" ملاحظات واستناجات حول الوضع الميداني في سورية وآفاقها السياسية " 
                                                         ( تقدير موقف أوّلي - الحلقة الأولى - ) 


                                                                                            محمود جديد 

 عندما يجري أيّ شخص تقدير موقف ما، مهما كان نوعه ، من المفروض أن يعتمد  شكلاً  من أشكال الحيادية في العرض والتحليل ، واستقاء المعلومة الدقيقة  قبل إبداء رأيه حتى يستطيع التوصّل إلى نتائج صحيحة وبعيدة عن العواطف قدر الإمكان ، وهذا ماسأعتمده هنا ، وفي الوقت نفسه ،  لن أغوص في المعارك اليومية التي تدور بين طرفيّ العنف فهذه مهمة وسائل الإعلام المعروفة التي تتابع الخبر في لحظته   .. 
     - يُلاحظ أنّ تبلور التفاهم الروسي - الأمريكي قد مرّ في حالة من الجمود في الأشهر الثلاث المنصرمة بانتظار تعديل موازين القوى على الأرض ، وترجيحها في إحدى المناطق على الأقلّ  ( الجنوبية - الوسطى - حلب ) ، ويبدو أنّ اهتماماً أمريكيّاً بنتائج المعارك في المنطقة الجنوبية من سوريّة قد برز مؤخّراً للأسباب التالية : 
1 - قرب الاشتباكات من العاصمة ، والمطار الدولي ، والنتائج التي حقّقها المسلحون في محافظة درعا ..
2 - سهولة التحكّم والسيطرة على تدريب وتسليح فصائل / الجيش الحرّ / وغيرها من المجموعات المسلّحة من قبل الخبراء الأمريكيين المتواجدين في الأردن ..ودفعهم بشكل منظّم باتجاه دمشق ، وتأمين اتصال مستمرّمعهم ، وربّما مرافقتهم بعناصر من المخابرات الأمريكية تحت أيّ غطاء كان ( صحافة ، إغاثة ..الخ 
3 - لعدم وجود جبهة النصرة  في هذه المنطقة بالكثافة والأهمية والدور الذي تلعبه  في الشمال والشرق من سورية ..وكذلك الأمر بالنسبة  للمجموعات الإسلامية الأخرى.. 
4 - إنّ الاهتمام الأمريكي والإسرائيلي بشبكة الصواريخ السورية الموجّهة ضدّ أهداف أرضية ، أو مخصّصة للتصدّي للأهداف الجوية ،وبالسلاح الكيمائي  يغري العسكريين الإسرائليين والأمريكان على جعل مناطق تمركز وانتشار قسم رئيسي من تلك الشبكة مسرحاً لعمليات عسكرية ساخنة بين  المسلّحين السوريين والجيش العربي السوري ممّا سيُلحِق بها خسائر بالغة يزعزع استعدادها القتالي لتنفيذ مهامّها الأساسية على غرار ماجرى في ريفي حلب وإدلب .. 
5 - لعجز الجيش الحر وجبهة النصرة عن التمسّك بالمناطق التي يسيطرون عليها في الشمال بالشكل المطلوب لإيجاد/ بنغازي / سورية صالحة للحشد و إقامة حكومة فيها ، ولغرقهم في التنافس على ما تمّ السيطرة عليه ونهبه وبيعه من ممتلكات المواطنين والقطاع العام ، وتوفّر سوق تركيّة لتصريفها وتسويقها  ( معامل وشركات ، وصوامع حبوب ، وآبار نفط ، وأدوية ، ومستشفيات ، وسيّارات ، وآثار ..الخ ).
6 - إنّ حرص أعداء سورية على تدمير  دمشق على غرار ماجرى في حمص وحلب ، وتخريب معالمها وآثارها التاريخية والسياحية ، ومنشآتها العلمية ، وجوامعها وخاصة الجامع الأموي وقبر صلاح الدين ، وتمثال يوسف العظمة وغيرها يجعل أعداء سورية وعملاءهم يرغبون بمدّ عمر العنف المزدوج إلى الآجال اللازمة لتحقيق أهدافهم الخبيثة هذه ... 
7 - يبدو أنّ ضبٰاط الجيش الحر في المنطقة الجنوبية أكثر جدّية في تنفيذ المهام التي تنطّحوا لها من الذين تواجدوا في الشمال والشرق السوري ، ولم يغرقوا بالفساد الجديد مثلهم  .. 
