في القطر الذي تحول إلى دولة ديمقراطية في دولة ديمقراطية أوسع ، بل يمكن أن تزيد .

وكما أن المصلحة في الوحدة شرط ضروري غير كافٍ ، إذ لابد أن تتعين هذه المصلحة في إرادة لتحقيق الوحدة ، كذلك فإن قيام السلطة الديمقراطية شرط ضروري ولكنه غير كافٍ ، أيضا ، إذ لابد وأن يسند قيام هذه السلطة الوعي القومي ، والوعي بالهوية القومية.

والوحدة العربية - قيام دولة الأمة -  بهذا المعنى، عملية طويلة التحقق وتحتاج إلى صبر طويل لأن توافر شروط تحققها عمل يحتاج إلى كفاح مديد قبل أن الوصول إلى آلية تحققها. فالمصلحة بالوحدة التي تتعين في سلطة ديمقراطية ذات أساس وعي قومي  تشكل الشروط الضرورية لقيام الوحدة.

والحق أن المصلحة متوافرة لدى السكان بنسب كثيرة ويسندها وعي ثقافي بالانتماء لكن الشرط الآخر هو الغائب كلياً.

وإذا ما توافرت شروط تحقق الوحدة، فإن آلية تحققها ستكون عملية تحتاج إلى فعل ذكي وعقل شديد الإحساس بالواقع ، وهنا يجب الاستفادة من تجارب التاريخ العربي الحديث والمعاصر والوحدة المصرية السورية، أي قيام الجمهورية العربية المتحدة.

واستناداً إلى شروط الواقع العربي فإن الوحدة لن تتحقق دفعة واحدة، بل لابد وأن تمر بمراحل متعددة وقد يشهد الوطن العربي قيام وحدات كثيرة.

                  تتحدد آلية تحقق الوحدة ، إذا ما توافرت الشروط الضرورية ، بـ:

أولاً: لابد من الاتصال الجغرافي بين أي قطرين أو أكثر ينزعان نحو التوحد، ويمكن اعتبار الوحدة بين قطرين أو أكثر يحوزان على الاتصال الجغرافي مع توافر شروط قيام الوحدة، حلقة وسيطة للتوحد الكلي.

ثانياً: إن التوحيد الاقتصادي أول آلية لقيام دولة الوحدة العربية الكلية، أو الوحدة بوصفها حلقة وسيطة . وهذا يعبر عن شرط المصلحة المشتركة للسكان  : عملة واحدة، حرية حركة العمال، حرية التجارة ، الوحدة الجمركية إلخ...... .

ثالثاً: يجب الحيلولة دون ظهور أي إحساس بالغبن لدى أي طرف من أطراف الوحدة وذلك حين يكتمل الجانب السياسي من الوحدة، فالمساواة السياسية وأخذ بعض الشروط التاريخية لقيام دول السلط من حيث الصغر والكبر، وما ولدته من أنماط شعور بالخوف ، كلها ، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في مرحلة آلية تحقق الوحدة بالمعنيين المشار إليهما.

رابعاً: إن أكثر أنماط الدول ملائمة لدولة الوحدة  هي الدولة الفدرالية، ذلك لأن تاريخاً من الانقطاع لا يمكن أن نحوله إلى حالة تواصل في لحظة قليلة من الزمن ،  دون أن يصادر ذلك إمكانية أنماط أخرى، يخلقها الواقع ويتبناها البشر بكل ديمقراطية.

 

ب - الـوحـدة والـتنميـة

 

     يحمل مفهوم التنمية في حقل التداول الغربي دلالتين : دلالة معيارية ، ودلالة نمائية ، وهناك ترابط بين الدلالتين .

   أما من حيث هو مفهوم معياري فإنه يقوم بوظيفة المعيار الذي يميز في الأمم بين أمم أنجزت التنمية الشاملة كأمم أوروبا و أمريكا و اليابان وبعض دول جنوب شرق أسيا ،وأمم أخفقت في إنجاز أي مظهر يدل على التنمية كما هو الحال في الوطن العربي ودول في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية .

إن معيار التنمية هنا قائم ، إذاً ، في الغرب الأوربي أو أمريكا أو اليابان أو الصين الآن . ويمكن تحديد سمات المجتمع المنجز للتنمية  وفق المعيار السابق ب: التنمية الاقتصادية < رفاه ، مستويات دخل عالية ، صناعة متقدمة > . والتنمية الإنسانية < حريات عامة ،ديمقراطية ، تمكين المرأة ..> .

إذ ذاك ينشأ الوعي بضرورة إنجاز التنمية عربياً وفق معايير التنمية السابقة ، وهذه هي دلالته الثانية .

 إن  مفهوم التنمية بالمعنى السابق مفهوماً حيادياً ، أو أنه جاء بدلاً عن مفاهيم الثورة و التقدم و التطور التي تحمل كما يعتقد البعض دلالات أيديولوجيه غير علمية .

     والحق أن مفهوم التنمية في طرحه الغربي الراهن ينطوي على مضمون أيديولوجي أكثر زيفاً من المضامين الأيديولوجية للمفاهيم السابقة لحركه التحرير العربية .

فما معنى أن تتحول مشكلات العرب إلى مشكلة تنمية إنسانية ؟

يعني أن مشكلات العرب مشكلات دويلات تعاني من أمية وفقر ،ونقص تقنية وقلة رفاه  وحكم غير صالح ، وبطالة ، وعدم رعاية صحية ،واستبداد بالمرأة .وينتج من ذلك مباشرة البديل الجاهز : حكم صالح  ، ورعاية ، ورفاه ، وعمل ، وتمكين المرأة، واستخدام التقنية .

وبالتالي يصير الحكم على التنمية في الدول العربية وفقا ًلدرجة حضور المعايير المتنوعة للتنمية الإنسانية .فتصبح الكويت كدولة رفاه ، ودخل عال ورعاية صحية جيدة جداً وحصول الفرد على أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون والهاتف أكثر تنمية من دولة مثل مصر التي تعاني الفقر والبطالة ، رغم إن هذه المعايير الخادعة هي معايير أيديولوجية صرفة . ناهيك عن أن طرح مشكلات الوطن العربي انطلاقاً من مفهوم التنمية وحده يخفي المشكلات الحقيقية الخاصة بالعرب .

يجب أن يكون معروفا منذ البدءء أن العرب وفق معايير التنمية السابقة هم في الدرك الأسفل . ولكن لماذا هم في الدرك الأسفل ؟

سؤال كهذا سؤال سياسي وليس سؤالاً تنموياً اقتصاديا .

     فعندما نربط بين إخفاق التنمية ووجود الدولة القطرية ، فهذا يعني أن هناك ترابطاً بين التنمية وشكل الدولة ، و مشكلة الدولة في الوطن العربي مشكلة سياسية .

     لكن الانطلاق من الدولة القطرية الراهنة لإحداث التنمية بعد إصلاحها ديمقراطيا هو نوع من التحايل على العلاقة بين الدولة و التنمية ، وذلك أن الأيام قد أُثبتت استحالة التنمية قطرياً وضرورة قيام شكل من أشكال الدولة –الأمة .فالتنمية بوضعها ظاهرة كلية و التخلف هو الآخر كلي فإنه دون نظرة كلية لا يمكن الوصول إلى مفهوم لتنمية مطابقة لمستقبل العرب .

