" أضواء على الثورات العربية الراهنة "

           محمود جديد

       لو ألقينا نظرة فاحصة على كل قطر عربي شملته رياح الثورة حتى الآن لرأينا قواسم مشتركة فيما بينها شكّلت العامل الرئيسي لانتفاضة الجماهير ، ومن أهمّ هذه القواسم مايلي :

1- الاستبداد المزمن ، ففي تونس السبّاقة بالثورات وملهمتها حكم /بن علي/ مدة 23 سنة ،وشهيته كانت مفتوحة للمزيد ، وفي مصر ثلاثون سنة ،وكانت مفتوحة على التجديد أو التوريث ، وفي اليمن 33 سنة كانت مفتوحة على التجديد أو التوريث أيضاً ، وفي ليبيا عقيد الاستبداد المزمن دخل عامه الثاني والأربعين ،والمفتوحة بدون حدود ،أو التوريث ، وفي البحرين ( صاحب العظمة)الملك المستبد الوارث لأسرة حكمت عقوداً طويلة من الزمن ، والتي يتم التوريث فيها بعرف قبلي يحاكي القرون الوسطى ... أمّا في البلدان التي بدأ فيها الحراك الشعبي وهي الأردن ، سورية، السعودية ، المغرب ، فالوضع نفسه....

وفي ظل الاستبداد تُستباح الكرامات ، وتُخنَق الحريات بكافة أشكالها ، وتُوءَد الديمقراطية بكلّ أنواعها ، وتُملأ السجون ،وتُفبرك البرلمانيات بمختلف الماركات والتسميات ، وتُبتَدع الديكورات الحزبية  الرسمية للتباهي بها أمام الوفود الغربية ،ومنظمات حقوق الإنسان الدولية ...

2 -إنّ الفساد سمة مشتركة لكافة الأنظمة السابقة ،لأنّه رديف للاستبداد ،فأينما حلّ الاستبداد رافقه الفساد الذي يعشعش في كلّ مناحي الحياة الإدراية ،والأمنية ، والسياسية ، والاقتصادية ،والتعليمية ، والقضائية ...الخ ومن خلاله يتمّ مصّ دماء الشعوب ،وتُنهَب الثروات لتستقرّ في البنوك الغربية ، وبسبب ذلك تُحرَم التنمية الوطنية منها ، وتتراكم الديون على الدول ، وتنشأ الأزمات الاقتصادية ،وتفرّ الكوادر الوطنية إلى الخارج ...

3 - نشوء الحاشية الفاسدة الوصولية ، والشرائح الانتهازية الخبيرة بالتصفيق ، ( والتأليه ) التي تساهم في غرور وصلف الحكام ،وإعماء بصيرتهم عن حقيقة ما يجري في أقطارهم ...أو وراثة هؤلاء مع وراثة الحكم ...

4 - التبعية لأمريكا وحلفائها ، ووصول بعضها إلى إقامة علاقات مباشرة ،أو غير مباشرة مع الكيان الصهيوني ، ومنهم مَن ينتظر ريثما تُزال المعيقات والعقبات ، أو تُنجَزالمقايضات ...

5 - تنامي أمراض المجتمع من عائلية وعشائرية وقبلية ، وطائفية ومذهبية ،وجهوية ، وغيرها ،وبعض هؤلاء الحكام يؤجج هذه الأمراض ويستقوي ببعضها ، ويستخدمها كأدوات للقمع والاضطهاد ، أو لحرف الصراع داخل المجتمع عن مجراه الحقيقي والطبيعي ...

6 - إنشاء وحدات أمنية خاصة تابعة للحكام مباشرة ، وتحت مسميات مختلفة ،بينما في جوهرها واحدة تنحصر مهمتها في حماية استبداد الحاكم ، وإطالة بقائه في السلطة ، واحتكاره لها ...

