اقتراح قصف <<الجزيرة>>: همجية <<الميليشيا الكونية>>

 جوزف سماحة


يقرأ المرء الخبر مرة. يفرك عينيه. يقرأ ثانية. يتأكد: لقد فاتح جورج بوش حليفه طوني بلير برغبته في قصف مقر قناة <<الجزيرة>> ومكاتب لها في العالم. ولقد اضطر رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الاجتماع الذي عُقد في 16 نيسان 2004 إلى بذل جهد لثني الرئيس الأميركي عن قراره متذرعاً بالنتائج السلبية لذلك. كان الاقتراح أقرب إلى الجنون والرادع أقرب إلى الانتهازية. إن اجتماعاً بين قائد ميليشيا ومساعده كان سيكون أفضل. ومن الممكن الافتراض أن الاثنين استكملا اللقاء بإجراء بحث معمّق حول سبل نشر الديموقراطية في العالم العربي!

ما كشفت عنه <<دايلي ميرور>> غير قابل للتصديق للوهلة الأولى. إلا أن السلوك البريطاني يعطيه صدقية، سواء تمثل هذا السلوك بتحويل موظفين إلى المحاكمة أو بإصدار المدعي العام أوامر تمنع وسائل الإعلام، في هذه الديموقراطية العريقة، من نشر المزيد عن المذكرة التي وثّقت الاجتماع.

قيل، تبريراً، إن بوش كان يمزح. كما قيل إنه كان جاداً للغاية. وامتنعت الإدارة الأميركية، ترفعاً، عن التعليق. ثم جاء من يريد أن يكحّلها فعماها عندما استبعد اللجوء إلى القصف لأنه كان في وسع جنديين أميركيين منع موظفي <<الجزيرة>> من دخول مكاتبهم. وأين؟ في عاصمة دولة سيدة و... <<حليفة>>.

قد تكون فكرة القصف راودت بوش وهو يتلقى التقارير عن ردود الفعل على المجزرة التي كانت قوات الاحتلال ترتكبها في الفلوجة. كانت همجية الميليشيا الكونية من نوع لا يحتمل صورة أو كلمة أو تعليقاً. إلا أن <<الجزيرة>> كانت هناك. ومن يذكر تلك الفترة يمكنه أن يذكر أن <<الجزيرة>> أقدمت على مبالغات. إلا أنها مبالغات تضعها، فحسب، في مرتبة <<فوكس نيوز>> مثلاً، وتبقى أقل بما لا يقاس، من حملة الترويج والتضليل التي اشتركت كبريات الصحف الأميركية، والليبرالية منها، في تعميمها عشية غزو العراق.

عشية ذلك الاجتماع، وبعده، والإدارة الأميركية مشغولة بما تسميه معركة <<كسب العقول والقلوب>>. ولقد أنشأت، لذلك، وسائل إعلامية يتأكد يوماً بعد يوم فشلها الذريع. واستدرجت مراكز أبحاث عدة لوضع تقارير ترشد إلى الوسيلة السحرية لإقناع مواطني <<الشرق الأوسط الكبير>> بأن أميركا التي يرونها هي غير أميركا الحقيقية. وقدمت بعثات إلينا لتناقش هذه القضايا وعاد بعضها مقتنعاً أن المشكلة هي في السياسة الخارجية الأميركية وليست في صورتها. وكان البعض في واشنطن اهتدى إلى فعالية <<الدبلوماسية العامة>> فتناوب على قيادتها غير مسؤول من دون أن يغيّر شيئاً.

لم تنتبه الإدارة، أو لم تشأ الانتباه، إلى أنها لا تعاني من مشكلة <<صورة>> في العالمين العربي والإسلامي فحسب. كانت سمعتها، ولا تزال، تتدهور في العالم كله. ثم تحولت الظاهرة إلى أميركية داخلية بحيث ابتعدت أكثرية أميركية واضحة عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ومع ذلك رفضت <<الأبوية>> الأميركية إلا أن تعاملنا كقاصرين يمكن لتعليب السلعة أن يأخذ الألباب ويصرفها عن طبيعة السلعة نفسها. وكان آخر ما أصابنا من ذلك الجولة التي قامت بها كارين هيوز في بلدان عربية وإسلامية. فلقد أصرت في إحدى المحطات، غير مرة، على أن عدد ضحايا حلبجة بالقصف الكيميائي وصل إلى 300 ألف. حاول محاوروها إقناعها بأنها <<تبالغ>> إلا أن شوقها إلى <<كسب العقول>> جعلها تجعل الاستخفاف بالعقول شعاراً.