ولما كان مأزق التنمية قائما في غياب الدولة – الأمة فإن كل ثروة في الوطن العربي لا يمكن أن تتحول إلى ثروة  تنمية في شروط التجزئة ، والعامل السكاني هو الأخر بعيد عن أن يكون عامل تنمية بوصفه تنمية متناثرة على دويلات .

وحرية الفرد الضرورية للتنمية لا معنى لها دون مفهوم السيادة ، وإذا لم ينظر إلى التنمية كمرادف للتقدم الكلي وإذا نظر إليها بعيداً عن الجانب السياسي للأمة –الدولة فسيبقى في حقل الطابع الأيديولوجي للتنمية الذي يسعى البعض طلبه بديلاً عن التقدم التاريخي الكلي .

 

ثانيا :الديمقراطية

 

                يعتبر تحقيق الديمقراطية – الآن- واحدة من المهام الأساسية للمجتمع العربي بعد هذا الردح الطويل الذي شهد أشكالا متعددة من الأنظمة السياسية  في الوطن العربي والتي-أي هذه الأشكال – مازالت بعيدة عن ماهية الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً – اجتماعيا يقوم على إنتاج السلطة من حيث هي تعبير حقيقي عن الخيارات الحرة للمجتمع .

            الديمقراطية نظام سياسي : ينطوي على علاقة السلطة السياسية بالشعب ، على العلاقة التي تقوم بين الناس ، وعلى العلاقة بين الحزب السياسي والسلطة  ، وبين الحزب السياسي والمنضوين فيه .

           والحق أن مشكلة النظام السياسي في الوطن العربي هي أم المشكلات بسبب التحولات الكبيرة في هذا النظام والذي أفضى إلى قيام النظام السياسي غير الديمقراطي في عموم الوطن العربي .

          ففي النصف الثاني من القرن العشرين  وبعد عمليات الاستقلال الوطني عن الاستعمار الغربي استعارت بعض الأقطار العربية الوليدة النظام الديمقراطي الغربي كما أعادت بعض الدول إنتاج النظام الأوتوقراطي الملكي . ففي مصر حيث النظام الديمقراطي قد نشأ مبكراًَ وفيما بعد في سوريا والعراق ولبنان سرعان ما تكرس النظام الديمقراطي التمثيلي القائم على التعددية السياسية ، ومبدأ تداول السلطة ، وانتخاب السلطة من الشعب أما في البلدان كالمغرب والسعودية واليمن وما شابه ذلك فقد احتفظت القوى التقليدية بالسلطة ذات الطبيعة الأوتوقراطية .

           لقد واجهت التجربة الديمقراطية الوليدة في الأقطار العربية التي سارت على نهج الديمقراطية التمثيلية واقعاً معقداً جداً. فهي من جهة لم تنشأ كثمرة لكفاحات سياسية – اجتماعية ، بل كنظام سياسي رأت فيه النخبة السياسية آنذاك نظاماً أمثل وهي من جهة ثانية ، عبرت عن القوة المفقودة التوازن بين الطبقة الإقطاعية  وباقي فئات الشعب مما أعطاها بعداً ضيقاً ناهيك عن أن الوعي الطبقي الفلاحي الفقير ووعي فقراء المدن ربط بين رحيل الاستعمار ووراثة السلطة ، ولهذا وقعت الشبهة بالنظام الديمقراطي بأنه غير معبر عن إجماع شعبي .

     من هنا يمكن فهم سر احتفال الناس بالثورات والانقلابات التي قادها العسكر ضد الأنظمة الديمقراطية في كل من مصر وسوريا والعراق . إن الأطاريح الشعبية والشعبوية قد وجدت حضورها العاصف في الأوساط الآنفة الذكر لاسيما أن الحركات السياسية آنذاك قد طرحت مفاهيم أثيرة لدى الناس حول الحرية وبخاصة مفهوم الديمقراطية الشعبية ،و الاشتراكية كما نظر إلى النظام السياسي بوصفه الوسيلة الرئيس  لتحقيق الأهداف الشعبية .

     لقد كان نقد البرجوازية آنذاك صحيحاً ولا شك لكن الإجهاز عليها قد ألغى التراكم الديمقراطي الضروري لتطور طبيعي لمسألة السلطة السياسية ، فالطابع الثوري للحركات الانقلابية أدى إلى نوع من القطيعة المطلقة مع النظام الديمقراطي ووضع الأساس لبروز الدولة التسلطية فيما بعد ، فالديمقراطية الشعبية التي طرحت بديلاً عن الديمقراطية التمثيلية " ديمقراطية الاختلاف الطبقي و الأيديولوجي والسياسي " سعت لتجاوز الاختلاف عبر وحدة قوى الشعب أو وحدة الفئات الكادحة من هنا كان مفهوم الديمقراطية الشعبية نزوعاً نحو تحويل الشعب إلى مصدر للسلطة ، والقضاء على احتكار البرجوازية لها وإزالة الطبقة البرجوازية والطبقة الإقطاعية كأساسيين للاضطهاد الطبقي .

       ولكن التجربة هذه قد أنتجت ما لم يكن يحسب حسابه .

      ففي المستوى الشكلي المحض تعينت الديمقراطية الشعبية فيما يلي :

قيادة الحزب السياسي الطليعي : البعث، الاتحاد الاشتراكي ،جبهة التحرير الجزائري0 ....الخ

الحزب هو الحزب المعبر عن الفئات الشعبية .

التطابق بين الحزب والسلطة ، والحزب والدولة .

النقابات والاتحادات صارت تعبيراً عن قوة الحزب أي قوة السلطة .

الصحافة صارت مؤسسة أيديولوجية

مجالس الشعب أداة بيد سلطة الدولة ، لأن أعضاءها يسمون  سلفا من قبلها.

وبالنتيجة ، لقد ظهر التناقض مبكراً بين شكل الديمقراطية المنشود والقائم ، وبين الممارسة الواقعية لهذه الديمقراطية .

     أجل لقد أصبحت المؤسسات الشعبية صورية ، وخارج الفعل السياسي والنقابي ، وصار ينظر إلى أي تناقض بين المجتمع والدولة على انه تناقض بين الشعب والدولة من جهة وبين فئات ضد الشعب والدولة .

 

أ - الديمقراطية كضرورة مجتمعية

         إن نقد التجربة السابقة للحكم ، ونقد حالة الحكم في الوطن العربي عموماً ينتج بالضرورة استعادة مفهوم التجربة الديمقراطية بمعناه الأصلي والذي يشكل الآن روح السلطة في العالم والسعي للاندماج في هذه الروح .

     لماذا الدعوة إلى النظام الديمقراطي ؟

     قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن   النظام الديمقراطي هو النظام السياسي الذي ينتجه المجتمع وفق خياراته الحرة .  ولما كانت الديمقراطية نظام سياسي ، فهذا يعني أنه الصورة السياسية للمجتمع ، من حيث هو جزء لا يتجزأ من الدستور . وحين القول  وفق خياراته الحرة ، يكون القصد الخيارات الحرة التي يعبر عنها صندوق الاقتراع الذي يدلي به المواطن الحر بصوته لاختيار سلطته .

