مسودة وجهة نظر حول المشروع القومي
(1-5)
مصطفى رستم
يعترف الجميع أن المشروع القومي يتهاوى منذ عقود. بل يمكن القول أنه يعيش مرحلة الهزيمة أو الانتكاسة سمها ما شئت . والسؤال المطروح..لماذا ؟
سأتناول في الرد على هذا السؤال أسلوب رصد أهم المراحل التي مر بها وليس التأريخ لجميع تياراتها فالاتجاه الديني على اختلاف أطيافه كان يعتبر أن القومية العربية خلقها الغرب للإطاحة بالإمبراطورية العثمانية
وينعتون رموز الاتجاه القومي بالصنائع والعملاء للغرب. ويتجاهل هذا الاتجاه كل عناصر الفساد والإهتراء والتي لولا تناقضات الدول الاستعمارية لسقطت قبل عقود من سقوطها وان العرب في المشرق لم يتبنوا التوجه القومي إلا بعد : يأس الولايات العربية من إمكانية أي إصلاح في الدول العثمانية ونمو الحركة الطورانية في تركيا والتي فرضت عملية تتريك واسعة في الإمبراطورية .
وعندما سقطت السيطرة العثمانية في المشرق نتيجة الحرب العالمية الأولى وقع في قبضة الإنكليز والفرنسيين .فقسموه إلى خمسة دول وفق سايكس بيكو .
أما الجزيرة العربية فكلنا يعلم لولا التدخل البريطاني لما كانت تضم سبعة دول . ولما كان المغرب العربي قد تعرض للسيطرة الأجنبية قبل حوالي قرنين . ولأن هذه القوى تنتمي لدين أخر نجد أن الوطنية عند المغاربة ارتبطت بالدين منذ زمن طويل . أما مصر بعد سقوط محمد علي باشا في السيطرة على الإمبراطورية فقد انكفأت على نفسها وحكمها التوجه الوطني أولاً.
- لو دققنا في الوضع العربي عامة في تلك المرحلة نجد أنه كان يعاني عزلة مثلثة الأبعاد.
- عزلة عن الخارج وهو لا يعلم شيئا عن جميع التطورات العلمية والسياسية في أوربا جعلته يفقد أي خبرات سياسية . ولأن علاقته بالدولة علاقة ضريبة وتجنيد فهو عدو مزمن لها ..
- عزلة فيما بينه طويلة الأمد جعلت العصبيات القبلية والطائفية والأسرية و المدينية حتى عصبيات الأحياء هي التي تحكم علاقته مع الأخر. فالغريب بالنسبة له عدو محتل .
- أمية مطبقة ولولا الكتاتيب لما توفرت القلة القليلة (تفك المكتوب) فهو بالتالي ليس معزولا عن التطور الثقافي في الغرب,بل معزولا حتى عن تراثه ولا يعرف غير حكايات عنترة وغيرها .
- أما النظام الاقتصادي فهو مجتمع رعوي زراعي حرفي والتجارة فيه قائمة على العملة الذهبية والمقايضة . تحكمه أسر إقطاعية وزعماء القبائل والطوائف والطرق الصوفية . هذا هو المجتمع الذي بدأت تنمو فيه الهوية الوطنية المستندة على مفاهيم قومية . هذا العرض أراه ضروريا لمعرفة لماذا أخذت ؟ القومية طابعا عرقيا . كما أراه ضروريا لنرصد مدى الحيوية التي تكمن فيه هذه الحيوية التي مكنته من طرد الفرنسيين من سوريا ولبنان بأقل من ثلث قرن كما حطم محاولة فرنسا تقسيم سوريا إلى خمس دول . نعم لقد نمت الوطنية بسرعة مذهلة لكنها بقت خيمة ترقد تحتها العصبيات ولم تأخذ وقتها الكافي لكي تصبح بديلا.
