مشاهد من زمن العجائب


 

ا لحص سليم

 

 

هذا زمن العجائب، وفيها الكثير من <المضحك المبكي>، ومن <المهازل المآسي>. هذا الزمن ربما يعود إلى ما قبل انفجار الأزمة الوطنية الكبرى، التي سُمّيت بجدارة الحرب اللبنانية القذرة، والتي دامت خمسة عشر عاماً. وتواصل مسلسل العجائب فصولاً بعد الحرب حتى يومنا هذا.
المبكي فيها معروف: تخلل الحرب اقتتال وحشي، قتل وخطف على الهوية، تهجير منازل وتدميرها. الكل يسعى إلى إلغاء الآخر، والكل يعلم علم اليقين، سلفاً، أن لا حرب في لبنان إلا وتنتهي بلا غالب ولا مغلوب. إننا نتلقى الدروس ولا نتعلّمها. كان لنا درس في فتنة العام .1958 ومثلها في الحرب القذرة. فما كان غالب أو مغلوب. ومنذ صدور القرار 1559 عام ,2004 وتمديد ولاية رئيس الجمهورية، ونحن نعيش أزمة وطنية شديدة يحاول عبرها كل فريق أن يلغي الآخر، وهو مدرك سلفاً عبثية محاولاته. هكذا كان المبكي مضحكاً. وكانت المآسي مهازل في ما شهدنا من عداوات انقلبت تحالفات، ولقاءات انقلبت عداوات مع تبدّل الأحوال. وكان من السخريات تلاحم وثيق مع حكم الاستخبارات السورية، بلغ أقصى حدود الاستتباع والتواطؤ والتملّق، من جانب قوى تضجّ الساحة اليوم بأصواتها المدوّية المعترضة على كل ما كان.
ومن عجائب الزمن، مشهد أولئك الذين رفعوا شعارات العروبة وبنوا أمجاداً على معاداة الصهيونية وإسرائيل، وما توانوا لحظة عن إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وفي فلسطين، فإذا بهم اليوم يستديرون من دون أن يطرف لهم جفن، فيحملون على كل ما هو عربي، وينعون العروبة كأنما في ذلك نصر لهم، ولم يعودوا يطالون إسرائيل بشبهة أو كلمة سوء. ولم يتورّع البعض عن التصريح بأن إسرائيل ليست عدواً. وينددون على المسرح الدولي باستمرار وجود فلول من الاستخبارات السورية ويغفلون تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية وخلافها من استخبارات العالم في هذا البلد الصغير. ولا ننسى يوم ارتُكبت جريمة نكراء أودت بحياة أحد الإعلاميين البارزين فدعا مسؤول لبناني كبير الإدارة الأميركية للمساعدة في التحقيق في الجريمة، فلم تمضِ ساعة إلا ورجال <الآف بي آي> الأميركية (مكتب التحقيقات الاتحادي) في موقع الجريمة يُنقبون ويحققون، وإنما بالطبع من دون جدوى.
فجأة، لم تعد إسرائيل ذاك العدو. غفرنا لها اعتداءاتها وجرائمها التي لا تحصى في حق لبنان واللبنانيين، وكدنا نتنكر لعميد الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية، المناضل اللبناني سمير القنطار، وكدنا ننسى أن بين ظهرانينا مأساة إنسانية تتجسد بوجود ما بين 300 و400 ألف لاجئ فلسطيني على أرض لبنان، نرفض بحق توطينهم، ولكن متناسين أن إسرائيل هي التي هجّرتهم من ديارهم وأنها تتنكّر كلياً لحقهم البديهي في العودة بموجب قرارات الشرعية الدولية.
وكان تسابق على إطلاق الاتهامات جزافاً في الجريمة النكراء التي أودت بحياة المغفور له الرئيس رفيق الحريري. وفجأة توقّفت الاتهامات وبات الجميع يترقبون نتائج التحقيق الدولي. ومن كان يتّهم سوريا بات يقول بضرورة التفريق بين العلاقة مع سوريا الدولة وترقّب نتائج التحقيق، تجاوباً مع رغبة جهة عربية نافذة.
والمضحك المبكي أن المندّدين بأفظع قضيتين يرزح لبنان تحت وطأتهما، وهما آفة الفساد ومعضلة المديونية العامة المتفاقمة، كانوا هم في الحكم، في سدة المسؤولية، أيام وُلدتا وترعرعتا واستشرتا، وهم اليوم يصرخون وينددون ويوزعون الاتهامات يمنة ويسرة، ويتصدّرون حملات الدعوة إلى الإصلاح. ولا يكون إصلاح إلا على أيدي صالحين مصلحين. فهل بينهم من يتحلّى بهذه الصفة؟
ومن المهازل المآسي أنهم هم، إياهم، يشكلون الأكثرية الحاكمة التي تشكو من أن هناك من يحول بينها وبين ممارسة المسؤولية والحكم. ومن صلب تلك المهزلة المأساة أن هؤلاء يحظون بالتفاف جماهيري لا يستهان به من حولهم، ممن يصدّقون مزاعمهم، ويقفون على أهبة الاستعداد للهتاف لهم والدفاع عنهم وتلمّس الأعذار لهم في عجزهم أو تقصيرهم عن التصدّي، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، لآفة الفساد وتفاقم الدين العام.