عندها تصبح الديمقراطية نظاماً ثابتاً والمختارون متغيرون .

     وفي حال  العودة  للسؤال : لماذا الدعوة إلى النظام الديمقراطي ؟

     يكون الانطلاق من الأطروحة التالية : إن السلطات الني نشأت ما بعد الاستقلال أو ما قبل ذلك سواء كانت سلطات ملكية أوتوقراطية أو سلطات جمهورية كانت في أحد أوجهها ثمرة بنى إنتاجها .

     فمجتمع ذو بنى تقليدية : عشائرية مناطقية ، ومستوى اقتصادي <رعوي ، زراعي ، إقطاعي > مجتمع تغيب عنه المدينة لا يمكن أن ينتج سلطة إلا على شاكلته وسلطة تعبر عن تناسب القوى في هذا المجتمع ،  أي سيكون النظام السياسي نظاماً أوتوقراطياً :  ملكياً او أميرياً أو مشيخياً

      ولكن تغير واقع الحال ، أي نشوء تراكم رأسمالي ، بمعزل عن مصدره ، ونشوء المدن وظهور المؤسسات الحديثة ، والتحولات الطبقية العميقة " ظهور طبقة وسطى ، وطبقة تجار ، وطبقة صناعية ،  وفئات مثقفين .... مع تحولات ثقافية بفعل عوامل داخلية أو خارجية ، كل هذا يؤدي في النهاية إلى تحطيم للبنية القديمة التي أنتجت السلطة المطابقة  ، وبالتالي فإن السلطة _ النظام السياسي  - في استمرارها في بنية جديدة ، هو تناقض صارخ بين المجتمع وصورته السياسية .

     إن علاقة البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالبنية السياسية هي علاقة ترابط  ، ولأن الأمر على هذا النحو نجد أن جميع السلطات في الوطن العربي تعاني الآن من حضور هذا التناقض الذي لم يرفع  ، أي لم يحصل الوطن العربي حتى هذه اللحظة على التطابق بين بنية جديدة وسلطة جديدة .

     إذاً السلطة _ والحال هذه _ هي ضد المجتمع . ولأنها متناقضة مع السيرورة التاريخية للمجتمع فإنها لا تستطيع الاستمرار بالوجود إلا باستخدام آلية القمع والاستبداد . فكلما ازدادت حركة المجتمع نحو الأعلى أي نحو التقدم التاريخي ازداد تعسف السلطة وازداد فعل آليات القمع < الجيش ، الأمن ، حالات الطوارئ ، الإيديولوجيا القديمة ، الإعلام ...> وهكذا عاشت المنطقة وتعيش حالة من الركود التاريخي وبسبب آليات القمع الشديدة سلبت الإرادة الاجتماعية الفاعلة سياسياً ، والسلطة ليست في وارد تغيير نفسها بما يتطابق مع التحويلات العميقة في المجتمع ، وكل سلطة تعاند التاريخ هي بالضرورة سلطة استبدادية .

     وفي غياب القوى الفاعلة والحية  ، وللأسباب الآنفة الذكر ، لم يعد أمام بعض شرائح المجتمع إلا رد الفعل العنفي السري المستند إلى أيديولوجيا دينية . فنشأ تناقض بين سلطة ذات عصبية ضيقة جداً وحركة عنيفة تستفيد من الإرث الثقافي الديني وهذا ما ينذر بخراب هائل للمجتمع .

     ترتب هذه الواقعة أن الدولة القطرية التي أنتجت السلطة القطرية ، لم تعد فيها السلطة قطرية إطلاقاً ، بل هي سلطة ما دون مصالح القطر ، وبالتالي لم يشهد الوطن العربي قيام الدولة بالمعنى السياسي المعاصر ، كما ذكر سابقا ، أي أن المجتمع العربي يعيش حالة ما قبل الدولة ، حالة السلطة فقط والتي تأخذ سمات سلطة احتلال بالمعنى العميق للكلمة .

حلاً لهذا التناقض لم يعد أمام المجتمع العربي إلا أن ينتقل من حالة السلطة إلى حالة الدولة الوطنية الديمقراطية .

 

ب - الـدولـة الـوطـنيـة الـديمـقراطيـة

         الدولة الوطنية الديمقراطية هي ترابط بين مفاهيم ثلاثة : الدولة ، الوطنية ، الديمقراطية .

        الدولة مترابطة مع مفهوم الوطن ، الدولة والوطن يحيلان إلى مفهوم الانتماء ، الانتماء إلى الوطن وقد أخذ صيغة الدولة ، لكن الدولة والوطن ، بوصفهما متوحدين ينتجان  الانتماء ، ويخلقان بدورهما مفهوم المواطن الذي يمتلك الحق ، ومفهوم المواطنة يشير إلى شخص في دولة -  وطن يمارس الحق والواجب ، والحق الذي أصبح قانوناً كلياً ، و الوطن الذي أخذ صيغة الدولة يصبح وطناً ذات سيادة ، إذاً الدولة الوطنية هي الدولة التي تحافظ على سيادة الوطن وحق الأفراد - المواطنين .

     ولما كانت كل دولة ذات سلطة بالضرورة وليس كل سلطة دولة ، فإن السلطة في دولة الحق ، دولة المواطنة هي ثمرة لممارسة حق إنتاج السلطة الديمقراطية ، ولا انفصال بين السلطة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي ، إذ أن المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يتحول إلى شخصية تعبر عن نفسها " بالتعددية الحزبية ، بالجمعيات ، بالمنتديات ، بالمنابر ، بالنوادي ، بالصحافة، إلخ ...." .

     ولأن السلطة هنا أصبحت تعبيراً عن الوطن فهي إذاً سلطة كل الوطن بكل ما ينطوي عليه من اختلافات ، إنها سلطة الأكثرية والأقلية معاً ، وهكذا يحصل التطابق بين المجتمع والسلطة  وتتجاوز سلطة الأقلية المتحكمة بفعل عصبية ضيقة وقوى تعسفية ، وتفك الارتباط بين السلطة والملكية الشخصية للسلطة ، وتحرير السلطة من حالة الملكية  هو المعنى العميق لمفهوم تداول السلطة الذي يزيل أي غبن ناتج عن امتلاك السلطة عن طريق غير ديمقراطي  ويحول أفراد المجتمع إلى مسالمين في علاقاتهم بالسلطة حتى في حالة معارضتهم لها .

 

ج - الديمقراطية والمجتمع المدني

      إذا كانت السلطة الديمقراطية هي سلطة ناتجة عن المجتمع في خياراته الحرة ، فالديمقراطية هي بنت مجتمع ديمقراطي وثمرته ، والمجتمع الديمقراطي هو المجتمع المدني ، والمقصود بالمجتمع المدني قدرة المجتمع على تنظيم نفسه في : < نقابات واتحادات وجمعيات ونواد وما شابه ذلك >للدفاع عن مصالحه أمام سلطة الدولة أو أي سلطة أخرى وبخاصة سلطة رأس المال التي لا يمكنها أن تستنفد التعبير عن المجتمع ككل .

