المقاومة للوطن ... المقاومة بالوطن  

 طلال سلمان

 

                  السفير : 25-5-2006

 



يتبدى عيد التحرير، هذا العام، كأنه قيد <الإقامة الجبرية>، لا يُراد له أن يصل إلى أهله جميعاً في كل لبنان ببهاء نصر الإرادة فيه.
لقد أصاب عيدَ الانتصار غير المسبوق على العدو الجبار الذي ترسخ اليقين بأنه لا يُهزم، شيء من الشحوب أتاه من <الداخل> وأقيمت أمامه الحواجز والسواتر والسدود حتى يسهل تصويره كأنه عيد لجهة أو لفئة أو لدولة أخرى (!!)، بينما إسرائيل عدو الجميع، وبينما لكل مواطن في العيد نصيب، وبينما النصر تأكيد لوحدة الأرض والشعب والدولة، والمجتمع الذي يحمي بتنوعه قدراً من الديموقراطية التي كانت رافعة للمقاومة وحصناً حصيناً لها.
لكأنما يُراد منع لبنان من أن يكون له عيده المغزول بدماء شهدائه وعذاب ضحايا الاحتلال الذي حاول توظيف الطائفية سلاحاً فأكد شعب لبنان بوطنيته أنه ليس <للمتعامل> حماية في فئويته، وأن فعل التحرير بالمقاومة إنما يتجاوز الفئوية إلى الأفق الرحب للانتماء الوطني ويحاسب على <الدور> وليس على <الهوية الطائفية>.
لكأن على لبنان أن ينسى أشرف صفحات تاريخه الحديث، وأن يكف عن استقبال الذكرى السادسة للنصر على الاحتلال في 25 أيار ,2000 كعيد وطني تجلله بالقداسة أرواح الشهداء ومجالدة أبطال الصمود في قراهم المدمرة، رجالاً ونساءً وأطفالاً يجتهدون ليتعلموا بنور عيون ذويهم والقناديل الراجفة.
لقد أنهكت الانقسامات السياسية، التي سرعان ما يحوّلها <الزعماء> و<الأقطاب> التي منها يتعيّشون إلى مواجهات طائفية ومذهبية تفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي، الذي يتخذ دور حامي الأقلية مرة، ودور مساند <الأكثرية> مرة، ودور مناصر <السيادة> و<الاستقلال> في الغالب الأعم، مع تقديم الدعم اللوجستي شعارات وإعلاماً وازراراً وأناشيد مترجمة.
ولم يكن ممكناً شطب 25 أيار من قائمة الأعياد الرسمية لو أن الوطن معافى يعيش مردود انتصاره على العدو الإسرائيلي الجبار، في ظل وحدة وطنية صلبة، تجسّدها دولة تكتسب مناعتها من سلامة مؤسساتها، وتكتسب قدرتها على الإنجاز من التفاف شعبها حولها مؤمناً بنزاهة قضائها وتماسك
حكمها وسلامة تشريعها والأداء الجيد لإدارتها.
ومن المفارقات اللافتة والموجعة أن يكون العرب، في مختلف ديارهم وعلى اختلاف أنظمتهم، قد رفعوا لبنان بمقاومته، راية يستظلون بها ويتشرّفون بأن يتقرّبوا منها ويدعوا صلة ما معها، بينما يندفع أطراف من محترفي السياسة في لبنان في تأييد قرارات دولية، اتُّخذت ضمن ظروف معلومة وخدمة لأغراض معلومة، إلى حد تهديد وحدة البلاد، ملوّحين بفيدراليات الطوائف التي تستدعي حكماً الحماية الأجنبية، للتخلص من بعبع المقاومة وصواريخها ورجالها الملتحين.
صحيح أن المقاومة التي شارك في انطلاقتها في سنواتها الأولى العديد من الأحزاب الوطنية والتقدمية، قد اقتصر تنظيمها المقاتل في السنوات الأخيرة على <حزب الله> بشعاراته الإسلامية، إلا أن الصحيح أيضاً أن التوجه إلى مقاومة العدو الإسرائيلي لم يكن موضع إجماع لبناني في أي يوم، كائناً من كان حامل راياته.