أشكال التغيير :  كما هو معروف ، فإنّ الأنظمة الحاكمة هي التي تحدّد أسلوب التغيير ، فإذا اعتمدت الديمقراطية في التعامل مع شعوبها سيكون التغيير ديمقراطياً وسلساً وهادئاً ، أمّا إذا استخدم الحاكم العنف مع شعبه  فسيفتح الباب لمضاعفات خطيرة يتحمّل الحالكم المستبد تبعات ذلك ...وما دمنا قد تحدثنا عن القواسم المشتركة بين الثورات العربية الراهنة ،فلا بدّ لنا من الإشارة إلى بعض التمايز ،أو الخصوصية لكلّ منها ، والتي تنبع عادة من التركيبة الاجتماعية والأمنية لكلّ منها ، ففي تونس جرت المواجهة بين شباب اعتمد التحرك السلمي في التعبير عن مطالبه في الإصلاح

والتغيير فواجهته الأجهزة الأمنية بالقمع والعنف ، وعندما عجزت عن السيطرة على حركة الشارع التونسي ،ورجحت كفة الشباب التونسي الثائر حاول / بن علي/ استخدام القوات المسلحة لحسم الأمور ، ولكنّ موقف رئيس أركان الجيش كان واضحاً وحازماً وشجاعاً برفضه استخدام الجيش لقمع الشعب ممّا ضاعف من الضغوط على /بن علي/ ، وأجبره على التخلي عن السلطة والهرب ، وما حدث في مصر مشابه إلى حدّ كبير لما حدث في تونس ...بينما نجد الصورة مختلفة في ليبيا واليمن والبحرين والتي تحتاج كلّ منها إلى مقال خاص لتفصيلها وتوضيحها ، ولكن الذي نودّ الإشارة إليه هنا هو أنّ ركائز هذه الأنظمة في القوات المسلحة قبلت بأن تكون أداة قمع بيد حكامها ضد شعوبها ، ممّا زاد الصراع تعقيداً وتصعيداً وخطورة ، وفسح المجال للتدخلات الخارجية التي تهدّد مصالح تلك الأقطار في نهاية المطاف ....ولو استجاب الجيشان: التونسي والمصري لمشيئة حكامهما لتكرّرت الصورة نفسها بهذا الشكل أوذاك والتي نشاهدها في الساحة الليبية أو اليمنية ،غير أنّ بعد النظر لقيادة الجيشين ، والحرص على وحدة ، وبقاءمؤسسة القوات المسلحة متماسكة شكّلا الدافع الأساسي في اتخاذ هذا القرار الحكيم ، وإلاّ ربّما تعرضا للانشقاقات والشرذمة ، وحتى الاقتتال الذي يودي بالقطر إلى التمزّق والهاوية ، وهذا ما يجري في ليبيا ، ومانخشى حدوثه  في اليمن في هذه الأيام ...

شعارات التغيير وآلياته : تميّزت شعارات التغيير في الثورات العربية جميعها بالبساطة والوضوح ، والتركيز على المطالب الديمقراطيةالصرفة ، واحترام حقوق الإنسان بعيداً عن (الأيديولوجيات) الحزبية المعارضة ، وخاصة في الساحة المصرية، بحيث أصبحت تلك الشعارات مطلباً يعبّر عن مشاعر وتطلعات الجماهير العريضة في تلك البلدان ، ولايستطيع أّيّ مكابر أن يدحض صوابيتها ومشروعيتها ، سواء داخل الوطن أم خارجه ، كما برز الانسجام والتنسيق بين الأطراف التي رفعتها ممّا ساعد على إبقائها هدفاً مركزياً ثابتاً لا يُحاد عنه ، وصيانة وحدة الشباب الثائر الذي يقود عملية التغيير ،وحمايتها من الشرذمة والتناحر ،وقطع الطريق على أجهزة الأنظمة من الاصطياد في الماء العكر لتمزيقها ... وقد انعكس الدرس التونسي والمصري على الساحات الأخرى ، ففي ليبيا اعتمدت الجماهير الثائرة في البدء الأسلوب نفسه ،ولكنّ لجوء القذافي إلى العنف غير المشروع ضدّ شعبه غيّر  المعادلة ، وأدخل ليبيا في أتون العنف والاقتتال ، وأفسح المجال للتدخلات الأجنبية التي قد تهدد استقلال ليبيا برمته ...وفي اليمن حيث يتواجد وينتشر كلّ أنواع السلاح ،وبما يزيد عن عدد سكانه فإنّ الجماهير الثائرة ألزمت نفسها بالتحرك السلمي وضبط النفس بشكل يدعو للاحترام والإعجاب بالرغم من الاعتداءات التي تعرّضت إليها من زبانية النظام وبلطجيته وأمنه ، وربحت الرهان حتى الآن توسعاً وانتشاراً ، وأصبح النظام محشوراً في الزاوية الضيقة يلفظ أنفاسه الأخيرة ...أمّا في البحرين فالموضوع أكثر تعقيداً وحساسية بسبب وجود أكثرية تطالب بالإصلاح ، وبالرغم من اعتمادها شعارات وطنية وديمقراطية راقية إلاّ أنّ النظام الحاكم هناك رفع في وجهها ورقة المذهبية لخلط الأوراق وحرف الصراع واحتوائه ،وعندما عجز عن ذلك استنجد بقوات درع الجزيرة من دول التعاون الخليجي وخاصة من السعودية ( باستثناء الكويت ) حيث مارست أبشع أنواع القمع ضدّ الجماهير المسالمة العزلاء ، وفي ظل صمت وتواطؤ عربي ودولي مُدان ...

