ملاحظتان على رد عنيف

 أكرم البني

 


 

ذكرنا سابقاً ان حوار الثقافات اصبح ضرورة لازمة في العالم المعاصر الزاخر بالتحديات والمشكلات والتناقضات. واذا كان حوار الثقافات وأحياناً الصراع الضاري بينها وخصوصاً في عهود الاستعمار ظاهرة قديمة، الا ان العولمة قد عمقت من أهميتها.

ومرد ذلك الى العولمة كعملية تاريخية هي نتاج تراكم طويل من الخبرات الانسانية والممارسات السياسية والثورة التكنولوجية – كان من مردوداتها السلبية اشتعال معارك الهوية، التي تعددت صورها، وتفاوتت بين استخدام الوسائل السلمية للتعبير عن الهويات، واللجوء الى العنف لتأكيدها.
وحوار الثقافات – كما أكدنا أكثر من مرة – بالرغم من أهميته القصوى ما زال يفتقر الى منهج محدد، ومعايير موضوعية لاختيار المشكلات التي ينبغي أن تدخل دائرة الحوار.
وفي اللقاء الذي نظمه منتدى حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والذي شاركت فيه بإلقاء محاضرة عن وجهة النظر العربية في حوار الثقافات مع رئيس وزراء هولندا السابق الذي ألقى محاضرة تعبر عن وجهة النظر الغربية في الموضوع، تخيلت حواراً ثقافياً يدور بين مجموعة من المثقفين الغربيين ومجموعة من المثقفين العرب.
وقلت أي حوار بين مجموعتين من المثقفين تمثل كل منهما ثقافة متميزة مختلفة عن الاخرى ينبغي أن يبدأ بالنقد الذاتي الذي يعطي الشرعية الاخلاقية والمعرفية في تفكيك خطاب الآخر وتوجيه النقد الى منطلقاته الايديولوجية وممارساتها الفعلية في بعض الاحيان، وبالنظر الى ظواهر محددة في الزمان والمكان. وفي هذا المجال قلنا لا بأس أن يبدأ المثقف العربي بنقد ظاهرة العجز الديموقراطي الراهن في البلاد العربية والذي تسبب في أزمة المشاركة السياسية لعشرات الآلاف من الشباب العربي الذين يعانون من ظاهرة الاغتراب الاجتماعي.
لقد قلنا ذلك على سبيل الاجمال، غير أن هذا النقد الذاتي السياسي يحتاج الى تفصيل وتدقيق. ومرد ذلك ان قياس الوضع الديموقراطي العربي الراهن ووصفه بالقصور دون وضعه في سياقه التاريخي، يعد خطأ منهجياً فادحاً وقعت فيه بعض المطبوعات العربية مثل تقارير التنمية الانسانية كما وقع فيه كثير من الدوائر الفكرية الغربية التي لها مصلحة في الهجوم العنيف على الممارسات السياسية العربية.
وموضع الخطأ المعرفي والمنهجي الفادح هنا، أن هذا الحكم يتجاهل أولاً تأثير الاستعمار في وقف نمو الحركة الديموقراطية في العالم العربي.
وعلى سبيل المثال عانت مصر من الاحتلال الانكليزي لمدة سبعين عاماً، وقد برع المحتلون في مقاومة الحركة الديموقراطية المصرية وضرب أحزابها السياسية، وخصوصاً حزب الوفد الذي كان يعبر في ذلك الوقت عن جموع الشعب المصري. ولو درسنا التاريخ المصري في حقبة تاريخية حديثة في الفترة الممتدة من اصدار دستور عام 1923، الذي وضع اساس الليبرالية السياسية في مصر، وثورة يوليو 1952 لوجدنا ان الاحتلال الانكليزي كان متواطئاً مع القصر الملكي في منع حزب الوفد من حكم مصر طوال تلك الفترة ما عدا ثماني سنوات أتيح فيها للحزب تشكيل حكومة وقتية. وفي باقي السنوات اتيح لاحزاب الاقلية السياسية ان تحكم لمنع الوفد وهو حزب الغالبية من تمثيل الشعب. أليس في هذا المسلك تعويقاً حقيقياً لمسيرة الديموقراطية في بلد مثل مصر؟!
ولا نريد ان نشير الى حالة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر والذي لم يعوق فقط المسيرة الديموقراطية ولكن اعتمد على إبادة الهوية الاسلامية الجزائرية ذاتها!
وبعد كل ذلك تأتي الدوائر السياسية الغربية اليوم لكي تتحدث عن نقص الديموقراطية في العالم العربي، وكأن الدول الاستعمارية القديمة مثل انكلترا والحديثة مثل الولايات المتحدة لم تشارك في جريمة تعويق التقدم في العالم العربي!
ولكن هناك سبباً آخر قد يكون أهم من السبب التاريخي الذي ذكرناه، وهو متعلق بالممارسة السياسية لبعض الدول العربية البارزة مثل مصر وسوريا والعراق والتي حصلت على استقلالها الوطني بعد معارك مشهودة، وحيث عجز النظام الحزبي العربي في الثلاثينات والاربعينات عن إشباع حاجات الجماهير الاساسية في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.
وجاءت نخب سياسية جديدة آثرت أن تطبق نظرية الديموقراطية الاشتراكية بأساليب وصور شتى. وهذه النظرية – كما نعرف جميعاً - تولي اعتبارات العدالة الاجتماعية الاهمية القصوى في الممارسة على حساب الحريات السياسية في بعض الاحيان.
ومن ثم فلم تكن الحرية السياسية تمارس في هذه النظم العربية على اساس النظرية السياسية الليبرالية الغربية، ذلك أن التعددية أما ألغيت وإما حوصرت، كما أن حرية التعبير ضاق نطاقها، في الوقت الذي اتسعت فيه دوائر العدالة الاجتماعية بحكم الدور الاساسي الذي كانت تقوم به الدولة في الاقتصاد المخطط.
هذه حقبة تاريخية كاملة تعطلت فيها قواعد الليرالية السياسية على النسق الغربي، وهي حقبة لهاما لها وعليها ما عليها، غير أنه يصبح من باب الخطأ التاريخي تجاهلها تماماً في مجال الحديث عن العجز الديموقراطي العربي الراهن، ولا يعد ما سبق تبريراً بأي صورة للممارسات السياسية السلطوية الراهنة، ولكنها محاولة لوضع الظواهر العربية في سياقها التاريخي الحقيقي منعاً لأي مبالغات من قبل بعض الكتّاب العرب انفسهم او بعض الدوائر الفكرية الغربية التي تريد تبرئة السياسة الغربية الاستعمارية من كل الآثام التي اقترفتها ازاء الشعب العربي.
ظاهرة الاغتراب الاجتماعي
واذا كنا ألمحنا الى ظاهرة الاغتراب الاجتماعي التي تشعر بها اجيال الشباب العربي، فلا بد اولا ان نقرر انها حالة عالمية. ذلك ان اجيال الشباب في المجتمعات المتقدمة ذاتها تمر بهذه الحالة لأنها تشعر ان سياسات الجيل القديم من رجال السياسة لا تعبر عن آمالها وطموحاتها ادنى تعبير، بل انها – اخطر من ذلك – تتعمد تجاهل وجودهم الاجتماعي ذاته، او تحاول حصارهم في دوائر بالغة الضيق وخصوصا في مجال التشغيل فشلاً في حل مشكلات البطالة.
ويكفي ان تشير الى التشريع الفرنسي الذي ثارت ضده جماهير الطلاب والعمال معا لأول مرة منذ ثورة 1968، والذي كان يقضي بحق رب العمل ان يفصل بدون اسباب من يمضي عامين في العمل.
اليس في ذلك مؤشر على احد اسباب الاغتراب الاجتماعي في فرنسا وهي بلد متقدم صناعيا؟
وليس معنى ذلك دفاعا عن حالة الاغتراب الاجتماعي العربي، والتي لها اسباب مختلفة. ولعل اهم هذه الاسباب سيادة الاستبداد في النظم السياسية العربية، وسد منافذ التعبير والمشاركة امام الشباب، وشيوع الفساد، وتمتع القلة بالنصيب الأكبر من الدخل القومي على حساب الغالبية، بالرغم من التقدم النسبي في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. الا ان ظاهرة اتساع دوائر الفقر في العالم العربي تكشف ولا شك عن عجز السياسات الحكومية وقلة فاعليتها.