    وإذا كان الحزب السياسي يهدف في النهاية الوصول إلى السلطة فإن المجتمع المدني هو السلطة الكابحة لتعسف أي سلطة بحق مصالح الأفراد ، وإن تنظيم المجتمع نفسه مدنياً ، يعني تحويله إلى مجتمع سلم اجتماعي لأن كل وسائل تفاعله هي وسائل سلمية ( إضراب ، تظاهر ، منشورات ، مقالات ، احتجاجات سلمية  إلخ..... ) .

    لا شك أن المجتمع المدني سيكون عرضة لنزوع هيمنة سياسة من قبل الأحزاب ، لكنه لن يتحول إلى مجتمع سياسي ،  إذ تظل مطالبه ذات طابع اجتماعي وغير سياسي .

 

د - الديمقراطية والوحدة

     تعتبر الوحدة العربية أو الاتحاد أو الدولة- الأمة هدفاً سياسياً لكل الحركات القومية العربية ، وما زالت فكرة أصيلة لأنها نزوع لدى البشر في الوطن العربي ، بل وازداد هذا النزوع بفعل حالات التقارب السائدة في مرحلة تزايد وسائل الاتصال والتنقل والتعرف المشترك ، وبفضل حركة التاريخ العالمية التي تشهد محاولات كثيرة لقيام تجمعات إقليمية لا تقوم أصلاً على فكرة الأمة أو الأثنية ، فما الحال  إذا كان هناك تجمع إقليمي من المشترك القومي والثقافي،  ما لا يوجد في التجمعات العالمية ، غير أن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا بقيام الدولة الوطنية الديمقراطية التي أشير إليها .

     إن أبناء الدولة الوطنية الديمقراطية هم بالأصل يشعرون بالانتماء إلى أمة ، ومصالح الدولة الوطنية الديمقراطية لا يمكن إلا أن تكون مترابطة مع مصالح العرب عامة ،  ولذلك  فإن تحرير السلطة من ملكية الفئة الحاكمة يحرر المجتمع من أي عائق أمام أي سلطة ديمقراطية وطنية أشمل ، وإن غياب سلطة وطنية ديمقراطية قطرية لقاء سلطة وطنية ديمقراطية ما فوق قطرية ، هو انتقال من حالة جزئية إلى حالة كلية ، وبالتالي ، فإن سلطة الأكثرية  الحرة هي دائماً مع توسيع سلطة الأكثرية ، وإن مصالحها قائمة في تجاوز الدولة القطرية إلى دولة أكثر اتساعاً وشمولا .

     بكلمة أخرى ، إن إزالة العائق السياسي هو أهم شرط من شروط الانتقال إلى الدولة  - الأمة ، وذلك لأنه العائق الأبرز أمام المصالح المتبادلة ويمنعها أن تعبر عن نفسها سياسياً واقتصادياً وثقافياً .

     فضلاً عن أن الوحدة أو الاتحاد أو أي شكل من أشكال الدولة- الأمة الناتجة عن الخيار الديمقراطي هو تجاوز لعقلية السلطة - الملكية التي لا تنظر إلى الوحدة إلا من زاوية الابتلاع ، " الأكبر للأصغر ، أو الأقوى للأضعف ، أو الأفقر للأغنى " ، وهي العقلية المهيمنة لدى السلطات السائدة الآن .

هـ - الديمقراطية ومسألة الهوية

        تعتبر الهوية وهي الشعور بالانتماء  ، ظاهرة إنسانية أصيلة وإذا كان الوطن العربي هو وطن العرب وإذا كانت العروبة هي التعبير النظري عن الانتماء ، فإن الوطن العربي الذي يعيش الآن حالة التمزق السياسي والاقتصادي قد عبر عن هذا التجاوز بالهوية الثقافية والتي أخذت صيغة العروبة وهي الانتماء إلى تاريخ ولغة وقيم وعادات ودين وعرق . لكن الهوية الثقافية لم تنتصر الانتصار الكلي بسبب أن الهويات الدينية والإثنية ظلت حاضرة بهذا الشكل أو ذلك بسبب غياب الدولة - الأمة الديمقراطية ،  وبسبب أن السلطة السائدة لم تعر الهويات ، ولا حق التعبير عن نفسها ، أي شأن .

      إن الديمقراطية هي الشرط الأول لانتصار الهوية الكلية من خلال حق الهويات في التعبير عن نفسها ثقافياً وسياسياً ، وقمع الهويات هو الشرط الأساسي لظهور الهويات المتعصبة سواء كانت دينية أو إثنية أو ما شابه ذلك ، والتعصب يدمر الصيغة السياسية –الثقافية ذات المنحى التعددي  .

      وبالعكس ، في النظام الديمقراطي يتاح للجميع التعبير عن الهوية وبالتالي تتحول الهوية إلى هوية هي الأخرى ديمقراطية ، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية الكلية ، وشكلاً من الثراء الثقافي العربي .

     إن الدولة الوطنية الديمقراطية سواء اتسعت لتشمل الأمة أو ضاقت لتشمل جزءاً من الأمة هي التجاوز الأرقى للطائفية والنزعات الإثنية . وبالتالي ليست الديمقراطية هي تكريس لنظام سياسي طائفي أو إثني ، وتحويل السلطة إلى حقوق طائفية مكرسة دستورياً بل على الضد من ذلك .

       إن الديمقراطية ، كمساواة في الحق والتعبير عن هذا الحق ،  وبخلقها المواطن المنتمي إلى الأمة - الدولة ، تزيل أي امتيازات قائمة على الدين والعرق والطائفة والمنطقة  إلخ ... .

      من هنا تكون السمة الأساسية للدولة الوطنية الديمقراطية هي العلمانية ، والترابط بين العلمانية والديمقراطية قضية جوهرية في أي تقدم إنساني منشود للعرب . فالعلمانية تكون فقيرة في غياب الديمقراطية لأنه يمكن أن يقوم نظام علماني ديكتاتوري ، ولكن لا يمكن تصور نظام سياسي ديمقراطي غير علماني .

    وليست العلمانية الديمقراطية صيغة ضد الدين ، بل هي صيغة لتأكيد حرية الاعتقاد دون إكراه ، والعلمانية هي ضد أي سلطة دينية أو سلطة أي هوية ضيقة ، لأن الأصل في العلمانية هي المساواة بين المواطنين دون اعتداد بالانتماء الديني أو الإثني أو المعتقدي .

 

و - الديمقراطية والمؤسسة

 

     إذا كانت الدولة تعبيرا عن واقع سياسي جغرافي سكاني للأمة ، فإن مؤسسات الدولة هي التعبير العملي لتحقيق مصالح المواطنين في الدولة . والمؤسسة هي سلطة تنظيم لحياة الناس ، بحيث يكون جميع الناس متساوين في الحقوق والواجبات ، والمؤسسة هي التي تحمي هذه الحقوق وتفرض الواجبات ، و من هنا كانت المؤسسة مستقلة عن السياسة  ، بمعنى أن النظام السياسي الديمقراطي ، وهو التعبير عن خيارات البشر الحرة ، لا يلغي استقلال المؤسسة أو فاعليتها المستقلة بوصفها شكل تحقق حياة الناس العملية .

       كما أن المؤسسة " الدولة " الحديثة هي بنية إنسانية هدفها رعاية مصالح المجتمع  ، لذا لا أيديولوجيا ولا مذهب لها ، وهي دولة بشرية مهمتها تيسير أمور مواطنيها لا تعبيد الطريق لهم إلى الآخرة .