حول الساحة السورية :   لايزال الحراك الشعبي في سورية في بداياته ( باستثناء مدينة درعا ) ، وهو قابل للتوسع والانتشار إذا لم يقدم النظام الحاكم على إجراء خطوات إصلاحية ديمقراطية مستعجلة شجاعة تصون سورية من العنف المدمّر ، لأن رياح التغيير لن تستثني أي قطر عربي ، وبذلك يتحمّل هذا النظام المسؤولية الكاملة عن التبعات والنتائج أمام الشعب السوري ،وأمته العربية ، والتاريخ ... وهنا نودّ تسجيل الملاحظات التالية :

1 - إنّه من الحكمة والعقل والحس الوطني السليم والمسؤول أن يلتزم الحراك الشعبي بالأطر الوطنية الديمقراطية الجامعة التي تصون وحدة القطر العربي السوري بعيداً عن إثارة النعرات الطائفية والإثنية التي تُجيّر في المحصّلة لصالح النظام الحاكم من خلال استغلاله هذه الورقة الخبيثة في تمزيق اللحمة الوطنية ، ووضع العراقيل في وجه مسيرة النضال الديمقراطي ، كما أنّ القوى الخارجية ستكون جاهزة في كلّ حين لالتقاطها وتوظيفها لصالح مخططاتها الخاصة ، ومن هنا فمن واجب كلّ القوى الشريفة في الساحة السورية الاقتداء بدروس الثورة المصرية الرائدة في هذا المجال حيث نجحت بحكمتها وصوابية رؤاها أن ترمّم الوحدة الوطنية وتعزّزها بعد حقبة مريضة تأجج فيها الصراع الطائفي بين الأقباط والمسلمين إلى درجة خطيرة ، وما جرى في ميدان التحرير من صور ومشاعر إيجابية في هذا المجال أثلج ويثلج صدر كلّ غيور على مصالح الشعب في مصر ،والأمة العربية جمعاء ... ولذلك تبرز أهمية التصدي الإعلامي والسياسي لكل الأصوات والأطراف الشاذة التي تحاول اللعب بورقة الطائفية ،سواء ذلك في الشارع السوري أم على صفحات الفيسبوك وتويتر وغيرها ، لإبقاء النضال الديمقراطي ضمن إطاره الوطني والطبيعي حفاظاً على وحدة المطالبين بالإصلاح والتغيير الديمقراطي ، وحرصاُ على الوحدة الوطنية التي لاغنى عنها لبناء تجربة سياسية جديدة جديرة بالاحترام والتقدير والاقتداء ، وتكون مؤهّلة مستقبلاً لبناء الوطن وقيادة سفينته إلى شاطئ الأمان بأقل الخسائر والتضحيات والمعاناة ، وقطع الطريق على التطرف والتعصّب والإرهاب من أي طرف كان، والذي اكتوت بناره أقطار مجاورة الشيء الكثير ....