- إننا مجتمع حديث التشكل لكنه خضع لتطورات اقتصادية سريعة خلال أقل من خمس عقود من مجتمع رعوي إلى زراعي إلى صناعي حتى المعلوماتية دون أن يكون لكل أدوات هذه النقلات التي رافقها تطور نسبي بالتعليم ,أحدثت تحولات في العلاقة الاجتماعية والمفاهيم لكنها لم تأخذ وقتها الكافي كما حصل في الغرب . لذلك بوسعنا فهم لماذا حدث الاضطراب لقيم المجتمع القديم دون أن ترسخ قيم المجتمع الحديث . فالعلاقات الطبقية المفترض تشكلها كانت دائما تمزقها العصبيات القديمة هذا الواقع أنتج أحزابا سياسية ضعفية , كيف لا والسياسة كلها شئ جديد في حياة المجتمع . أما المثقفون وقد تزايدت الترجمات للثقافة الغربية فكان الانبهار ثم الاستلاب لهذه الثقافة فأصبح أحدهم يردد" قال نيتشه وقال ماركس إلى أخره" كما يتباهون بترديد مصطلحات البروليتاريا والبرجوازية ومجتمعهم لا يدري ما يقولون ولاهم يحاولون فهم مجتمعهم على ضوء هذه الأفكار وزاد الطين بله ظاهرة الانفصام بين مبادئ يروجون لها وثقافة عملية رضعوها في بيئتهم منذ الصغر . وعندما تزايد نشر التراث انبرى المثقفون الإسلاميون للرد على (المغتربين ) فاتجهوا إلى التقليد ودعموا ذلك بما يشبه تقديس الأجداد وحاربوا الاجتهاد واعتبروا أن الاقتراب من العصر بدعة وكفر لذلك نجدهم يعانون نوعا مختلفاً من الاغتراب (اغتراب الانسلاخ عن العصر ) وجاهدوا للعودة بالأمة الإسلامية إلى اللحظة المضيئة في تاريخها دون أن يدركوا أن للزمن اتجاه واحد وأنه كما أبدع أجدادنا لمواجهة واقعهم كان عليهم أن يبدعوا.
لأننا منذ الصغر رضعنا ثقافة تنظم أولويات الصراع (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ) ولأن إبليس يكمن في الآخر ,لذلك فهو دائما عدو محتل . كان سهلا على السياسيين تخوين الآخرين بمجرد الاختلاف معهم في الرأي. ويصبح سهلا تطوير الخلاف إلى الصراع ومن يتذكر العلاقات منذ الخمسينات , لا يجد حزباً واحداً غير متهماً بالعمالة (إبليس) ولأن القبائل عادةً لا تنسى حقها في الثأر نفهم لماذا خاضت في سوريا قبيلتي البعث والشيوعي حربا ضارية على القوميين السوريين ثأرا لمقتل عدنان المالكي . كما نفهم لماذا خاضت في العراق قبيلة الشيوعيين حرباً على القوميين العرب عملاء البرجوازية الصغيرة . وردت عليها قبيلة القوميين حربا دموية بصفتهم عملاء موسكو. ثم كيف انقسمت كل قبيلة إلى عشائر متناحرة لا تقل دموية وفي حمأة الصراع هذا نسي الجميع انه كان بوسعهم على خلافاتهم أن يكونوا حلفاء في مواجهة إسرائيل والقوى الاستعمارية . فهل نستخلص العبر من حوادث التاريخ القريب ؟ لندرك انه بإمكاننا أن نختلف دون أن نكون أعداء وأننا إذا فقدنا حلفاء ضعفنا فكيف إذا قتلناهم.
- كثيرا ما يغيب عن ذهننا أنه في المجتمعات الحديثة التشكل سياسيا يصبح الجيش هو المؤسسة الوطنية الأقوى , هذه المؤسسة تخضع لمعادلة واضحة : كلما قويت الحياة السياسية في المجتمع كلما تراجع الدور السياسي للجيش ، والعكس صحيح .
- وأخيرا قبل الدخول في رصد مراحل حزب البعث ولأني سأركز على السلبيات لابد من الإشارة إلى أن جميع حركات التحرر في الوطن العربي قد استطاعت في نضالاتها إنجاز الاستقلال للأقطار العربية لكنها جميعاً فشلت في قيادة شعوبها لتحقيق الأهداف التي أعلنتها ولأن الحركات القومية كانت الأبرز في هذا الفشل وإن كنت
سأترك للقوى القومية الأخرى تقديم رؤيتها النقدية وأني تحديدا ًسأتعرض لحزب البعث :
- من الناحية الفكرية - إن الفكر القومي الحديث سبق تشكيل الحزب لذلك اعتبر نفسه استمرار وتطويراً فأعطى لنفسه ميزة لا أعتقد أن أحداً ينكرها عليه
وهو ربط النضال القومي بالنضال الاجتماعي حين تبنى الاشتراكية لقد لخص أهدافه بثلاثة ( الوحدة – حرية – الاشتراكية) وبالرغم من أنه من الناحية النظرية لم يعطي الأولوية لهدف على آخر بل اعتبرها كل متكامل فنجد أنه من الناحية العملية كان يغير من أولياته وهذا ولد اضطراباً وصراعاً داخلياً.
