العراق الجديد ينفجر طائفيا
عبد الباري عطوان
يصر المسؤولون الامريكيون وحلفاؤهم في الحكومة
العراقية علي ان العراق لا يشهد حرباً اهلية طائفية، فإذا كان تفجير ست سيارات
مفخخة في مدينة الصدر الشيعية ومقتل مئتي شخص من سكانها، وقصف منطقة الاعظمية
السنية في العاصمة العراقية واقتحام مساجدها، وقتل ثلاثين منهم كرد انتقامي رغم حظر
التجول لا يعتبر حرباً اهلية، فليقل لنا الرئيس جورج بوش والسيد جلال الطالباني
رئيس العراق والسيدان عبد العزيز الحكيم ورئيس الوزراء نوري المالكي ما هي الحرب
الاهلية الطائفية اذن، وما هي مواصفاتها، وكم سيقتل من العراقيين الابرياء حتي
يسلموا بزيف تقويماتهم وفشل سياساتهم؟،
غزو العراق، ومن ثم احتلاله، واستجلاب مجموعة من الحاقدين الطائفيين لحكمه من
المنافي، اكبر عمل اجرامي من نوعه في التاريخ الحديث، والسبب الرئيسي في كل ما يحل
بالعراق، والمنطقة بأسرها من كوارث. فالتغيير حدث بالفعل، ولكن الي الاسوأ، ولا
توجد أي بارقة أمل بوقف عملية الانهيار المتسارعة نحو مجهول دموي التي يعيشها هذا
البلد العربي المسلم حاليا.
فالقيادة الامريكية الغبية المتغطرسة ظلت دائما تصحح الخطأ بخطأ اكبر واكثر فداحة
في مرحلة ما بعد الغزو، ومنذ اليوم الاول لاستباحة قواتها للعاصمة العراقية، فبدلا
من ان تفرض الامن وتحمي المؤسسات وخاصة المتحف العراقي الذي يضم كنوزاً حضارية
ثمينة، وتعتبره ملكا للبشرية بأسرها، حمت وزارة النفط وتركت الرعاع واللصوص وقطاع
الطرق ينهبون هذه الثروات.
والأهم من هذا ان هذه القيادة ارتكبت الحماقة الاكبر عندما وقعت في مصيدة الدكتور
احمد الجلبي، وبادرت الي حل الجيش المؤسسة الوحيدة غير الطائفية في البلاد تحت شعار
تصفية البعث ، وعززت وجود الميليشيات الطائفية وسلمتها البلد علي طبق من فضة لتعيث
فيها فسادا وقتلا وتشريدا وتعذيبا.
احصاءات الامم المتحدة تؤكد مقتل 7500 عراقي في شهري ايلول (سبتمبر) وتشرين الاول (اكتوبر)
الماضيين، وهروب مليوني شخص من العراق الجديد منذ بدء الغزو، وهي ارقام علي اهميتها
لا تعكس الا جزءا يسيرا من الحقيقة.
الادارة الامريكية وحلفاؤها لا يستطيعون، مثلما جرت العادة، تحميل ابو مصعب
الزرقاوي مسؤولية تدهور الاوضاع، وغرق البلاد في الحرب الاهلية الطائفية، فالزرقاوي
انتقل الي الرفيق الأعلي منذ أشهر، لكن الاوضاع ازدادت سوءا بعد ذهابه بدلا من ان
تتحسن، وبات هناك اكثر من زرقاوي في الطرف الآخر مع فارق بسيط وهو ان زرقاوي حكومة
المالكي والائتلاف الحاكم الذي تمثله هو زرقاوي حميد يحظي بالحماية والتمجيد لأن
ضحاياه من الطائفة الاخري.
الحرب الطائفية في العراق تزداد اشتعالا وتصاعدا، ليس لأن الشعب العراقي طائفي، فقد
ضرب اروع الأمثلة في التعايش والترفع علي هذا المرض الفتاك، واستطاع تحويل بلاده
الي قوة اقليمية عظمي ترتكز الي قاعدة علمية راسخة، وقوة عسكرية مرهوبة، ولكن لان
الحكام الجدد طائفيون، تسيطر عليهم عقلية الثأر والانتقام، والرغبة في تقزيم العراق
ودوره ومكانته، بما يعزز دول الجوار، وقوتها علي حسابه.