ومن عجائب الزمن، من مهازله ومآسيه، ما يدور حول طاولة الحوار الوطني. إن مجرّد التفكير في عقد مؤتمر للحوار الوطني كان ينطوي ضمناً على إدانة لنظامنا بأنه غير ديموقراطي. ففي ديموقراطيات العالم المعروفة، لا وجود لشيء يُسمى مؤتمراً للحوار الوطني. فالحوار الوطني في أي ديموقراطية فاعلة شأن عادي يومي يجري داخل مؤسسات الدولة، ولا سيما منها مجلس الوزراء ومجلس النواب حيث تتمثل مختلف القوى السياسية. ويتكامل الحوار الوطني مع السجالات الإعلامية البنّاءة ومع آليات متممة من مثل استفتاءات الشعب واستطلاعات الرأي. فعندما دعا رئيس مجلس النواب إلى مؤتمر للحوار الوطني، ضمّ وجوهاً مختارة ومنتقاة بناء على معايير تطرح أكثر من علامة استفهام، كأنما تخلّى، ولو إلى حين، عن دور طبيعي لمؤسسة مجلس النواب، واستطراداً مجلس الوزراء، علماً بأن مجلس الوزراء في لبنان كثيراً ما يكون صورة مصغّرة عن مجلس النواب، ويكون ذلك أحياناً كثيرة على حساب مبدأ الفصل بين السلطتين، الاشتراعية والاجرائية، وتالياً على حساب فعالية المساءلة والمحاسبة في النظام. فكيف يمكن لمجلس النواب أن يحاسب الحكومة وهي منبثقة منه لا بل صورة مصغّرة عنه؟
لا ننكر أن مؤتمر الحوار حقق بعض الانجازات، أولها التخفيف من غلواء التراشق بين أفرقاء الساحة، ولكنه لم يحسم قضايا أساسية، ولا يبدو أنه سوف يحسمها. أما ما اتفقوا عليه فكان جلّه من باب إعلان التوافق على ما لم يكونوا فعلياً مختلفين حوله في الجوهر.
ومن عجائب الدهر، وفيها ما فيها من المهازل المآسي، ما شهدنا في الأمس القريب من احتفال نظمه فريق <القوات اللبنانية> بذكرى توقيف رئيسه الدكتور سمير جعجع ومن ثم مكوثه في السجن قرابة الأحد عشر عاماً.
المناسبة نجحت في غسل أي مؤاخذة على إمضاء صاحب الذكرى ردحاً من حياته مداناً في السجن. لا بل أوحى الاحتفال بأن السجن مدعاة افتخار واعتزاز، ودخول السجن من إنجازات العصر. وجاء الحشد الجماهيري، وما رافقه من تمثيل على مستويات مرموقة لقادة الرأي في البلاد من مختلف المشارب، ليجعل الاحتفال مناسبة لإضفاء شرعية شعبية من نوع خاص على إبطال مفعول أحكام القضاء وعلى فضيلة الوقوع في أسر السجون.
كانت في حق الرجل أحكام بالإعدام في جرائم قتل، خُففت إلى السجن المؤبد. وكان من تلك الجرائم اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي والقيادي الشاب داني شمعون. استمعنا إلى الخطب التي أُلقيت في المناسبة، من صاحب الذكرى كما من بعض المشاركين، فلم نعثر فيها على كلمة واحدة تدحض الاتهامات التي وُجّهت إليه، أو تؤكّد براءته منها، أو تنتقد القضاء على عسفه وظلمه. ولم نجد في كلمة سيّد المناسبة أي إشارة إلى شيء من ذلك. وإذا كانت الاتهامات صحيحة فلم نسمع من المتهم كلمة اعتراف بالذنب أو اعتذار.
نحن سعداء بأن أحكام الإعدام لم تنفّذ، ونحن من المعارضين مبدئياً لعقوبة الإعدام. وما كنا نتمنى لصاحب الذكرى أن يُفني حياته في السجن في أي حال. ولكن القانون الذي أخرجه من السجن لم يُلغ أحكاماً قضائية، بل قضى بوقف العمل فيها. ويتساءل كثيرون: إذا كان القاتل يُعفى من السجن في هذا البلد، فلماذا يبقى في السجن أحد؟ هل يُخلى سبيل قاتل ويبقى في السجن سارق رغيف؟ أي عدالة هي هذه؟
عند المطالبة بالإفراج عن الدكتور جعجع لم يزعم أحد أنه بريء، ولكن قيل إن أمثاله، ممن ارتكب مثل ما ارتكب من جرائم وآثام خلال الحرب القذرة، لم يلاحَقوا ولم تطلهم يد القضاء وبقوا طلقاء أحراراً، لا بل مارسوا ويمارسون السياسة من بابها العريض ويتبوأون أعلى المراكز ويتربعون على عروش طوائفهم. فكانت المطالبة بإخلاء سبيل الدكتور جعجع بدعوى أن العدالة تفترض المساواة. وكان يمكن أن تكون المساواة بملاحقة الآخرين، أي سائر الذين ارتكبوا الكبائر في الحرب القذرة، وليس بالإفراج عن محكوم.
هذا المسلسل من عجائب الزمن، من المهازل المآسي، يجب أن تكون له نهاية إذا كان هذا المجتمع سيستعيد يوماً عافيته واستقراره ويكتسب هذا البلد مكانته المفترضة في العالم المتحضّر. ولن تكون نهاية لهذا المسلسل في واقع الحال إلا بتفعيل الحياة الديموقراطية، ومعها آليات المساءلة والمحاسبة على أشكالها وعلى كل المستويات.