        لا شك أن المؤسسة سلطة من حيث أنها ترعى الحقوق وتفرض الواجبات ، و من هنا جاء التعبير : السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية ، والسلطة القضائية . وجاء أيضاً أهمية مبدأ فصل السلطات حتى لا تطغى سلطة على أخرى .

     والديمقراطية هي الشرط الأمثل لعمل هذه السلطات واستقلالها ، وفي غياب الديمقراطية تزول آلية فصل السلطات ، والحق أن آلية نشأة السلطة في الوطن العربي عموماً قد أنمت من دور مؤسسة الجيش في تحديد السلطة وآلية عملها والحفاظ عليها مع تنامي مؤسسة الأمن .

     وعلاقة الجيش بالسلطة ليست حديثة في الوطن العربي فالجيش هو أحد أهم المؤسسات التي أنتجتها الدولة العربية الحديثة . وهي مؤسسة لا غنى عنها لأي سلطة أو دولة ، لأنه ( الجيش ) تعبير عن سيادة الدولة ، ومهمته الحفاظ عليها ضد أي عدوان خارجي . لكن الجيش تحول من مؤسسة من مؤسسات الدولة إلى عامل حاسم في الصراعات السياسية من أجل السلطة .

     إن ظاهرة الانقلابات العسكرية ودخول الجيش في معترك السياسة قديمة في المنطقة العربية ، فالجيش العثماني الذي تكون من أبناء قوميات متعددة ، وشكل ضباطه فئة أرستقراطية هو الذي قام بإنقلاب /1907/ تحت قيادة حركة الاتحاد والترقي ، ومنذ ذلك التاريخ والجيش يقوم بدور حاسم في السلطة في أغلب بلدان العالم الثالث .

       والجيش في الوطن العربي ، بعد الحرب العالمية الثانية ونيل الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي، أصبح هو العنصر الحاسم سواء في تغيير السلطة أو في الحفاظ عليها ، لا سيما وأنه قد أصبح تعبيراًُ عن الأيديولوجيات السائدة . وأصبح البحث عن السلطة ذات الأيديولوجيات مهمة أساسية من مهمات الجيش الذي راح ينتمي إلى فئات جديدة نشأت بفعل التطورات التحديثية للأقطار الوليدة .

       وإن ضعف الحياة السياسية وحداثة السلطة الديمقراطية وبروز الفئات الوسطى المدينية والفلاحية ، أبرزت المؤسسات العسكرية الأقوى القادرة على التغيير ، فنشأت الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة ، كما أنمت دوره في الحفاظ على السلطة القائمة ، وهكذا صار الجيش جزءاً أساسياً من الحياة السياسية ليتحول في النهاية إلى محدد لمصير السياسة ، فاختلطت لديه المهمة الوطنية في الحفاظ على السيادة والمهمة السلطوية في الحفاظ على السلطة ، وتكونت النخبة العسكرية التي التهمت السلطة في النهاية .

       إن الديمقراطية هي التي تعيد للجيش وظيفته الأساسية والوحيدة ألا وهي الدفاع عن الوطن ،عندها يغدو الجيش أداة في يد السلطة الديمقراطية ، ولهذا فإن الديمقراطية تعيد الجيش إلى مفهوم الجيش الوطني أي إلى مؤسسة وطنية بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية والخلافات السياسية .

 

ز - الديمقراطية والعدالة والاجتماعية والاشتراكية

        لما كان التفاوت الطبقي ظاهرة موضعية ، ولما كان الاستغلال والاضطهاد وغياب المساواة ثمنا لمثل هذا التفاوت ، فإن البشر الواقع عليهم هذا الاستغلال والتفاوت يجب أن يمتلكوا القوة اللازمة للوقوف في وجه هذا العسف والاضطهاد والاستغلال .

      هذه القوة للبشر غير ممكنة إلا إذا تحولوا إلى بشر قادرين على التعبير النظري والعملي عن قوتهم ، وهذا التعبير في شقيه يجب أن يكون مؤطراً في حركات  ، اجتماعية سياسية وديمقراطية ، وهي وحدها توفر مثل هذه الإمكانية : < الحزب السياسي الذي يتبنى مصالح المضطهدين - النقابة الناطقة باسمهم - الجمعية المعبرة عن أهدافهم - الصحافة المدافعة عن مصالحهم  إلخ ... > ، وفي غياب هذا كله يمارس الرأسماليون وحشيتهم دون أي رادع اجتماعي - سياسي .

     فقوة الرأسمال وهمجيته الناتجة عن الربح ، الهدف الأول والأخير لهذه القوة ، تحتاج إلى قوة مكافئة : الإضراب ، التظاهر ، وكل أشكال ما يلجم القوة التعسفية .

         وفي غياب الديمقراطية والسلطة لن تكون السلطة إلا سلطة الأقوى ، ولا  قوة أقوى من قوة رأس المال غير الملجوم .

     والديمقراطية هي التي تحقق التوزيع العادل للقوة وبالتالي التوزيع العادل للسلطة ، ولقد بات واضحاً عبر التجربة التاريخية أن الاشتراكية ، التي هي جوهر العدالة الاجتماعية والتحرر من سلطة رأس المال ، لا يمكن أن تتحقق عبر نقل ملكية وسائل الإنتاج إلى الدولة ، إذ لا فرق من أن تكون الدولة هي الرأسمالية الجديدة أو أن تكون وسائل الإنتاج بيد أصحابه .

      المشكلة كيف تكون السلطة كثمرة للتوزيع العادل للقوة عنصراً مهماً أو أداة فاعلة في لجم الاضطهاد الطبقي الذي ينتج الفقر والغنى ؟

 

 ح - الديمقراطية والتحرير الوطني

        ماذا يعني التحرير الوطني الآن ؟

       عاش الوطن العربي مرحلة الثورات التحريرية من الاستعمار التقليدي التي انتهت بزوال الاستعمار المباشر على أقطار الوطن العربي باستثناء فلسطين  .

      غير أن الاستقلال مع تغيير مراكز الإمبريالية العالمية وخاصة انتقال المركز إلى أمريكا قد أدى إلى نوع آخر من التبعية ، تبعية عدد كبير من أقطار الوطن العربي إلى المركز الإمبريالي الأمريكي. وإذا كانت بعض الدول العربية قد عاشت مرحلة من الاستقلال الوطني بفعل العلاقة مع الاتحاد السوفييتي ، وطبيعة السلطة التي جاءت مسلحة بأيديولوجيا حركة تحرير وطنية وقومية ، فإن زوال المنظومة الاشتراكية ، والتحولات في النظام السياسي العربي قد أعاد تبعية الوطن العربي للمركز الإمبريالي والذي وصل حدا أخيراً باحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية .

      والتحرر الوطني اليوم هو تحقيق الاستقلال عبر سيادة الإرادة الوطنية والمصلحة الوطنية ، ولما كانت التبعية غير ممكنة إلا بتوافر عنصرين : داخلي وخارجي ، فإن إزالة العنصر الداخلي المتمثل بالسلطة السياسية  أمر حاسم في فض هذه العلاقة بين التابع والمتبوع . إذ لا يمكن لأية سلطة أن تمارس سيادتها إلا من خلال مجتمع أسياد وأحرار . مجتمع يشعر بنوه بأنهم عندما يدافعون عن الوطن فإنما يدافعون عن حريتهم المهددة بالعدوان الخارجي والتبعية للأقوى .

