بيان في نزع القداسة عن السياسة
ياسين الحاج صالح
مبادرة رياض الترك* بيان أو تمرين
عملي في انتهاك المقدس السياسي وتوسيع دائرة
المفكر فيه سياسيا. قبل أن تكون مبادرة من أجل
الحرية، فإنها مبادرة مصنوعة من الحرية، من مبدأ
يصر على أنه حين يكون الكيان الوطني مهددا فإن
تفكيرا يستبطن المحرمات السياسية لا يمكن أن يرتفع
إلى مستوى اقتراح حلول ناجعة وأصيلة. إن تفكيرا
طليقا مفتوح الآفاق فقط يمكن أن يساهم في إنقاذ
سوريا، فيما لا يمكن التفكير المستكين إلا أن ينجب
"حلولا التفافية وترقيعية وجزئية"، بحسب لغة
"إعلان دمشق". في سوريا كثير من الكلام عن الحرية،
قليل منه حرّ. لا مجال للمبالغة في أهمية
المبادرة على مستوى التربية السياسية السوية
للشباب والنشطاء والعاملين في المجال العام،
التربية على الحرية. إنها توسع دائرة الممكنات
وتضيّق دائرة المسكوت عنه وتعيد الاعتبار الى
الفكر السياسي والقيم الجمهورية. لا مجال كذلك
لاستعادة عموم الناس إلى السياسة والشأن العام،
كما يدعو الديموقراطيون السوريون على الدوام، من
دون نزع القداسة عن السياسة. فالقداسة هذه هي التي
تحرس احتكار السياسة وتشرف على إقصاء الناس عن
شأنهم المشترك. لقد بلغ من استبطان محرمات المقدس
السياسي، أنه دفع معارضين ومثقفين ناشطين إلى
النأي بأنفسهم عن مبادرة الترك، إلى درجة التكتم
عليها والامتناع عن التفكير فيها كمخرج محتمل من
حال قد تغدو مرضاً عضالا وعصيا على العلاج في كل
وقت. المبادرة الثورية هذه، تدين الحياة السياسية
والعقلية السورية برمتها وليس النظام وحده. استحق رياض الترك أن ينعته بالـ
"خرفان" متكلم بعثي في البرنامج التلفزيوني الذي
اقترح فيه مبادرته يوم 28/10. فعبر إخراجه من
العقل نحو الجنون أو الخرف، كان المتكلم البعثي
يعيد ترميم سياج المقدّس وحماية عقله هو. ولن يكون
غريبا انه شعر بالرعب وهو يستمع الى كلام
"الخرفان"، رعب المؤمنين حيال تجديف لا يطاق. هل المبادرة قابلة للتطبيق؟ الوضع
السوري متحرك جدا. من يدري؟ قد يكون جنون اليوم هو
عين عقل الغد! على كل حال، القابلية للتطبيق ليست
معيارا إلا في اللحظات العادية، أي مراحل
الاستقرار و"التفكير المتوازي"، حيث الواقع هو
الذي يشرع للأفكار. في اللحظات البالغة التوتر
والمفتوحة النهايات مثل اللحظة السورية الراهنة،
يتعين أن يسائل العقل الحر الواقع عن شرعيته.
العقل غير المتوازي أو غير المتناظر أو غير
الواقعي، العقل "الخرفان"، هو الذي يصنع الواقع
الجديد. ستذكر المبادرة يوما ما في حوليات
الكفاح الديموقراطي السوري بأنها أكبر خطوة نحو
تحرير العقل السياسي في سوريا واستعادة الشعب
السوري للسياسة. كانت الشجاعة دوما فضيلة أخلاقية
سامية. في الشرط السوري الراهن هي ضرورة حيوية لا
يتقدمها شيء. * في 28/10/2005 قدم رياض الترك
مداخلة في قناة "الديموقراطية"، اقترح فيها مخرجاً
آمناً لسوريا من المأزق الذي تواجهه، يتلخص في
الآتي: أن يتقدم الرئيس السوري ومجلس وزرائه
باستقالاتهم الى مجلس الشعب. وأن يتولى رئيس مجلس
الشعب منصب الرئاسة موقتاً وفق الدستور. وأن يتولى
الجيش مسؤولية الأمن في البلاد، وتجمّد الأجهزة
القمعية عن العمل ويحال كبار الضباط فيها على
رئاسة الأركان ليوضعوا تحت تصرفها. والتعاون مع
مجلس الأمن وتلبية مطالبه وتسليم المشبوهين
والمتهمين الى لجنة التحقيق الدولية. ويقوم الرئيس
الموقت بإجراء المشاورات مع قادة الجيش وحزب البعث
ومعارضة "إعلان دمشق" ومع من يراه من الشخصيات
الوطنية والديموقراطية الحريصة على سلامة البلد
وتقدمه، مستثنياً من ذلك الملوثين بالدم والمال
الحرام، من أجل تشكيل حكومة موقتة. وتقوم هذه
الوزارة بتسيير الأعمال وإجراء انتخابات تأسيسية
تضع دستوراً جديداً للبلاد، من شأنه أن ينقلها من
حال الاستبداد والتسلط الى حال الحرية
والديموقراطية، ويقوم هذا الدستور على مبادىء
النظام الديموقراطي.