- لقد أعلن الاستقلال والديمقراطية طريقاً لتجسيد هدف الحرية ولكن اعتبر نفسه حزباً ثورياً فهو في الوقت الذي قاوم فيه الاستبداد في بداية نضاله
وتبنى الحرية والديمقراطية البرلمانية تحديداً.نراه بعد وصوله إلى السلطة وفي مناسبات أخرى يدعو إلى العنف الثوري وبالرغم من انتقاده الديكتاتورية
الشيوعية إلا أن انتقاده البرلمانية على النمط الغربي قد تزايد حتى آل به المطاف إلى تبني الديمقراطية الشعبية التي أصبحت نسخة طبق الأصل من نمط الحكم في الكتلة الاشتراكية.
لقد اعتبر حدود الوطن العربي هي الحدود الخارجية لكل الأقطار العربية في المشرق والمغرب مضافاً لها كيلكية و الإسكندرون والأحواز. ثم أضاف أرتيريا في مرحلة لاحقة . وبالرغم من أنه أوضح فهمه القومي بطريقة إنسانية رافضاً كل أشكال التعصب العرقي إلا أنه دعا إلى إجلاء كل القوميات التي ترفض العروبة .
وبالرغم من أنه في المؤتمر القومي السادس تجاوز الدستور الذي سنه الحزب في بدايته وبالتالي شطب هذا البند الذي ورد فيه هذا الإجلاء لكنه عمليا ًكان متحمساً لضرب الثورة الكردية في شمال العراق وكانت نظرته هي نفسها لما يجري في جنوب السودان . وبالرغم من أنه رفض أي تفسير للتفوق العربي لشعاره ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) إلا أن نفحة من هذا النوع بقي في فهم الآخرين لهذا الشعار.
- جهد الحزب لرفض الاشتراكية بالمفهوم الماركسي وأسماها الاشتراكية العربية ثم الطريق العربي إلى الاشتراكية وحين تبنى الصراع الطبقي
صراحة في المؤتمر القومي السادس ولد صراعات داخله وانشقاقات واسعة . وبشكل عام كانت الاشتراكية تعني رغبة العامة في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال ضرب طبقة الملاكين الكبار وكذلك الرأسماليين الكبار دون أن يكون لديه برنامجا ًتطبيقياً أكثر من إنجاز رأسمالية الدولة.
تأسس الحزب في سورية ، ولكنه بسرعة ملفته امتد إلى العراق والأردن ولبنان. ولعب في هذه الأقطار دوراً بارزاً إلا أنه في بقية الأقطار العربية بقي دورهامشياً. وبالرغم من أن أحداً لا ينكر أن أفكار عبد الناصر كانت متأثرة إلى حد التطابق مع أفكار حزب البعث فإن عبد الناصر بشخصيته المؤثرة والثقل العربي لمصر استطاع أن يشكل العمود الفقري للوعي القومي شمل الأقطار العربية كافة وإنما بنسب متفاوتة ..
مسودة وجهة نظر حول المشروع القومي
(2-5)
مصطفى رستم
- لقد مر الحزب بعدة مراحل تاريخية : مرحلة( 1947 – 1957)
1- لقد تشكل الحزب من اندماج حزبين ( البعث العربي وقد كان انتشاره واسعا ًبين المثقفين – والعربي الاشتراكي وقد كان انتشاره واسعاً بين الفلاحين.) لقد أعطى الأولوية المطلقة للحرية والديمقراطية والاستقلال . فقد حارب في سوريا استبداد حسني الزعيم رغم تردد قصير في البداية وكذلك حكم الشيشكلي رغم غزل قصير في البداية ، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يتكرر دور الحزب الحاسم شعبياً وعسكريا ًفي إسقاطه ورغم أن قاعدة الانقلاب العسكري كانوا من البعثيين وأصدقائهم إلا أن الحزب أصر على إرساء الحياة الديمقراطية في سوريا التي استمرت حتى نهاية (1957) التي يعتبرها الكثيرون الفترة الذهبية للديمقراطية في سوريا وخاض انتخابات قوية في الأردن ولبنان ولكنه لم يفعل ذلك في العراق لأنه كان ممنوعاً لكنه تصدى لمشاريع الوحدة مع الأردن والعراق لأنه كان يعتبر أن الوحدة العربية في ظل السيطرة البريطانية هو تفريط في استقلال سورية. وبالرغم من أنه قد برزت من داخله رؤية أخرى باتجاه الوحدة مع العراق لكنه فضل الحفاظ على الاستقلال.