     بكلمة واحدة ، إن التحرر الوطني هو مهمة وطنية كلية يكون فيها الشعب مندرجا في الكفاح الوطني ، و عندها تكون السلطة القوية هي السلطة المستمدة قوتها من الإجماع الوطني ، والسلطة الضعيفة هي القائمة أنفاً عن إرادة الشعب .

 

ط - الطريق إلى الديمقراطية أو إلى الدولة الوطنية الديمقراطية .

       إذا كانت الديمقراطية هدفاً رئيسياً لكل فئات الشعب فإن الكفاح من أجل الديمقراطية هو السبيل الضروري للوصول إليها ،  لكن الكفاح من أجل الديمقراطية لا بد وأن يمر عبر توسطات كثيرة ،  وعبر زمن ضروري وخاصة بعد العهود المتعاقبة من غيابها .

      والكفاح الديمقراطي مشروط بالواقع نفسه ، وفي كل الأحوال ، أن الكفاح الديمقراطي ليس هو استبدال سلطة بسلطة ، بل إنتاج شروط إنتاج السلطة ديمقراطياً ، وإنتاج السلطة الديمقراطية هو عملية ثورية بالمعنى العميق للكلمة ، والمقصود بالثورة الديمقراطية هو الانتقال من حالة ما قبل ديمقراطية إلى حالة ديمقراطية من خلال الكفاح المشروط واقعياً .

     والتاريخ الواقعي الذي عاشته الأمة العربية يدلل على عقم الطرق التالية لإحداث التغيير المنشود:

1 – عقم الانقلابات العسكرية  ، فالانقلابات العسكرية التي تمت في الخمسينيات والستينيات لم تنجب نظما ديمقراطية ، بل أنجبت نظما هي أقرب إلى الاستبدادية ، حتى ولو حملت مشروعاً وطنياً تحديثياً اجتماعياً .

2 – عقم الحركات العنيفة المسلحة السرية والعلنية ، إنها حركات مأزومة غير شعبية ، وتقدم تضحيات مجانية أمام سلطة سائدة بالقوة ، وهي ردود فعل غير عقلانية ، فعمليات الاغتيال السياسي تنهي فرداً ولا تنهي نظاماً . خاصة إذا كانت هذه الحركات تسعى لقيام سلطة بديلة هي أكثر استبداداً من السلطة التي تواجهها .

3 – عقم الثورات الكلية الشاملة ، فعصر الثورات المدعومة بأيديولوجيات كلية صار إلى ماض.

     إن الثورة الديمقراطية هي ثورة سلمية ، إنها ثمرة من ثمرات المجتمع الذي يسعى لتنظيم نفسه من اجل هدف واضح وهو الديمقراطية .

 والثورة الديمقراطية قد تكون متدرجة في بعض البلدان التي عاشت زمناً طويلاً في بنية بطيئة التغيير وقد تكون متسارعة في مجتمعات سريعة التغييرات وذات تاريخ ديمقراطي أقل أو أكثر .

 

 

 

ثالثا :التيار القومي والصراع العربي – الصهيوني

هناك بعض الحقائق التي يجب التذكير بها حين تناول الصراع عربي – الصهيوني :

1 – تنتمي إسرائيل إلى الوقائع التي خلقتها المرحلة الاستعمارية في الوطن العربي عموماً وفي بلاد الشام على وجه الخصوص ، إذ من الصعب تصور قيام دولة إسرائيل بمعزل عن الاستعمار البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، والاتفاقات التي جرت بين بريطانيا وفرنسا على  اقتسام تركة الرجل المريض

2 – لم يؤد زوال الظاهرة الاستعمارية المباشرة إلى زوال الوقائع هذه ( تجزئة بلاد الشام وقيام إسرائيل ) ، وظلت إسرائيل كياناً محمياً من خلال الدعم العسكري  التقني والسياسي والاقتصادي الأوروبي – الأمريكي .

3 – بسبب عدم انتماء إسرائيل إلى المنطقة إثنياً وثقافياً ، كان لا بد من تحويلها إلى قوة عسكرية قادرة على رد أي محاولة لإزالتها من جهة ، وعلى التوسع من جهة ثانية ، وعلى فرض وقائع جديدة لإجبار العرب والدول المحيطة بها بخاصة ، على الاعتراف بها ، وهذا يعني أن خطر إسرائيل العسكري – التوسعي لن يبقى في فلسطين المحتلة بل سيطال جميع أقطار العرب وقد دللت حرب حزيران 967 على هذه الطبيعة التوسعية ، وهذا ما يؤكد أن الصراع عربي - صهيوني وليس فلسطينيا - إسرائيليا كما يراد له .

4 – لم يكترث العالم الأوروبي والأمريكي ولا إسرائيل بالقضية الفلسطينية، إذ اعتقدت إسرائيل دائماً أن الخطر على وجودها آت من الدول العربية المحيطة ووجدت الحل في مؤسسة عسكرية قادرة على درء خطر كهذا،  لكن الشعب الفلسطيني كواقعة موضوعية صار ، منذ نشوء منظمة التحرير مروراً بالانتفاضة وانتهاء بالكفاح الداخلي ضد السياسة العنصرية ، هو العنصر الفاعل في دفاعه عن حقوقه ، وهذا الأمر هو الذي يحكم الآن طبيعة الصراع في الشرق العربي ، فلا اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ، ولا اتفاقات وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، ولا اتفاق فصل القوات بين سورية وإسرائيل ، حال دون استمرار القضية الفلسطينية كقضية شعب له حقوق ذات ثلاثة أبعاد :

           آ -         زوال الاحتلال وقيام دولة مستقلة عاصمتها القدس .

           ب -       عودة اللاجئين ( حق العودة ) .

           ج -       إنهاء السياسة العنصرية .

5 – إن حضور فلسطين في الوجدان العربي وفي الوجدان الإسلامي يؤكد استحالة أي حل لقضية الشعب الفلسطيني دون حل المشكلات الثلاث التي ذكرت ( الدولة ، اللاجئين ، العنصرية ) ، وهذا الذي يفسر أنه بعد 58 عاماً على قيام إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة تبدو القضية وكـأنها حصلت الآن وهذا يعني أن الرهان على الزمن لحل تلقائي للمسالة أمر بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً .

6 – إن غياب الحل للمسألة الفلسطينية ، واستمرار إسرائيل دولة عنصرية قائمة على نفي الشعب الفلسطيني باستخدام أعلى درجات العنف الذي يصل حد الإبادة الجماعية والعقوبات الجماعية ، والدعم الأمريكي المتواصل لسياسة كهذه ، والعجز الأوروبي عن القيام بأية فاعلية سياسية قد ادى إلى :

           آ –        استعادة الذاكرة التاريخية العربية لأصل المشكلة ( عداء لأوروبا ) .

           ب -       اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية شريكا حقيقياً ومباشراً في مأساة الشعب الفلسطيني ، مما ولد حالة العداء المطلق لأمريكا.

