طالعنا رئيس النظام المصري قبل أيام بتصريح ، أقل ما يقال
فيه أنه صدر عن رئيس أكبر دولة عربية . يقول في التصريح أن
ولاء الشيعة العرب هو لإيران وليس لدولهم !!! ثم يسكت .
هكذا بكل بساطة وكأن الأمر لا يعنيه أو كأنه يتكلم عن شعب
الإسكيمو .
وقد علق الكثيرون على هذا التصريح وأبعاده وأهدافه
السياسية وموقعه في المواجهة الحالية بين الغرب ( كله)
وبين إيران حول الملف النووي لهذه الأخيرة . ونحن لن نعلق
على هذا التصريح من وجهة النظر هذه ، بل سنتناوله من زاوية
أخرى ربما مختلفة تماما .
وبداية فإنه يمكن القول أن ما ورد في التصريح المذكور غير
صحيح إجمالا إذا أخذنا المسالة على المستوى التاريخي ، لأن
ما نلمسه في هذه اللحظة ليس أكثر من تعاطف شعبي عربي مختلف
في وضوحه وقوته بين أوساط اجتماعية وأخرى وبين فئات وأخرى
وربما كان وجوده في أوساط الشيعة أكثر وضوحا وهذا شيء يمكن
فهمه وتفسيره على ضوء ما أحدثته أنظمة الاستبداد والفساد
من تمزيق للنسيج الاجتماعي الوطني في مختلف الأقطار
العربية ، وكذا المخطط الأمريكي الجاري تنفيذه في العراق
بواسطة عملاء الاحتلال والهادف إلى تقسيم العراق على أسس
طائفية وإثنية .
ومن جانب آخر فإن هذا " الولاء " إن هو إلا التجلي لحاجة
وطموح الشعوب العربية لمواقف وأفعال تشعرها ببعض الكرامة
المستباحة ، وسنحاول دراسة هذه المسالة . لكنه لا بد من
التوضيح أنه إذا تكلمنا عن التعــاطف( وهذا أمر مشروع فنحن
نتعاطف مع آخر شعوب المعمورة في نضالها ضد الظلم والطغيان
داخليا كان أم خارجيا) ، إذا تكلمنا عن ذلك فإنه لا يغيب
عن ذهننا وجود بعض العناصر أو بعض القيادات التي ترتبط
بإيران ومشاريعها الخاصة في أوطاننا . هذا الارتباط جاء
على خلفية حالة التردي المزرية التي تمر بها هذه الأوطان
بسبب هكذا حكام .
وللدلالة عما نقول فلا بد أن نذكر السيد الرئيس ببعض
الوقائع التاريخية التي تدحض ما تفوه به سيادته وما ذهب
إليه . منها أن الشيعة في العراق ولبنان وفي مختلف أماكن
تواجدهم في أمارات الخليج كانوا من أكثر الفئات التي عبرت
عن طموحها في التحرر والتقدم من خلال انتسابها للأحزاب
القومية والتقدمية آنذاك وخاصة حزبي البعث والشيوعي ، وهذا
بحد ذاته دليلا على تجاوزها للروابط القديمة المتخلفة :
قبلية ، طائفية ، وحتى قطرية . ومنها أن الشيعة الذين
كانوا يشكلون جزءا كبيرا من الجيش العراقي الذي قاتل إيران
( الخميني ) لمدة ثمانية أعوام دون أن يصدر عنهم أي ظاهرة
لخيانة أو تمرد أو هروب من الجيش ، إنما يدل على قوة
انتمائهم الوطني ( بغض النظر عن تقييم تلك الحرب ) للعراق
وليس لإيران ولا للخميني .
إذن ما الذي حدث حتى يتحول " ولاء " الشيعة العرب لإيران
وليس لأوطانهم ؟ هل فكر السيد الرئيس بذلك قبل إطلاق
تصاريحه و "اكتشافاته " ؟
إن شعوبنا العربية تعيش منذ عدة عقود مرحلة انحطاط مريعة
نتيجة هيمنة أنظمة الاستبداد والفساد التي تقمع حريتها
ونصادر آمالها وطموحاتها وتسحق كرامتها وتسرق لقمة العيش
من فم أطفالها وتقتل الإنسان فيها . هذه الأنظمة نفسها تقف
ذليلة خانعة مذعورة تجاه العدو القومي لأمتنا بداية من
إسرائيل وصولا إلى أمريكا ، حيث تقدم في كل يوم يمر
تنازلات جديدة عن حقوق وقضايا جديدة . وهكذا يضاف إلى
معاناة الشعب تجاه حكامه مزيدا من الشعور بالقهر والذل
والهزيمة تجاه العدو القومي .