فالمقاومة مثلت خرقاً للمعادلات والتقاليد والمقولات والمفاهيم السائدة، على المستوي العربي عموماً، وفي لبنان خصوصاً، بعد مسلسل الهزائم التي مُني بها العرب في مواجهات إسرائيل مع جيوشهم... وهكذا يتبدى كأن هذه المقاومة قد طوت صفحة العجز عن المواجهة، والهرب منها إلى الصلح المنفرد واتفاقات الإذعان سواء في أوسلو الفلسطينية أو خاصة في 17 أيار اللبناني.
وكان طبيعياً بالتالي أن تعمد القوى التقليدية إلى الالتفاف على المقاومة، وإغداق شهادات التقدير والتبريك على إنجازها، تمهيداً لأن تقرع لها جرس الانصراف باعتبارها قد أدت ما عليها: عافاها الله، فلتذهب إلى التقاعد، تاركة الحكم لأهل الحكم!.. فإذا لم ينفع مثل هذا التوجه، إذاً فلتشرك في الحكم بموقع محدود التأثير يعطلها ولا تعطله، فتستهلك رصيدها بسرعة قياسية، لأن الحكم خصوصاً في لبنان عاقر، فكيف به لغير المحترفين وأصحاب الأنياب الزرقاء؟!
? ? ?
مع الزلزال الذي صدع لبنان بوجوه حياته كافة، متمثلاً في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، توالت الارتدادات فبدلت في المواقع والعواطف والمواقف، حتى لم يعد أحد كما كان أو حيثما كان إلا المقاومة التي لم تنس للراحل الكبير دوره في حمايتها، عندما كان في الحكم أو خارجه، وفي انتزاع الاعتراف الدولي في شرعيتها من خلال تفاهم نيسان.
ولقد تضافرت <جهود> كثيرة، دولية وعربية ومحلية لضرب المقاومة ودورها: فما دامت حليفة لسوريا فهي شريكة في الجريمة أو متسترة على مرتكبيها، وما دامت سوريا حليفة إيران وإيران هي مصدر الدعم الأهم للمقاومة، إذن فإن المقاومة إيرانية الولاء وإن لم تكن إيرانية الانتماء... وما دامت الكتلة العظمى من المقاومين هي من أهل الشيعة في الجنوب، إذن فالمقاومة شيعية وجنوبية، ولا تمثل من لبنان وفيه إلا فئة لا تشكل الأكثرية في أي حال.
قيل إن المقاومة مجللة بانتصارها أكبر من أن يتسع لها لبنان، وإنها إن بقيت على حجمها تسبّبت بفرطه..
وقيل إن هذا <الصعود الشيعي> في لبنان لن يوصل إلا إلى الحرب الأهلية بدليل ما يقع من مذابح يومية في العراق الذي ضربته الفتنة نتيجة للاحتلال الأميركي الذي جاء وريثاً للطغيان.
واستُخدمت <شيعية> المقاومة فزاعةً لا للبنانيين فحسب، بل لسائر العرب، ومن ثم للغرب باعتباره المقاتل الأول ضد الأصوليات.
? ? ?
مع ذلك لم تسقط المقاومة، التي حظيت بقائد استثنائي في صلابته كما في كفاءته وفي وعيه الوطني، في الفخ الطائفي، ولم تستدرج إلى الفتنة، بل إنها قاتلت كل المحاولات المشبوهة، سواء أجاءت من الداخل أم من الخارج بمنتهى الضراوة حتى أسقطتها، بكشفها وفضح أهدافها الخبيثة.
كذلك فإن هذه المقاومة، بقائدها العظيم الكفاءة، السيد حسن نصر الله، قد جاهدت لحماية الأمن، وناضلت لتوطيد الهدوء النفسي وتبديد المخاوف، لأنها تعرف أن الاستقرار إنجاز وطني، وأنه شرط حياة للبنان جميعاً، وشرط استمرار دورها مشرقاً بغير تشويه أو تخريب.
إن المقاومة، وإن كانت الظروف قد حصرتها في بيئة بعينها، تدرك أن رصيدها متصل بأنها كانت للوطن، وبأن تبقى للوطن، وأنها قد حققت إنجازها العظيم بالوطن لا من خارجه.
ولهذا سيبقى العيد للوطن، حتى لو حوصر بالقرارات البيروقراطية الداخلية أو بقرارات مجلس الأمن.