رؤية هيئة التنسيق ومشروعها التفاوضي للحَّل السياسي في سورية

في الوقت الذي تتصاعد فيه أعمال العنف في سوريه وتسَّد فيها آفاق الحل السياسي بسبب تمسك السلطة الحاكمة من جهة، وأطراف من المعارضة من جهة أخرى بالحل العسكري والأمني.. وفي ظَّل قلق جدي على مصير سوريه الكيان والمجتمع ويأس قطاعات شعبيه واسعة من إمكانية الحسم العسكري لصالح أحد الطرفين بسبب توازنات القوى العسكرية والسياسية سواء على المستوى العسكري الميداني, أو على المستوى السياسي والدولي.
في هذا الوقت يطرح تساؤل محق هل هناك فرصة لحَّل سياسي ينهي الأزمة ويضع حداً لهذا الاستنزاف في القوى وفي الضحايا وفي بنية المجتمع، أم أن الأزمة السورية محكومة بمسار عسكري تراجيدي تدميري لا يمكن تجاوزه مما يستوجب التماشي معه حتى النهاية رغم مأساوية تلك النهاية ؟!!
نحن في هيئة التنسيق الوطنية لم نراهن يوما على الحلول العسكرية الأمنية بل وقفنا ضدها لقناعتنا بأنها لن تفضي سوى إلى تدمير سورية وتمزيق وحدة نسيج شعبها، ولذلك كان رهاننا ولا يزال على أن الحل السياسي للأزمة السورية باعتباره الحل الإنقاذي الوحيد الممكن، وهي قناعة قائمة على قراءة متأنية للواقع الراهن ولموازين القوى من جهة, وعلى تحقيق الأهداف المطلوبة من جهة أخرى في ظل تعقيدات ومتطلبات التغيير. وتلك القراءة تركز على مجموعة من المقاربات:
في طبيعة الأزمة في سورية
إن الأزمة في سورية ناجمة أصلاً عن طبيعة النظام الحاكم في سوريه, فالنظام الاستبدادي الشمولي وما أنتجه من فساد ومن تعطيل للحياة السياسية والقضاء على الحريات العامة ومن مظالم اجتماعية ومن إهدار للقيمة الإنسانية للفرد والجماعات وضع سورية خارج إطار التاريخ وأضحى النظام الحاكم بسبب تغول السلطة الأمنية فيه عاجزاً عن أي تطوير ايجابي من داخله, وهو ما استوجب الثورة على هذا النظام، تلك الثورة التي جاءت في سياق الثورات وحركات الاحتجاج الشعبية في أكثر من قطر عربي.
وقد أثبتت تجربة العشر سنوات الأولى من العهد الجديد الذي جاء بشعارات الإصلاح عقم النظام وعجزه عن إصلاح ذاته رغم كل الفرص التي أتيحت له، وأثبتت السنتين الماضيتين من عمر الثورة أيضاً عجزه عن حماية سورية وتحقيق مطالب شعبها المحقة.
في نهج النظام العنفي ونتائجه.
لقد انطلقت الثورة الشعبية في سورية سلمية وتحت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية غير أن النظام بنهجه العسكري والأمني العنيف خلق بيئة ملائمة للعنف المضاد وشرع أبواب الوطن أمام كل متدخل خارجي, وهو ما أدى في النتيجة لاختلاط بين مبررات وأهداف الثورة من حيث هي ثورة تغيير ديمقراطي من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية , وبين مشاريع وأجندات خاصة داخلية وخارجية لا مصلحة للشعب السوري بها، بل هي على الضد من مصلحته ومن أهدافه التي ثار من أجلها.
ومن مظاهر هذا الاختلاط ما صار يعرف بتنافس بل صراع الشعارات حيث طرح شعار إسقاط النظام كهدف مركزي مقابل شعار التغيير الديمقراطي , ولم يكن هذا الطرح عبثياً ولا لمجرد الإثارة الشعبوية، بل مقصودا لذاته، إذ أن شعار إسقاط النظام ونقطة على السطر الذي جرى الترويج له بقوة عبر حملة إعلامية وسياسية خارجية وداخلية منظمة فتح الطريق أمام كل الأجندات والسلوكيات السياسية الخطيرة:
أولاً؛ في هذا الإطار تم رفع شعارات تطالب بالتدخل العسكري الخارجي في مرحلة من مراحل مبكرة من الثورة تحت مسميات الحظر الجوي, والمناطق الآمنة رغم خطورة هذا التدخل على السيادة الوطنية،وحتى بدون البحث في ممكناته الدولية مما جعل الحراك الشعبي يتحرك تحت شعارات وهمية.