الفكر التآمري

ومعنى ذلك ان حوار الثقافات وان كان لا بد له ان يبدأ بالنقد الذاتي الا انه علينا الا نبالغ به والا يتحول الى نوع من جلد الذات.
والمثال البارز على ذلك هو اتهام العقلية العربية – هكذا على سبيل التعميم – بأنها تقوم في ممارساتها على اساس نظرية المؤامرة!
وذلك يعني القاء عبء الاستبداد العربي والفشل السياسي في الداخل والخارج على الدوائر الاستعمارية الاجنبية هروبا من مواجهة الواقع، وعدم الاعتراف بالأخطاء الجسيمة التي مارستها البلاد العربية وما زالت تمارسها.
واذا كان هذا الاتهام صحيحا جزئيا بالنسبة لبعض الاقلام العربية، الا انه ليس صحيحا على وجه الاطلاق بالنسبة للعقلية العربية.
وبدلا من الحديث عن التفكير التآمري العربي لماذا لا نتحدث عن المؤامرات الفعلية التي تمارسها الولايات المتحدة الآن لتمزيق وحدة العالم العربي، والهيمنة على مقدراته؟
نتمنى ان نرى دراسة متعمقة عن المؤامرة الاميركية الكبرى التي تهدف الى الهيمنة على العالم بطريقة منفردة تحقيقا للشعار الاميركي الشهير "حروب دائمة من اجل سلام دائم"!
 

"النهار"- دمشق
كاتب سوري