 8 - غياب الدور الكردي ، والعشائري نسبيّاً  ، في هذه المنطقة عن معادلة الصراع بينما نجده ملموساً في الشمال والشرق السوري والذي يشكّل أحد الأسباب التي جعلت القادة الأتراك متردّدين في اتخاذ ( مواقف حاسمة ) ،  واعتمادهم سياسة مشبعة بالديماغوجية ، ومن الأسباب الأخرى الدور الروسي - الإيراني الجيوسياسي والاقتصادي  الضاغط على صنّاع القرار في تركيّا   ...
9 - وجود الكيان الصهيوني بجوار الرقعة الجغرافية نفسها ،  والرغبة في إعطاء دور له في مراحل لاحقة عند الضرورة ، أو التهديد بهذا الدور على الأقلّ .. ونظام أردني ضعيف تابع ، ومطواع من المتعذّر عليه رفض الإملاءات الأمريكية ، ويتمتّع  بخبرة أمنيّة واسعة في الشؤون السورية  ... 
- وعلى ضوء هذه المعطيات نلاحظ أنّ  النظام السوري قد اعتمد الاستراتيجية التالية : 
1 - إعادة تموضع بعض قطعات وتشكيلات الجيش المتمركزة في الجبهة مع ( إسرائيل ) ، وتكليفها بمهام قتالية ضد المجموعات المسلّحة في منطقة درعا لوقف تغلغلها ، وللإسراع في استعادة السيطرة على المناطق التي فقد النظام التحكّم فيها ..واتّخاذ مثل هذا القرار الخطير لا يمكن اعتماده إلّا بناء على أحد التقديرات  التالية : 
   -  توصّل القيادة السورية من خلال تقدير موقف دقيق إلى أنّ ( إسرائيل ) لا تريد زجّ  نفسها بشكل سافر في الأوضاع الداخلية السورية لأنّها ترى بأنّ استمرارها يقدّم لها النتائج التي ترغب بها من استنزاف الجيش السوري وإضعافه ، وتدمير سوريّة بأيدي أبنائها دون أن يكلّف الجيش الإسرائيلي جنديّاً واحداً  ..  
وهذا هو الاحتمال المرجّح .. 
-  الحصول على ضمانات دولية أو إسرائيلية مباشرة بعدم قيام الجيش الإسرائيلي باستغلال انكشاف الحدود السورية أمامه ، وبالتزامها واحترامها لاتفاقيّة فصل القوّات الموقٰعة عام 1974 ..وهذا الاحتمال مستبعد بسبب وضوح نوايا الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية التي تتقاطع مع الاحتمال الأوّل ، واستبعاد التنسيق بينهما وبين النظام السوري إلى هذا المستوى في المرحلة الراهنة  . 
   -  رغبة القيادة السورية في استدراج القوات الإسرائيلية للتدخّل في الساحة السوريّة ممّا يخلط الأوراق في المنطقة بكاملها ويهدّد السلم والأمن  الإقليمي والدولي .. وهذا التصوّر غير وارد في هذه المرحلة لأنّ النظام لم يصل به الأمر بعد إلى درجة اليأس المطبق الذي يقوده إلى اعتماد شعار " عليّ وعلى أعدائي وليكن الطوفان من بعدي " . 
 2 - تنشيط اللقاءات والزيارات السريّة مع الأردنيين ثمّ انتقالها للعلنية عن طريق  إرسال نائب وزير الخارجية السوري وضباط أمن إلى الأردن لإيصال رسالة احتجاج على تقاعس القوات الأردنية عن ضبط الحدود ، ولسماح الأردن بتدريب عناصر / الجيش السوري الحرّ / على أراضيه ، وتُوّج ذلك كلّه بالإشارة الصريحة لبشار الأسد في مقابلته التلفزيونية الأخيرة إلى الدور الأردني غير المقبول ، والتحذير من نتائجه  .. 