2 - إنّ المحافظة على سلمية التحركات الشعبية والاعتصامات والاحتجاجات شرط لاغنى عنه من أجل توسعها وانتشارها ونجاحها ،لأنّ استخدام العنف والحرق من قبل الجماهير المنتفضة  سيستغلّه النظام من أجل تغطية المزيد من قمعه وبطشه، ومادة إعلامية لأبواقه التي قد تستطيع تضليل قطاعات مهمة من أبناء الشعب السوري بمختلف مكوّناته وانتماءاته ، وتشويه مرامي وأغراض ودوافع المنتفضين والثائرين ...

3 - أصبح من المؤكّد أنّ حلفاء وأتباع أمريكا في لبنان وعملائها هناك في جماعة 14 آذار/مارس/ ، ومَن يحالفهم من بعض المعارضين السوريين المحسوبين على إعلان دمشق في الخارج،وغيرهم ينفخون في أبواق الطائفية والمذهبية ،وبث روح الفتنة بين أبناء الشعب السوري ، ويوجهون سهامهم المسمومة تجاه المقاومة اللبنانية البطلة بهدف الإساءة إليها ، وزج أنفسهم في صراعات سياسية لبنانية داخلية ، وتأليب الجماهير السورية ضد هذه المقاومة بأخبار وإشاعات ملفقة تسهتدف خلق أجواء من العداء والتناقض بينها وبين أيّ نظام قادم في سورية من أجل محاصرتها مستقبلاً لخنقها خدمة للتحالف الإمبريالي - الصهيوني ...هذا مع العلم ،إنّ الإساءة إلى المقاومة اللبنانية من قبل بعض عناصر المعارضة السورية سلاح مشبوه سيرتدّ على أصحابه ،لأنّ النظام السوري سيكون أولّ المستفيدين من استخدامهم لهذا السلاح المفلول من خلال التقاطه لهذه المواقف الخاطئة للبرهنة على الخلفيات المريبة التي ينطلق منها هؤلاء ، وفي الوقت نفسه ، سيحرم المعارضة السورية من تعاطف قطاعات هامة وشريفة في الساحة السورية ، والعربية ، وسيكون المستفيد الأول هو الكيان الصهيوني ، لأنّ  المقاومة اللبنانية هي الوحيدة التي حرّرت أرضاً عربية محتلة من قبل الكيان الإسرائيلي دون قيد أو شرط ، وهي التي أزلّت جيش هذا الكيان في عام 2006 ،وأنهضت الأمة من سباتها ، واشعرتها بعزتها وكرامتها في هذا الزمن الكالح ، ووقفت بجرأة وصدق وبدون حساب مع المقاومة الفلسطينية ...وبالتالي فإنّ مقاتليها لايمكن أو يُعقَل أن يتحوّلوا إلى مرتزقة يعملون لصالح أيّ نظام ، كما أنّهم يتمتعون بوعي سياسي كبير يحميهم من الانزلاق ، والانحراف والتموضع في الخندق المعادي لحرية الشعوب عند احتدام معاركها ، بالرغم من تفهمنا لحساسية البعض من تصريحات قادتها التي تشيد بالنظام السوري لوقوفه إلى جانبها ،كما نتفهم في الوقت نفسه الأسباب والدوافع لتلك التصريحات في ظلّ هجمة العملاء داخل لبنان ،وأسيادهم في الساحة العربية والدولية على المقاومات الشريفة في وطننا العربي ...ونحن نرى أنّ الموقف من المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية هو المعيار ،أو الصنجات التي نقيس ،ونقوّم بواسطتها هذا الشخص ، أو الحزب ،أو ذاك في هذه الأيام الصعبة من تاريخ أمتنا العربية  ... فلولا هذه المقاومات الثلاث لاستباح التحالف الإمبريالي - الصهيوني أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج ،ولصُفيَّت قضايانا الوطنية والقومية ، ولما عشنا عصر الثورات العربية المجيدة في هذه الأيام  ،ولاستمر عصر الانحطاط العربي إلى أجيال لاحقة طويلة ،وبشكل أدهى وأخطر ...

 في 24/03/2011