ثانياً؛ إضفاء الشرعية على العمل المسلح العنيف والعمل على انتشاره كبديل للعمل السياسي المدني من قبل قوى متطرفة معارضة للنظام ايدلوجيا ومتماثلة معه في الطبيعة.
ثالثاً؛ لم يكن خافيا على هذه القوى المعارضة المتطرفة بأن إسقاط النظام بالقوة العسكرية غذى لديها وهم التحكم بمسار تكوين النظام الجديد بصورة استبدالية على الضد من الأهداف التي ثار الشعب من أجلها.
لقد تمكنت هيئة التنسيق من إعادة الارتباط النظري بين شعار إسقاط النظام "الشعبوية" وبين الهدف الاستراتيجي وهو التغيير الديمقراطي لكنها لم تستطع تسويقه شعبياً بسبب الحرب الدعائية الشرسة التي شنت عليها من قبل العديد من الدول الفاعلة في المنطقة ومن خارجها، الأمر الذي تسبب بهذا الاختلاط الذي تحدثنا عنه بين الثورة الديمقراطية وبين نهج العنف والعنف المضاد وإفرازاته وما أنتجه من تدمير المجتمع وتمزيقه.
على ضوء ما سبق طرحت هيئة التنسيق ومعها المؤتمر الوطني لإنقاذ سورية رؤية للحل السياسي في سورية يحقق للشعب السوري أهدافه ويحمي البلد والشعب من هول الدمار الذي يتعرضان له. تقوم هذه الرؤية ومشروع الحل التفاوضي ومحدداتهما على وضوح الهدف وواقعية آليات تحقيقه في ضوء قراءة سليمة للواقع وما يحمه من موازين قوى محلية وإقليمية ودولية.
في الأهداف:
1) يبقى الهدف المركزي بالنسبة لهيئة التنسيق هو التغيير الديمقراطي الجذري والشامل وإسقاط النظام الديكتاتوري الفاسد لحساب الدولة المدنية الديمقراطية، مدركة أنه لا يجوز تحت أي اعتبار التنازل عن هذا الهدف وإضاعة فرصة التغيير التاريخية حيث أن الإبقاء على النظام يعني العودة بسورية إلى حالة شديدة الظلامية من الصعوبة بمكان تصورها.
2) ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع من مخاطر العنف والعنف المضاد الذي يمكن أن يأخذ بعدا طائفيا ومذهبيا واثنيا وطابعا ثأرياً، في مجتمع تعددي بطبيعته مما يمزق بالضرورة الدولة والمجتمع , وخصوصاً في وجود مشاريع خارجية لها مصلحة في عملية التقسيم أو إضعاف الوحدة السياسية والاجتماعية للكيان السوري
إن تشابك هذين الهدفين يرسمان الصورة المعقدة للواقع السوري ويمنعان الانجراف نحو انتصار قوى ديكتاتورية متصارعة على أسس ايدلوجية على حساب الهدف المركزي وهو إقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
في قراءة الواقع
أما في قراءة الواقع وموازين القوى والذي تطرقنا إليه في المقدمة نجد أنه بعد ما يقارب السنتين من انطلاق الثورة وما أفرزته من تضحيات ودمار لم يتمكن أي طرف من حسم الصراع لصالحه عسكريا. بل صارت المسالة السورية مدوَّلة بشكل كبير نظرا لارتهان قوى الصراع فعلياً للقوى الخارجية التي تدعمها وتمولها وتسلحها، لم يعد من الممكن الاحتكام الى القوى المحلية في ادارة الصراع وحسمه، بل بات هذا الصراع محكوماً بالتنافس الدولي أو بالتوافق الدولي الذي أخذت بعض مؤشراته بالظهور عبر المفاوضات الروسية / الأميركية، وعبر محاولات السيد الأخضر الإبراهيمي لإنجاز تسوية سياسية، خصوصاً بعد أن باتت الإدارة الأمريكية الراهنة تستشعر خطورة ما سوف يترتب على الحرب المفتوحة في سورية من تدمير للمجتمع السوري، واحتمال انتقال آثار هذا الدمار لتشمل المنطقة كلها. وفي ذات الوقت بدأ الروس بالتضايق من عنف النظام السوري ومن تنامي القوى الأصولية في المجتمع السوري.