3 -  تنشيط دور أنصار النظام السوري في الأردن والمتعاطفين معه عن طريق المظاهرات والاحتجاجات في الشارع الأردني والبرلمان والصحافة والتي انتقدت التواجد الأمريكي والمجموعات السورية المسلّحة على الأرض الأردنية ، والسماح لمرور الطائرات الأمريكية في الأجواء الأردنية لضرب أهداف سورية  ..وقد تصاعد الموقف الشعبي ( باستثناء الأخوان المسلمين )  المناهض لذلك وكان أبرزها موقف العشائر المتواجدة بالقرب من الحدود السورية وتهديداتها العلنية ضدّ الجنود الأمريكيين المتواجدين فوق الأرض الأردنية ...الخ 
4 - زج كتائب من القطعات العسكرية ذات التدريب الخاص ( وحدات خاصّة ذات مهام عملياتية محدّدة )  في معارك ريف دمشق واعتمادها تكتيكات جديدة للوصول إلى أماكن المسلّحين والقضاء عليها ، وهذا بالتكامل والتنسيق مع الوحدات المدرّعة المكلّفة بذلك سابقاً ، وبالتعاون مع فصائل / قوّات الدفاع الوطني / .. ممّا أحدث إرباكاً بين صفوف المسلّحين ، وكسر حالة الاستعصاء السابقة ، ونقل المبادرة إلى الجيش العربي السوري ، وجعله يتجاوز عمليّات الكرّ والفرّ مؤقّتاً ، ويعطي رسالة واضحة  بصعوبة الوصول إلى دمشق وفقاً للمخطط المرسوم  .. وفي حال استمرار ذلك سيترك بصماته على الوضع في دمشق وريفها برمّته  ، ويوفّر قوّات إضافية للاسراع في عملية إعادة السيطرة على منطقة درعا ، وتحسين أوراق النظام قبل لقاء بوتين - أوباما بعد شهرين ، والتأثير سلباً على معنويات المسلّحين في المناطق الأخرى ... 
5 - اعتمدت القوات المسلّحة استراتيجية جديدة في قتال المسلّحين يرتكز على مهاجمتهم ، وتطويقهم في الوقت نفسه قطع الطرق على انسحابهم إلى أماكن أخرى ، والقضاء عليهم بدلاً من الأسلوب السابق الذي كان يستهدف إخراجهم من مناطق تواجدهم وبعثرة صفوفهم ، وإبعادهم ، وذلك لتخيف خسائر الجيش والمدنيين ، والتقليل من الدمار والخراب الناجم عن تلك المعارك ، ولدرء انعكاسات ذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي ...  
6 - إنّ  عجز الجيش السوري عن الانتشار والسيطرة على كافّة المناطق الواسعة التي يتواجد فيها مسلّحون خلق الظروف المناسبة لحالة الاستعصاء المديد وعمليّات الكرّ والفرّ وما يرافقها عادة من خراب ودمار .. فاعتمدت الأجهزة الأمنية  في البداية على مخبريها وزعران الأحياء من ذوي العلاقة الخاصة  مع عناصرها لرصد مراقبة وملاحقة المشبوهين لها ، ولكنّ هذه التجربة أعطت مردوداً سلبيّاً في نفوس المواطنين نظراً لسوء سمعة هذه العناصر ، وما روي عنهم من تشبيح قبيح ، فلجأت إلى اعتماد اللجان الشعبية في الأحياء ، فكانت تجربة فاشلة أيضاً ممّا قادها إلى خلق قوّات الدفاع الوطني بصيغة تنظيمية أفضل ،  ودفعت لها رواتب شهرية ، وربطتها بقيادة الجيش بدلاً من المخابرات ، وأصبحت تشكّل رديفاً حقيقيّاً للجيش تعوّض الاعتماد على استدعاء الاحتياط أو المجنّدين الذين يصعب معرفة ولاءاتهم الحقيقيّة  .. ويّحتَمل أن تكون  مهامّها  مراقبة ورصد أيّة مجموعات مسلّحة تظهر في الأحياء أو تتغلغل فيها من خارجها ، والتعامل معها مباشرة والاستنجاد بقوات الجيش النظامي للقضاء عليها دون إبطاء عند الضرورة  .. والتعاون معه والمشاركة في القتال جنباً إلى جنب معه كلّما دعت الحاجة لذلك ، ويبدو أنّ هذه التجربة قد نجحت في منطقة دمشق ، وحمص ، وحلب ...
 وكخلاصة لما تقدّم عرضه : إنّ عمليّة الحسم العسكري في المنظور القريب ، ولأيّ من الطرفين أصبحت شبه مستحيلة في ظلّ الأوضاع والظروف المرصودة راهناً ومن ضمنها إصرار النظام المستبد على حلّه الأمني العسكري ، من جهة ،  وبعد أن انتشر العنف والسلاح بهذا الحجم والاتساع والنوعية، وخاصّة في ظلّ تغذية خارجية تمويلاً وتسليحاً ، وتغطيته إعلاميّاً بصورة دقيقة أو مزيّفة من جهة ثانية ..  وغياب الحلّ السياسي الشامل الذي يفتح آفاقاً جديدة لإيقاف العنف ، أو وضعه على سكّة التلاشي بالتدريج  من جهة ثالثة  ...         ( يتبع في حلقة تالية ) . 
في : 25 / 4 / 2013.