أليس من الطبيعي في مثل هكذا أوضاع أن يبحث المواطن عن
تعويض عما يعانيه يمكن أن يشكل له عزاءا وربما أملا . وهذه
هي إيران ماثلة أمامه تصارع الغرب في أوج قوته وانفراده
على الساحة الدولية وتتحداه ، وتهدد إسرائيل حتى بوجودها (
دون الدخول في تقييم هذه التهديدات ومدى جديتها ) . إن
المواطن وهو يجري مقارنة بسيطة بين القيادة الإيرانية وبين
الحكام العرب تجعل الكفة تميل كثيرا وبما لا يقاس لمصلحة
القيادة الإيرانية . من جهة أخرى فإن إيران ليست دولة
غريبة فهي دولة تجمعنا معها رابطة الإسلام . فلماذا لا
يتعاطف المواطن العربي المسلم المقهور والمسحوق مع إيران ،
ألا يجد ليها ما يفتقده في موطنه ؟ هل يسمى هذا ولاءا يا
سيادة الرئيس؟
لقد نسي الرئيس في زحمة انشغالاته كيف غدا عبد الناصر
زعيما لكل العرب ! إن كل ما فعله عبد الناصر أنه تحدى
الغرب وتبنى مشروعا لبناء القوة الذاتية وتعزيز الاستقلال
المصري ثُم العربي من خلال معركة استكمال استقلال مصر عن
بريطانيا ( معاهدة الجلاء ) ، وكسر احتكار الغرب للسلاح
وتأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي وهزيمته
ووقوفه ودعمه المباشر السياسي والمادي للثورة الجزائرية ثم
اليمنية وتحويل مصر إلى ملاذ لكل أحرار العالم ومناضليه
،كذا الإسهام الرئيسي في ولادة وقيام حركة عدم الانحياز ،
والقائمة طويلة .... هكذا ولدت زعامة عبد الناصر ، يومها
لم تسعف العبقرية أو الشجاعة أحد حكام تلك المرحلة ليعلن
أن ولاء غالبية العرب هي لمصر ولعبد الناصر وليس لدولهم .
لقد جعل عبد الناصر من مصر البلد الفقير الجائع قيادة
حقيقية وحكيمة للأمة العربية ودولة ذات وزن كبير على
الصعيد الإسلامي والإفريقي وقارتي آسيا وأمريكا اللاتينية
ومجموعة دول عدم الانحياز ، فماذا حل بمصر في ظل قيادتكم
سيادة الرئيس ؟
في ظل قيادتكم ، مصر ، أكبر دولة عربية تتخلى عن دورها
العربي وعن مسؤولياتها تجاه الأمن العربي وهل يمكن فصل
الأمن القومي المصري عن الأمن العربي ؟ وينحسر دورها على
مختلف الصعد الأخرى إلى الصفر ، ليس لها أي وزن في أي
منظمة إقليمية أو عالمية . في ظل قيادتكم تتحول مصر (أم
الدنيا ) التي بناها عبد الناصر إلى دولة صغيرة ، عادية ،
خائفة ، مذعورة وخانعة ، مع كل احترامنا وتقديرنا وثقتنا
بشعبنا المصري العربي العظيم ، فنحن نعرف أن مصر التي
نتكلم عنها هنا ليست مصر الشعب ، إنها مصر المغتصبة بفعل
قوانين الطوارىء ومصادرة الحريات والاستسلام للمخطط
الأمريكي الصهيوني . حتى تكون المسائل أوضح ، لا بأس أن
نذكر الرئيس ببعض من سياساته .
بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 قام الملك حسين بزيارة
إلى بغداد والتقى صدام حسين وطلب منه الانسحاب من الكويت ،
وكان رد صدام أن شرطه الوحيد للانسحاب هو أن لا يصدر قرار
بإدانة العراق في مؤتمر القمة المزمع عقده ( رواية الملك
للإعلام في حينه ) وقد بلغ الملك الرسالة – الشرط للقادة
الذين اجتمعوا في القاهرة ، لكن السيد الرئيس أصر على صدور
قرار بالإدانة . وكان الملك فهد مترددا في الموافقة على
نزول القوات الأمريكية في الأراضي المقدسة ، رغم الضغوط
الأمريكية ، فمن تولى إقناع الملك غير سيادة الرئيس . وفي
نفس المؤتمر انقسم القادة العرب بين مؤيد للتدخل العسكري
الأمريكي وبين معارض له (لأول مرة تؤخذ القرارات بأغلبية
الأصوات خلافا لقانون الجامعة الداخلي ) ، صوت 12 عضو ضد
التدخل وصوت 10 لصالحه ، وبعد صلاة الجمعة من ذلك اليوم
المشؤوم ، العاشر من شهر آب (أغسطس) أعيد التصويت ،
وانعكست النتائج 12 مع التدخل مقابل 10 ضد ، لقد غيرت كل
من الصومال وجيبوتي موقفهما . من ضغط عليهما لتغيير
موقفهما ؟
لم تقف الأمور عند هذا الحد ، فإن الرئيس لم يقصر ولم يبخل
في تقديم كل أنواع الدعم السياسي واللوجستي لقوى العدوان
الأطلسية لضرب القوة العراقية حلم إسرائيل التاريخي . لقد
دعم الرئيس الحصار المخزي على الشعب العراقي و" ناضل "
باستمرار ودأب في سبيل استمراره أكثر من إثني عشر عاما
استشهد خلالها حوالي مليون ونصف مواطن عراقي أغلبهم من
الأطفال.
ولاستكمال الصورة ، فلا بد من التذكير بالدور التحريضي
لسيادته على غزو العراق ، فلم تعد سرا زيارة نجله المبارك
جمال لواشنطن قبيل الغزو ليؤكد للأمريكان وجود أسلحة دمار
شامل في العراق . وكالعادة تم تقديم كل أنواع الدعم لغزو
العراق واحتلاله ، والمساهمة في تسويق المخطط الأمريكي في
العراق تحت يافطة ما يسمى " العملية السياسية " .
لعل أحدث إنجازات الرئيس هي دعوته السريعة لرئيس وزراء
العدو لزيارة القاهرة بعد نجاحه في الانتخابات
الإسرائيلية وهو الذي يشن حرب تجويع وإبادة ضد الشعب
الفلسطيني ، بينما لا يجد وزير خارجيته بعض الوقت البسيط
للاجتماع مع وزير خارجية السلطة الفلسطينية المحاصرة .
ويتساءل المواطن العربي هل أن هذا الموقف جاء بشكل تطوعي ،
أم تنفيذا لتعليمات اولمرت وبوش؟
بعد هذا الاستعراض التاريخي لسياسة الرئيس ومواقفه ، يبقى
هناك سؤال لا بد من طرحه . إن إيران تدخل الآن النادي
النووي ، فإذا علمنا أن الدخل القومي الإيراني لا يزيد عن
دخل مصر ، ومع تقارب عدد السكان من جهة ووجود كوادر علمية
مصرية نعتقد أنها تفوق مثيلتها الإيرانية
ماذا فعل السيد الرئيس وإلى أي نادي يأخذ مصر الآن ؟
السيد الرئيس : لا يجب أن تستغرب أن يكون " ولاء " الشيعة
العرب لإيران وليس لدولهم وقد فندنا هذه المقولة ، وإذا
كانت صحيحة حسبما تتفضلون فربما كان لديهم بعض المبررات !
لأن ما يوجد في دولهم من حكام عملاء ، مستبدون ، فاسدون
ومفسدون لا يشرفهم بقدر ما يشعرهم بالعار . وإذا كان
للرئيس أن يستغرب فيجب أن يستغرب لماذا لا يكون الشعب
العربي كله مواليا لإيران .
وأخيرا أليس من حق المواطن العربي أن يسأل الرئيس عن ولائه
... لمن ؟
الجزائر في 22-4-2006
|