في طبيعة الحل السياسي
تقوم رؤية الهيئة التنسيق للحل السياسي وآلياته على:
1- الانطلاق من ضرورة إيقاف العنف باعتباره المدخل لأي حلَّ سياسي, على أن يكون وقفا متزامنا وتحت رقابة دولية. إن مطلب إيقاف إطلاق النار من قبل فريق من الفرقاء بدون الفريق الآخر سوف يقرأه هذا الفريق كنوع من طلب استسلام، وهو طلب غير واقعي في ظل الظروف الراهنة ومجريات الأحداث على الأرض، وكذلك في ظل شعور كل طرف بأنه لا يزال قادراً على تحقيق الانتصار، أو فرض حرب طويلة المدى على الأقل.
2- لا يمكن لوقف إطلاق النار المتزامن أن يتحقق بإرادة ذاتية للمتقاتلين مما يقتضي وجود قوة قادرة على فرضه , والقوة الوحيدة القادرة والمقبولة هي المجتمع الدولي أي توافق القوى الداعمة والمؤثرة على قوى العنف والمالكة لمصادر تمويل وتسليح المتصارعين وحجب الحماية عنهم.
3- من اجل ذلك تؤكد هيئة التنسيق على ضرورة تحقيق توافق دولي روسي / أمريكي يتوج بقرار دولي صادر عن مجلس الأمن يكون ملزماً للأطراف المتصارعة وفق الباب السادس لميثاق الأمم المتحدة ويملك آلية تنفيذ صارمة عبر قوات حفظ سلام تملك صلاحية تطبيق هذا القرار. ونحن هنا عندما نتحدث عن إلزام من جهة وعن الباب السادس من جهة ثانية فلأننا ندرك أنه لا توجد إرادة ذاتية للأطراف المسلحة لوقف العنف, كما ندرك أن تطبيق الفصل السابع سيرهن استقلال سورية لمجلس الأمن , حيث أن تجارب تطبيق الفصل السابع كانت كارثية على الدول التي طبق عليها وخير مثال قريب حال كل من العراق وليبيا.
في المناخ الملائم لبدء العملية السياسية
إن خلق مناخات مهيئة للعملية السياسية يعد مسألة في غاية الأهمية لحسن سير هذه العملية ويعزز من فرص نجاحها. وفي مقدمة الإجراءات التي تهيئة هذه المناخات تتصدر قضية إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمخطوفين , والسماح بعودة آمنة للمبعدين والنازحين , وتنفيذ إصلاحات اسعافية عاجلة تساعد على عودة قطاعات واسعة من اللاجئين والنازحين إلى أماكن سكنهم وتأمين العلاج المناسب للجرحى والمصابين. وعندما نقول بإسعافات عاجلة للحالات الطارئة فلأننا ندرك أن علاج تلك المسائل يحتاج إلى زمن طويل يفوق طبيعة المرحلة الانتقالية المطلوبة.
في بدء العملية التفاوضية
إن البدء بعملية تفاوضية بين النظام والمعارضة برعاية دولية وعربية ومتابعة وإشراف المبعوث الدولي والأممي, يتطلب قبل كل شيء وضوح هدف العملية التفاوضية والاتفاق المسبق عليه ألا وهو الانتقال بسورية من النظام الديكتاتوري الراهن إلى النظام الديمقراطي التعددي, وكما يتطلب تحديداً دقيقاً للقوى المشاركة في عملية التفاوض وهي المعارضة بشقيها السياسي والعسكري ممثلة بقواها ورموزها الواضحة والفاعلة وبممثلين سياسيين مخولين عن السلطة الحاكمة, على أن تجري العملية التفاوضية خلال زمن محدد وبتوافر ضمانات دولية وعربية وإقليمية لتنفيذ نتائجه.
من الناحية الإجرائية فإن رؤية هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي لمحددات المسار التفاوضي للوصول إلى حل سياسي للأزمة في سورية تقوم على المبادئ الآتية:
أ‌- وقف العنف في جميع أراضي الجمهورية العربية السورية ومن قبل جميع الأطراف.