خلال هذه السنوات لا أحد يستطيع أن يشكك في اخلاص الحزب للديمقراطية. إلا أن تساؤلات كثيرة كانت تطرح نفسها داخل الحزب أهمها : إلى أين قادتنا هذه الديمقراطية سوى تثبيت سلطة الملاكين الكبار والطبقة الرأسمالية ؟ وقد لجأ فعلاً أكثر من مرة من خلال ضباطه بالضغط على هذه الطبقة ، مما جعل الحياة السياسية قلقة إلى حد كبير. لكنه استطاع فعلاً مع بقية القوى السياسية أن يلجم الجيش ويفسد كل المؤامرات التي حاولت الإطاحة بالنظام الديمقراطي .2- مرحلة (1958- 1963)
- عندما تسلم جمال عبد الناصر الحكم كان الحزب ينظر له كمستبد عسكري وكان منحازاً لمحمد نجيب الذي كان يمثل الوجه الشعبي للثورة المصرية هذا العداء لعبد الناصر استمر حتى عام (1954) فقد تغير موقفه عندما تولى عبد الناصر مقاومة حلف بغداد وأمم قناة السويس وخاض معركة شرسة. عندما شن العدوان الثلاثي على مصر كما تبنى توجهاً قومياً مشابه لتوجهات الحزب .
فبدأت الدعوات داخل الحزب تتزايد للوحدة مع مصر. وكرد على التهديدات التركية بشن الحرب على سوريا ، ورداً على الملكية الهاشمية بشقيها الأردني والعراقي ، وتخلصا من الصراعات الداخلية التي أنهكته فاتجه لإعطاء الأولوية المطلقة للوحدة .
ولم يقبل التنازل عن الحريات الديمقراطية في سوريا فقط بل قبل حل الأحزاب بما فيها البعث نفسه عندما اشترط ناصر ذلك وكان يجد لنفسه كل المسوغات لإعطاء الأولوية للوحدة التي لا يمكن بدونها تحقيق الحرية والاشتراكية .
لم تكمل الوحدة عامها الرابع حتى انفصلت بانقلاب عسكري. ورغم هشاشة القوى التي استند عليها الانقلاب فقد نجح دون أي مقاومة تذكر، ورغم أني لست بسبيل التعرض لهذه المرحلة لكن لا بد من الإشارة إلى أن الوحدة قامت بدعم شعبي كاسح لا نظير له في تاريخنا محلياً وعربياً لكنها انتهت دون أن تسفك نقطة دم واحدة في سبيلها برغم جبروت الدولة الأمنية التي أقيمت وبرغم الاتحاد القومي الذي أنشئ بديلاً عن الأحزاب السياسية التي حلت بل كان رئيسه هو الذي تزعم حركة الانفصال . على حد علمي لم يشارك أحد من البعثيين في عملية الانفصال . لكن صدمة الانفصال أفرزت ثلاثة اتجاهات رئيسية داخل البعثيين الأولى هبت للدفاع عن الوحدة وعن عبد الناصر وجوهر موقفها أن الوحدة تعرضت لمؤامرة خارجية. فأسست حركة وحدوية تشظت إلى عدة حركات .
والثانية اعتبرت أن الاستبداد من قبل عبد الناصر بالذات هو المسؤول عن انهيار الوحدة . فساندت الانفصال وحاربت أي إمكانية للوحدة بوجود عبد الناصر . والثالث دعا للنضال من أجل وحدة جديدة مع مصر أساسها الديمقراطية وتعدد الأحزاب وهذا هو نهج ما بقي باسم البعث . لكن عبد الناصر ناصب حزب البعث وخاصة أصحاب هذا النهج عداء شديداً فقد كان حساسا تجاه أي نقد يوجه له .
وبغض النظر عن واقعية ما طرحه الحزب فقد عاد لموقفه النظري الأول وجوهره أن الوحدة لا يمكن أن تستمر بدون حريات ديمقراطية وأن دولة الوحدة والحرية لا يمكن استمرارها بدون الاشتراكية التي تعني القضاء مادياً و سياسياً على كل القوى الرجعية التي نفذت الانفصال .