ربما اعتقد بوش أن قصف المرئية العربية الأكثر شعبية عنصر مهم في استراتيجية عامة ل<<كسب العقول والقلوب>>. فمن يعجز، إيجاباً، عن هذه المهمة قد يلجأ إلى نجاح سلبي بإسكات صوت مغاير يبقى، برغم ما يُقال فيه، وبرغم انتقادات توجه إليه، الأقرب إلى هذه العقول والقلوب، وإلى صياغة مشاعرها، والتعبير عنها، ولو قاد الأمر أحياناً إلى اللعب على أوتار حساسة أو حتى إلى ممارسة قدر من الديماغوجيا.وليس سراً أن تدخلات أميركية، وعلى أعلى المستويات، حصلت من أجل تغيير الخط التحريري ل<<الجزيرة>> وغيرها. وليس سراً أن تجاوباً حصل وأن معايير المهنية حاولت تشذيب الأداء. إلا أن ما بقي كان، وربما لا يزال، كافياً لاستفزاز الإدارة. فلقد كان صحيحاً، ولا يزال، أن نقل الحقيقة، حقيقة السياسة الأميركية في هذه المنطقة، هو الذي يوجد المشكلة بين رأي عام عربي وبين الإدارة. بكلام آخر إن الكذب، والتلفيق، والخداع، والتزوير، وغسل العقول، والبروباغندا، والنفاق، إن هذه كلها هي المطلوب توفيرها من أجل خلق وعي زائف يمكن له أن يميل إلى السياسة الأميركية بقدر ما يصبح حاجزاً دون فهمها على حقيقتها.

وإذا كان القصف بدا خياراً قبل حوالى سنة ونصف سنة فإن الإغراق الإعلامي كان ولا يزال خياراً ثابتاً. يتمثل هذا الإغراق في رصد ميزانيات بمئات ملايين الدولارات لشراء الأقلام والذمم. وثمة، في البلاد العربية، <<عملاء>> بالمعنى الحرفي للكلمة، يتولون الإرشاد المدفوع الثمن ويضعون لكل مقال سعراً وكذلك لكل برنامج أو كتاب. كما يتمثل هذا الإغراق في حملة لا سابق لها يتعرّض إليها حالياً إعلام أميركي لم يعد يريد أن يكون مطواعاً وبات يميل إلى تغليب الحس النقدي في تعاطيه مع سياسات الإدارة. إن نوعاً من <<الحرب الأهلية الإعلامية>> يدور في الولايات المتحدة حالياً. وثمة منابر شديدة التأثير، وخاضعة لنفوذ المحافظين الجدد، وأقصى اليمين، والأصوليين المسيحيين، <<نكتشف>> خيانات وطنية في كل مادة إعلامية تتجرأ على تناول <<المحرّمات>>. وليس مستبعداً أن يكون جو من هذا النوع وراء القلق البريطاني من تسرّب الوثيقة المشار إليها. فالسماح بالنشر يمكنه، ببساطة، أن يحوّل بلير من رمز للالتحاق الذليل إلى رمز ل<<الطعن في الظهر>>، خاصة وأن <<وثائق 10 داوننغ ستريت>> لا تزال في الذاكرة. لقد حسمت تلك الوثائق في أن الإدارة الأميركية اتخذت قراراً، قبل الحرب بشهور، بتطويع المعطيات الاستخبارية من أجل خدمة هدف التحضير للعدوان. بكلام آخر، اتخذت قراراً بالكذب يشكل مقدمة لتعريض أي حقيقة، أو جزء منها، إلى القصف والإلغاء.

"السفير"