            ج -      زوال هيبة النظام العربي الرسمي ( السلطات ) أمام الشعب العربي بوصفه مسؤولاً هو الآخر عن واقع الحال بعجزه الظاهر عن الاندراج في الكفاح ضد إسرائيل .

            د -       تعويض الشعب الفلسطيني عن غياب التناسب في القوة المادية - العسكرية والاقتصادية والدولية - لصالح إسرائيل بالقوة الروحية – الجسدية التي يطلق عليها في الغرب وأمريكا وإسرائيل عمليات إرهابية أو انتحارية ، وامتداد هذه القوة الروحية – الجسدية في فئات عربية وإسلامية .

           تأسيساً على هذه الحقائق الآنفة الذكر تستخلص النتيجة التالية :

          أنه  دون حل لقضية شعب فلسطين وما تولد عنها ، فإن الاستقرار والأمن والسلام والتنمية في الشرق العربي من المستحيلات ، ولما كانت إسرائيل واقعة استعمارية عنصرية ، فإن الحل التاريخي والمنطقي والدائم لقضية فلسطين هو زوال هذا الكيان العنصري بوصفه تهديدا للأمة ، وذا وظيفة لمنع وحدتها وتقدمها ، وزوال هذا الكيان بوصفه دولة عنصرية بامتياز ، وهذا حل معقول تاريخياً ومعقول واقعياً .

         وبالتالي ، فإن التيار القومي العربي ينظر إلى جميع التسويات التي تمت مع هذا الكيان على أنها باطلة  ، كما أنه ينظر إلى الصراع مع الكيان العنصري الصهيوني على أنه صراع تاريخي لن ينتهي إلا بانتهاء هذه الدولة الغريبة . ومن هنا فإن الحل القومي لمسألة الأمة والحل الديمقراطي لمسألة الحكم والحل القومي لقضية فلسطين في ترابط مطلق .

   

 

رابعا : التيار القومي ومسألة الأقليات القومية والإثنية

 

     يشكل العرب القومية الأكبر من بين القوميات والإثنيات التي تعيش في الوطن العربي . ولو أن العرب قد وصلوا إلى مرحلة الأمة – الدولة لما شكلت الأقليات نسبة تذكر بالنسبة إلى الأكثرية العربية.

     إن جزيرة العرب "السعودية، اليمن، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، قطر، البحرين" خالية من الأقليات الإثنية التاريخية المنتمية إلى المنطقة < فالعمالة الآسيوية في بلدان النفط لا تشكل أقلية إثنية > ، وكذا الأمر في مصر.

     أما في العراق وبلاد الشام والمغرب العربي والسودان تعيش الأقليات القومية والإثنية جنباً إلى جنب مع العرب، وقد مضى زمن طويل دون أن تظهر أية نزاعات إثنية في هذه البلدان.

     وبسبب التجزئة تبدو بعض الأقليات القومية والإثنية ذات حجم كبير بالقياس إلى عدد سكان القطر " كالأكراد في العراق، والأمازيغ في بلدان المغرب العربي، والقبائل ذات الأصول الأفريقية في السودان وموريتانيا " ،  فيما تبدو الأقليات محدودة في بلاد الشام، وقد جرت فيها عمليات اندماج كبيرة < الأرمن، الشركس، الألبان، الكرد...إلخ > بحيث لا وجود لمشكلات إثنية ، باستثناء مسألة الجنسية لبعض الكرد في شمال سورية.

      وإذا كانت الأقليات القومية والإثنية هي ذلك العدد من السكان الذي عاش تاريخياً في المنطقة وحافظ على بعض العادات والتقاليد واللغة والوعي الذاتي فإن النظر إلى هذه الأقليات يجب أن ينطلق من حقها في التعبير عن ذاتها ، والذي يجب أن يتجسد في الدستور والقانون ، و هذا التعبير يأخذ شكل الحق في استخدام اللغة القومية ، والحق في ممارسة عادات الأفراح والأتراح الخاصة، وحق المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات مع جميع السكان .

    ولما كان التيار القومي يؤمن إيماناً مطلقاً بالنظام الديمقراطي، ولما كان النظام الديمقراطي لا يقوم إلا بوجود المواطن ، ولما كان المواطن لا وجود له بمعزل عن فكرة المساواة في الحقوق والواجبات ، لذا فإن حل مسألة  هذه الأقليات في الوطن العربي لن يتم إلا في إطار النظام الديمقراطي المنشود.

    ولقد أثبتت التجربة التاريخية في الوطن العربي أن قمع الهويات القومية من قبل السلطة العربية قد أنتج ظاهرتين سلبيتين :

   أولاً : الشعور بالغبن وبالتالي ظهور التعصب الإتني لدى هذه الأقليات. فالهوية – أية هوية – إذا ما قمعت فإنها تتحول إلى هوية تعصبية.

   ثانياً: فتح القنوات للتدخل الخارجي عبر اللعب على الشعور القومي لدى تلك الأقليات، والتي قد تلجأ إلى الخارج من أجل نيل حقوقها.

وعليه ، فإن التيار القومي إذ ينطلق من فكرة الحق الكامل للمواطن في الوطن العربي فإنه عملياً يغلق الباب أمام النزعات التعصبية وإمكانية ظهورها، كما يغلق القنوات التي يمكن أن تستغلها القوى الخارجية.

     ويبقى السؤال: ألا يمكن النظر إلى مسألة الأقليات القومية من زاوية حق تقرير المصير؟

    إن التيار القومي لا يرى غضاضة من أن ينظر إلى هذه المسألة من زاوية حق تقرير المصير، ولكن ضمن النقاط التالية:

   أولاً: اعتبار الحكم الذاتي ضمن الدولة – القطر، أو الدولة – الأمة، شكلاً من أشكال تقرير المصير.

   ثانياً: إذا كانت الأقليات القومية تمتلك جغرافيا محددة شبه نظيفة ولعدد من السكان المنتمين إلى أقلية ما، فإن التيار القومي يعطي الحق لهذه الأقليات – عبر الاستفتاء – في اختيار البقاء ضمن الدولة أو الانفصال. مع مراعاة العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة، كالكرد في شمال العراق والقبائل الأفريقية في جنوب السودان ، أو منطقة القبائل الأمازيغية في أقطار المغرب العربي.

   ثالثاً: أما الأقليات التي اندمجت مع العرب وحافظت على بعض خصائصها وتسكن المدن ذات الأغلبية العربية، فإن حق تقرير المصير لا ينطبق عليها إطلاقاً.

    وأخيراً فإن طرح مسألة الأقليات القومية في الوطن العربي على بساط البحث، والاعتراف بوجودها، والكشف عن الأسباب التي أنتجتها، أو التي تسعر من حضورها، من شأنه أن يخلق المناخ الملائم لإيجاد الحلول العقلانية والعملية لها. وعلى العكس، فإن إخفاء هذه المسألة، والتستر على وجودها من قبل الأنظمة السياسية التي ولدتها، والتي وجدت فيها القوى الخارجية مدخلاً للعبث في الشؤون الداخلية، يزيد من تفاقم المشكلة.

    غير أن المدخل الديمقراطي الوطني لحل المسألة يبقى هو الحل الأمثل المنشود.