- قامت في شباط حركة بقيادة الحزب وأسقطت حكم عبد الكريم قاسم وأعدمته .كما شنت حملة دموية شرسة على الشيوعيين ثأراً للمذابح التي تعرض لها القوميون في الموصل والإعدامات في بغداد . وبعد شهر قامت حركة مماثلة في سوريا قادها حزب البعث بالتعاون مع الناصريين وضباط وطنيين. فعادت قضية الوحدة تطرح نفسها من جديد ولكن هذه المرة ثلاثية .
- مع حرصي على إبقاء الحديث عن حزب البعث ، لكن هنا لا بد من التعرض لعبد الناصر والحركة الناصرية . لأن البعث وعبد النصر هما المسؤلان عما آل إليه الحل فيما بعد. فقد مضى أكثر من أربعة عقود على هذا الحدث فنستطيع أن نتجوز كل الاتهامات التي تبادلها الطرفان .لقد كان عبد الناصر بطل النهوض العربي بلا منازع ويمتلك شعبية في الوطن العربي
ربما تضاهي شعبيته في مصر ذاتها . لكنه كحاكم مستبد لم يكن يتحمل شراكة أحد . كما أنه يعارض قيام أية تنظيمات سياسية في الدولة التي يحكمها وكان يفضل قيام تنظيم سياسي يشرف عليه بنفسه رغم فشل كل الأشكال التنظيمية التي أقامها فتزايد اعتماده على أجهزة الأمن . وكان ينظر بعين الشك والريبة لكل التنظيمات القومية الأخرى وبالتالي يعتبر هذه التنظيمات قوى منافسة غير مرغوب بها . أما حزب البعث فقد كان يرى في عبد الناصر شريك لا بد منه لقيام أي وحدة وبنفس الوقت ينتقد نظامه الاستبدادي والشريحة المحيطة به . فالوحدة المطروحة لم تكن في حقيقة الأمر بين سوريا والعراق بل بين عبد الناصر والبعث .
- لقد سبب فشل الوحدة لعبد الناصر متاعب جديدة هددت وضعه بمصر نفسها ، لذلك كما يبدو لي قرر ألا يعاود التجربة مرة ثانية .( في عامي 1969- 197.0) التقيت به مرتين في المرة الأولى قال: تظنون أن المسؤلين هنا في مصر يريدون الوحدة أقول لكم احتكوا بهم ستجدون أن معظمهم يرفضون ذلك .
وفي عام (1970) كنا نحمل مشروع وحدة بين سوريا ومصر وليبيا ، قال لا يجوز أن نقيم وحدة قابلة للفشل لأنها إن فشلت ثانية لن تقوم لفكرة الوحدة قائمة . بيننا وبينكم فاصل جغرافي وقوى معادية وإقليمية ودولية كثيرة .والأفضل من ناحية عملية أن نقيم تحالفا ًوليس وحدة ، وعندما عرضت عليه أن يقيم الوحدة بين مصر وليبيا قال وهل تصدق أن الشيخ معمر يريد وحدة مع مصر ؟ قلت هذا ما يعلنه الرجل صباح مساء فقال لي لا تصدق. وضرب بعض الأمثلة التي تؤكد صحة كلامه قلت له إذا كان القذافي هو كما تقول فإن القادة الذين يعملون معه والشعب الليبي يريدون ذلك .ومن ناحية جغرافية إن قامت وحدة مع ليبيا لا يمكن أن تتعرض للانفصال . حدق بي طويلاً ثم قال : نحن بغنى عن حرب جديدة مع الغرب..
- إذا عدنا إلى مجريات الأمور عام 1963 فكلنا يتذكر أنه سيطر على المجتمع العربي أمل هائل بإنجاز الحلم لكن سياق المباحثات كانت تسير باتجاه آخر وقد تحرك
الشارع الناصري ضد حزب البعث في سوريا يطالب بوحدة فورية كما كانت وليس وحدة اتحادية كما طالب بها البعث ولم يكن الخلاف خلاف بين حلفاء بل تطور الأمر إلى صراع دموي كلنا يعرف نتائجه المؤسفة .
ترى لو انتصر الناصريون في سوريا هل كانت الوحدة ستعود؟ أشك في ذلك ليس لأنهم ليسوا صادقين فأنا لا أشك في صدقهم بل لأن عبد الناصر كان له رأي
آخر والذي يؤكد ذلك بعد أشهر قليلة تمكن عبد السلام عارف مع حلفائه الناصريين من طرد البعث من السلطة في العراق ومع ذلك لم يخطو عبد الناصر معهم سوى خطوات خجولة أدت إلى لا شيء .