السيد المالكي لا يريد، ولا يستطيع في الوقت نفسه، تنفيذ وعوده بحل الميليشيات،
لانه نتاج احداها، ولانها تغولت في القتل والتعذيب، وافراز فرق الموت، بمباركة منه
والتكتل السياسي الذي يمثله.
الديمقراطيون في الدول المتحضرة يقدمون استقالاتهم، ويغادرون سدة الحكم، عندما
يفشلون في تحقيق وعودهم للمواطنين، ولكن المجموعة الحاكمة في العراق الجديد التي تتــــباهي
بتوجهاتها الديمقـــــراطية، ووصولها الي السلطة عـــبر صناديق الاقــــتراع، ترفــــض
تحمل مسؤولية الفشــل الذريع الذي نراه حاليا في العراق، والاستقالة من مناصبها.
السيد المالكي لا يريد الاستقالة، ومصر علي التمسك بكرسي رئاسة الوزارة رغم فشل كل
خططه الأمنية التي اعلنها لضبط الأمن في العاصمة بغداد، الواحدة تلو الاخري، لإكمال
الهدف الذي جاء من أجله، والمجموعة المحيطة به، وهو تدمير العراق، وتقطيع اوصاله،
وطمس هويته العربية، واعادته الي عصور الظلام.
فليس صدفة ان يكون ابرز انجازات حكام العراق الجدد وميليشياتهم قتل العلماء
العراقيين الواحد تلو الآخر، واساتذة الجامعات والطيارين العسكريين منهم والمدنيين
علي حد سواء، ودفع من بقي منهم علي قيد الحياة الي الهروب بجلده الي المنافي، بحيث
لا يبقي في العراق غير الجهلة والأميين، بينما يطور جيران العراق برامج نووية
وصناعة عسكرية متطورة.
ولعل موقف السيدين المالكي والطالباني في عدم التحلي بالشجاعة، وتحمل مسؤولية
الكوارث الحالية، وتقديم الاستقالة اعترافا بالفشل، يهون بالمقارنة مع مواقف الحزب
الاسلامي العراقي وزعيمه جواد الهاشمي وشركائه في جبهة التوافق السنية، من امثال
عدنان الدليمي، ومحمود المشهداني رئيس البرلمان، الذين صدقوا اكذوبة الديمقراطية
الامريكية، والتعايش مع الفكر الطائفي، ودخلوا العملية السياسية لتمثيل طائفتهم
وبما يؤدي الي حماية مصالحها، والحفاظ علي ارواح ابنائها، فقدموا غطاء شرعيا لحكومة
طائفية، واحتلال قتل اكثر من 665 الف عراقي، وعمليات نهب وفساد لثروات البلاد باتت
الاكبر من نوعها علي مستوي العالم بأسره، ودون ان يحققوا أيا من وعودهم.
انها شهوة الحكم عند هؤلاء جميعا، حتي لو جاء تحقيقها علي حساب تحويل العراق كله
الي مقبرة جماعية. ولهذا لن يعترفوا بالفشل، ولن يتركوا مواقعهم، حتي لو لم يبق
عراقي واحد علي قيد الحياة.
المقاومة العراقية الشريفة التي افشلت مشروع الاحتلال الامريكي، ونزعت الأقنعة عن
وجوه المتعاونين معه، يجب ان لا تتفاوض مع المندوبين الامريكيين الذين يسعون اليها
حاليا الا علي اساس الانسحاب الكامل، ومع ممثلي الحكومة الطائفية الا علي اساس
اعترافهم اولا بمسؤوليتهم المباشرة عما وصل اليه العراق من كوارث تمهيدا لتقديمهم
الي العدالة كمجرمي حرب، تعاونوا مع الاحتلال واغرقوا البلاد في الحرب الطائفية
التي نراها في ابشع صورها في مجزرة مدينة الصدر وجثامين ابريائها، وفي مجزرة حي
الحرية التي جاءت انتقاما في قلب العاصمة بغداد.