ب‌- إطلاق سراح جميع الموقوفين على خلفية أحداث الثورة السورية وإصدار عفو شامل عن جميع المطلوبين من قبل النظام.
ت‌- تامين عودة كريمة ولائقة لجميع المهجرين السوريين إلى منازلهم وأماكن عملهم.
ث‌- تامين مساعدات إغاثية إنسانية كافية لجميع السوريين المحتاجين لها.
ج‌- التفاوض على حل سياسي يفضي في النهاية إلى نظام ديمقراطي تعددي برلماني يبدأ بالتوافق على ترتيبات المرحلة الانتقالية إلى هذا النظام المنشود.
وبسبب تعقيدات الأزمة السورية والتدخلات الإقليمية والدولية فيها وخصوصا تعقيدات الصراع المسلح في البلاد ومن أجل تحقيق المبادئ العامة السابقة الذكر لابد من الإجراءات الآتية:
1-حصول توافق دولي على قاعدة بيان جنيف بعد تفسير بنوده بصورة لا لبس فيها من قبل الدول التي أصدرته، الأمر الذي قد يحتاج إلى(جنيف2). ومن أجل ضمان تنفيذ التوافق الدولي المطلوب ينبغي أن توقع عليه دول الرباعية الإقليمية(مصر والسعودية وتركيا وإيران) على أن يصدر بعد ذلك عن مجلس الأمن الدولي بقرار ملزم وفق الفصل السادس.
2- يصدر مجلس الأمن قرارا بوقف إطلاق النار على كامل الجغرافيا السورية، متضمناً آلية للمراقبة والتحقق. ولهذا الغرض لا بد من تشكيل قوات حفظ سلام دولية بتعداد وتسليح كافيين وذلك من الدول التي لا تشارك في الأزمة السورية بصورة مباشرة، واستخدام جميع وسائل المراقبة التقنية للتحقق من التزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار.
3-ومن أجل تعزيز وقف إطلاق النار ينبغي على مجلس الأمن أن يصدر قراراً بحظر توريد السلاح لجميع الأطراف(النظام والمعارضة المسلحة) خلال المرحلة الانتقالية على أن يرفع هذا الحظر عن الدولة السورية في نهاية المرحلة الانتقالية.
4- تبدأ العملية السياسية بعقد مؤتمر وطني تحت رعاية دولية وعربية مناسبة يشارك فيه مثالثة ممثلين عن السلطة والمعارضة وهيئات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية المستقلة التي تتوافق عليها السلطة والمعارضة تكون مهمته وضع ميثاق وطني لسورية المستقبل، وإعلان دستوري مؤقت، والتوافق على ترتيبات المرحلة الانتقالية إلى نظام ديمقراطي.
5- في القضايا التي لا يتم التوافق عليها يتم الاحتكام إلى استفتاء الشعب حولها.
6- في ضوء نتائج المؤتمر الوطني يتم تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة لقيادة المرحلة الانتقالية على أن يرأس هذه الحكومة شخصية معارضة يتم التوافق عليها.
7-تشكل الحكومة من شخصيات سياسية مثالثة من السلطة والمعارضة بمختلف تشكيلاتها وفصائلها ومن تكنوقراط وشخصيات وطنية يتم التوافق عليهم.
8-يتم تشكيل مجلس عسكري مؤقت يشارك فيه ضباط من الجيش السوري ومن الجيش الحر على أن يخضع للحكومة الانتقالية تنحصر مهمته في إعادة تنظيم المؤسسة العسكرية، والمساعدة في تأمين الأمن خلال المرحلة الانتقالية.
9-تباشر الحكومة الانتقالية عملها بالإعلان عن تعطيل العمل بالدستور الحالي وهيئات الحكم المبنية عليه وإلغاء جميع القوانين الاستثنائية، على أن يحتفظ الرئيس بالمهام البروتوكولية فقط في حال تم التوافق على بقائه في السلطة إلى نهاية المرحلة الانتقالية.
10-تعد من المهام العاجلة للحكومة تنفيذ المبادئ ب وت وث والشروع في هيكلة الأجهزة الأمنية، وتأمين مستلزمات المصالحة الوطنية في ضوء مبدأ المسامحة والعدالة.
11-تبدأ الحكومة بعملية إعادة الإعمار وتأمين مستلزماته والعمل على إنشاء صندوق دولي لهذا الخصوص تساهم فيه الدول المانحة.