 

                                      خامسا : التيار القومي وقضية المرأة

 

     لما كان التيار القومي المنشود عربياً تيارا علمانيا ديمقراطيا يؤمن بإعلاء شأن العقل والعلم ، ويؤمن بحرية الإنسان بمعزل عن لونه وجنسه وعرقه ومعتقده ، فإنه  يدعو إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة بحيث يزول كل اضطهاد ذكوري تاريخي موروث ضد المرأة العربية بدوافع تخفي النزعة العميقة لدى المجتمع التي كرست ملكية المرأة للرجل .

    إن التيار القومي العربي  يدعو إلى حرية المرأة بالمعنى العميق للكلمة ويؤكد حق المرأة بالعمل والتعلم وخيار المهنة والزواج . ولهذا فإنما يؤكد أهمية أن تعين هذه الحقوق دستورياً وقانونياً وتطبق في الممارسة الحياتية ، بحيث لا ينطوي القانون وبخاصة قانون الأحوال الشخصية على أي مظهر من مظاهر عدم المساواة .

    غير أنه لا يمكن عزل قضية المرأة في الوطن العربي وتحررها عن مجمل نحرر المجتمع ، وتقدمه ، وبالتالي في الوقت الذي يدعم التيار القومي فيه أية حركة نسوية من أجل تحرر المرأة وتحقيق المساواة ، فإنه يدعم دخول المرأة حركة المجتمع المدني بعامة ، وممارسة عملية الكفاح جنباً إلى جنب مع الرجل في سبيل القضايا المشتركة  ، ولا يمكن عزل كفاح المرأة عن الكفاح الاجتماعي الطبقي والسياسي .

 

سادسا : التيـار القومـي العربـي وحركـة العالـم (العولمة)

    

     ينظر بعض مؤدلجي العولمة وأنصارها في الوطن العربي إلى أي قول في الدولة القومية، أو الوحدة القومية أو الهوية القومية على أنه قيل في غير أوانه، ذلك أن العولمة – التي يعرفها البعض بأنها التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية -  قد أتت على دور الدولة أولاً، وأتت على الدولة القومية التي تنتمي إلى مرحلة الرأسمالية والإمبريالية، وأتت على مسألة الهوية القومية في وقت يشهد فيه العالم نشوء القرية الكونية  أو الثقافة العابرة للقارات كما هي الشركات العابرة للقارات.

     أن تكون العولمة حركة عالمية فهذا مما لا شك فيه، ولكنها حركة الرأسمالية وقد تعينت اليوم بالعولمة ،  فالعولمة هي الرأسمالية في شكل ظهورها الجديد وبالتالي ليست العولمة تشكيلة اجتماعية – اقتصادية جديدة تقيم قطيعة مع تشكيلة ماضية ، كما هو حال الرأسمالية مع الإقطاعية ، إن حال الإمبريالية بالعلاقة مع الرأسمالية ، تماماً كحال العولمة مع الإمبريالية ، إذ احتفظت من الإمبريالية باندماج الرأسمال المصرفي مع الرأسمال الصناعي الاحتكاري ، والاحتكار المالي وتقسيم العالم واقتسامه ، وزادت على ذلك الاستقلال النسبي للشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات ، واستخداما هائلا  للثورة الإلكترو- نيترونية،  ونظاما عالميا تفرضه الدول المتعولمة على التجارة وهو التجارة الحرة ، وتراجع الدولة الإمبريالية عن وظائف محددة كانت تقدمها للمجتمع .

     هذه هي العولمة من حيث هي ظاهرة موضوعية ، والقول بالطابع الموضوعي للعولمة لا يعني ، إطلاقاً ، الاستسلام لها بهذه الحجة، فالإمبريالية ظاهرة موضوعية هي الأخرى، والاستعمار ظاهرة موضوعية أيضا،  ولكن هذا لم يمنع الشعوب من الكفاح للتحرر من الآثار المدمرة للإمبريالية والاستعمار . والقول الإيديولوجي أن العولمة أذنت بنهاية الدولة مع الضد من ذلك، فالدولة الأمريكية هي التي اتخذت قرار  حرب ضد العراق مرتين ، وبعض الدول هي التي اتخذت قرار الحرب في أوروبا ، والدولة الأمريكية هي التي تجري المباحثات الاقتصادية مع الدولة اليابانية لحماية الاقتصاد الأمريكي ، ومازالت الدول المتعولمة في أوروبا وأمريكا تسيطر على الجزء الأكبر من موارد المجتمع .

     الدولة الأمريكية المتعولمة تتدخل في بيع السلاح، والتقنية وتفرض العقوبات إلخ...... .

     إن المطلوب أمريكيا ، هو إنهاء  مهمة الدولة في ما كان يسمى بعالم الأطراف حتى يسهل على العولمة ودولها أن تقضي على أي تفكير باقتصاد وطني وتنمية وطنية ، وتحويل دول العالم الثالث  إلى حراس للاختراق السلعي العولمي.

     وإذا كانت العولمة إنجاز دول إمبريالية حققت وحدتها القومية ، فلماذا يجب التخلي عن مشروع دولة قومية وسوق قومي إذا ما أراد العرب أن  يشاركوا في العولمة ؟ إنه من المنطقي لمن أراد أن يكون فاعلاً في العولمة أن يوحد سوقه القومي ليشارك في حركة العالم ، ولا  يوحد السوق القومي  خارج الدولة القومية .

      وإذا كانت العولمة تسعى لأن يكون العالم قرية كونية ، أوليس أولى بمن يأخذ على العرب قولهم بدولة الأمة أن يعملوا على قرية عربية للدخول إلى القرية الكونية ، كما أن الانتقال الحر للمعلومات في ظل العولمة عامل مساعد للانتقال الحر للمعلومات بين العرب ،  وإذا كان انتقال العمالة حراً في ظل العولمة ،  فمن الأجدر أن يكون انتقال العمالة العربية حراً هو الآخر بين الأقطار العربية.

     ولا بد من التأكيد  بأن الإنجازات التي ولدتها العولمة على مستوى وحدة المعرفة الإنسانية قد قوت الميل لدى العرب من أجل التوحد . إذ زاد الإحساس بضرورة إيجاد معادل سياسي لهذه الأمة، وزاد الاقتناع بأن هذه الدويلات " السلط "  هي ما يناقض حركة التاريخ والعولمة بالذات لأنها تنتمي إلى عالم تقليدي قديم استعماري و ما قبل استعماري.

     وبالتالي فإن التيار القومي العربي في الوقت الذي يرفض فيه أيديولوجيا العولمة وطرق الهيمنة الرأسمالية المتعولمة  وبخاصة الأمريكية منها على الوطن العربي ، ويرفض أن يكون العرب كما هامشياً، يؤكد ضرورة الاستفادة ً من حركة التاريخ الجديدة نحو التوحد وبروز التكتلات الاقتصادية السياسية الكبرى.

     فإذا كان العالم المعاصر ينحو نحو إيجاد مثل هذه التكتلات انطلاقاً من الوضع الجغرافي القاري ، فإن العرب أجدر الناس بأن يفكروا في إنجاز التكتل العربي ، الذي ، بسبب العوامل المشتركة ، لن يكون إلا تكتل أمة يصل بها الحال إلى تكوين الدولة الأمة ،  أو أمة دولة.

 

**********