- لماذا تصارعت هاتان القوتان القوميتان بهذه الطرقة الدموية ؟ لماذا حمل الناصريون السلاح على البعث؟ولماذا أعدم البعث عشرات الناصريين بهذه الطريقة
القرقوشية ؟لماذا لم يكونا قادرين على إقامة تحالف بين هذه الأقطار الثلاثة ، ويرسي أسس متينة للوحدة من خلال هذا التحالف .ما هو دور القوى الخارجية
في تأجيج هذا الصراع ؟ولكن هل القوى الخارجية قادرة على هذا التأجيج لو كنا جميعاً على درجة كافية من الوعي ؟. لنعد إلى حزب البعث
- لقد فشل الحزب في العراق .صحيح أن قوى كثيرة حاربته لكن الصحيح إن القيادة والحرس القومي اقترفا حماقات كافية لضياع شعبيته التي امتلكها في البداية
فتفككت القيادة وسقط الحزب أما في سوريا فقد صمد الحزب وبقي في السلطة والصحيح أن من صمد هم الضباط البعثيون في الجيش .
فالحزب قبل آذار كان يعاني تمزقاً شديداً كما ذكرنا والجناح الذي قال له العسكريين تفضل واستلم السلطة هو جناح القيادة القومية الذي لم يكن يصل تعداده إلى
الألف وعندما اتجه لضم ما كان يسمى( القطريون) وزاد عددهم لكن هذا الضم ترك أثره على الأحداث فيما بعد .
- 3 - المرحلة الثالثة من (1964- 1970) .
- كان الحزب يطالب بوحدة يسود فيها النظام الديمقراطي وقد كان محقاً في ذلك . ولكن أي نظام ديمقراطي أقام عندما انفرد بالسلطة ؟
- لقد تبنى مفهوم الشرعية الثورية كتبرير لانفراده بالسلطة وقد دعم هذا التوجه بإجراء تأميمات واسعة ثم سيطرة الدولة على التجارة في المواد الأساسية وبذلك
قضى على طبقتي ملاك الأراضي وأصحاب الرساميل الصناعية والتجارية إلى حد ما وكذلك أنجز مجانية التعليم وقضى على المدارس الخاصة . كما وسع مجانية الطبابة ثم توج ذلك نظريا بإقرار المنطلقات النظرية التي تقر بالصراع الطبقي وإعطاء الأولوية للاشتراكية كما أخذ بمبدأ الديمقراطية الشعبية فأنشأ اتحاد الفلاحين وكذلك الحرفيين ووحد نقابات العمال بإتحاد عام وحتى يحافظ على سيطرته على هذه المنظمات لجأ إلى انتخابات شكلية فرض عليها قيادات من البعثيين وأنصارهم . لقد غلب مفهوم الاشتراكية في هذه المرحلة وأعطاها الأولوية على بقية الأهداف ولم تخلو أدبيات الحزب من تنظيرات تفيد أن الاشتراكية
هي المدخل الصحيح للوحدة والحرية التي لا تنجزها إلا الجماهير الكادحة وباسم حماية مكتسبات هذه الجماهير بقي قانون الطوارئ وصدرت مراسيم أطلقت يد الأجهزة الأمنية باسم حماية الثورة وكذلك هددت الموظف بالفصل إن لم يكن موالياً للثورة . وتبنى فكرة الحزب الثوري القائد .
أما الموقف من المؤسسة العسكرية والتي كان يشكو الحزب من محاولات السيطرة عليه من قبلها ،فما الخطوات التي اتخذها للتخلص من هذه السيطرة ؟ صحيح أن قيادة 23 شباط ظنت في حركتها أنها قطعت الطريق على احتمال نشوء دكتاتورية عسكرية صريحة وكان مرشحاً لها أمين الحافظ أو محمد عمران من خلال استراتيجية تستند على:
1- سيطرة الحزب على الجيش من خلال عدم الجمع بين العضوية في القيادة والبقاء في الجيش استثناء وزارة الدفاع ورئاسة الأركان لأنها مناصب سياسية .
2- إقامة جبهة تقدمية في القطر وأخرى قومية على صعيد الوطن العربي من خلال تحالف ومشاركة بالسلطة .
3- حرب التحرير الشعبية التي بالإضافة إلى هدفها الأساسي في مواجهة إسرائيل تحقق هدفاً آخر مهماً وهو إحداث قوى شعبية مدربة توازي نفوذ الجيش .