استراتيجية حماية لبنان:
أي أفق زمني؟

سليم الحص

السفير
 

 

 

 

 

الموضوع المتبقي على جدول أعمال مؤتمر الحوار الوطني هو استراتيجية الدفاع عن لبنان. وقد افتتح المناقشة في هذا الموضوع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بمطالعة قيل انها استغرقت ساعة كاملة وانها استحوذت على إعجاب حتى معارضي الفكرة والمطالبين بتخلي المقاومة عن سلاحها نهائياً بدعوى ضرورة حصر السلاح في يد السلطة الشرعية، مع العزف على وتر أن الدولة المركزية لن تقوم لها قائمة ما دام لها شريك في حيازة السلاح من قوى تُسمي نفسها <مقاومة> ويُسميها القرار الدولي 1559 <ميليشيات>.
طال السجال حول سلاح المقاومة وتشعّب، ولكن المنطق الغالب بين أكثر اللبنانيين أن لبنان يبقى في حاجة الى وجود المقاومة المسلحة ما دامت أرض من لبنان ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي (مزارع شبعا)، وما دام لبنان يتعرّض لاعتداءات شبه يومية على أجوائه ومياهه الاقليمية، وما دام يتعرض لقصف برّي بين الفينة والأخرى، وكذلك ما دام هناك أسرى لبنانيون في المعتقلات الصهيونية.
هناك من يدعو الى دمج قوات المقاومة بالجيش اللبناني. ولكن هذه الدعوة تتداعى أمام مقولة: لو دمجت قوات المقاومة بالجيش اللبناني قبل عام ,2000 عام التحرير، لما كان التحرير ولبقي الجنوب اللبناني تحت الاحتلال حتى اليوم. فمن المسلّمات ان إسرائيل هي أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، تغلّب جيشها على الجيوش العربية النظامية مجتمعة ومتفرّقة في كل الحروب التي اندلعت منذ عام 1948 في المنطقة. فلن يكون في مستطاع الجيش اللبناني النظامي منفرداً التصدّي للعدوان الإسرائيلي. والجيش الإسرائيلي، على تفوّقه عدة وعديداً، معزز بدعم غير محدود من جانب الدولة العظمى، أميركا، مادياً وتكنولوجياً وسياسياً ودبلوماسياً. فما كان تحرير الأرض اللبنانية ممكناً لو
كانت المقاومة قد انصهرت داخل الجيش اللبناني.
وبين المنادين بنزع سلاح المقاومة من يتذرّع بضرورة ان يتبنّى لبنان السياسة التي تسلكها سوريا، أي استبعاد خيار المقاومة كلياً والرهان على تحرير الأراضي المحتلة عبر القنوات الدبلوماسية. ويُعبّر عن هذه النظرية بمزيد من الإثارة أحياناً كثيرة عبر التساؤل: لماذا تكون الجبهة اللبنانية مشتعلة ولا تكون كذلك الجبهة السورية في الجولان؟ هل قدر لبنان ان يبقى وحده، دون سواه من الأقطار العربية، معرّضاً لردات الفعل الإسرائيلية المدمّرة؟
هذه النظرية، وهي بلا ريب غير بريئة، تبقى عرضة للتداعي أمام حجة دامغة هي: ان سوريا كانت ولا تزال هي القدوة في الصمود، بدليل انها، على الرغم من كل الضغوط التي تعرضت وتتعرض لها، لم توقع على صلح مع الدولة العبرية بعد نحو ستة عقود من أول حرب عربية إسرائيلية. انها القدوة في الصمود ولكنها ليست القدوة في التصدّي. أما القدوة في التصدّي فهي لبنان وهي فلسطين. لبنان قاوم الاحتلال وهزم الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر. فكان التحرير إنجازاً تاريخياً مشهوداً، إذ كانت المرة الأولى التي تتحرّر فيها أرض عربية محتلة من دون قيد أو شرط: فلبنان لم يفاوض العدو المحتل ولم يعترف بالكيان الإسرائيلي ولم يوقع على صك بالصلح مع العدو الصهيوني.
وفي فلسطين أنموذج خارق آخر: الشعب الفلسطيني شعب صغير وضعيف مادياً. وهو شبه أعزل (بالقياس الى ما في ترسانة الجيش الإسرائيلي من أسلحة تقليدية متطورة للغاية ومعها شتى أشكال أسلحة الدمار الشامل). وتقف أعظم قوة في العام من ورائها، تدعمها بكل الإمكانات المتاحة. مع ذلك لم يستسلم الشعب الفلسطيني، وما زال يقاوم. والمعروف ان فصائل المقاومة الفلسطينية ما زالت ناشطة في عقر دار الكيان الإسرائيلي، فكانت عمليات فدائية داخل تل أبيب.
الرد على النظرية الرائجة هو في التذكير بأن لبنان، لو اقتدى بسوريا فالتزم السكون في الجنوب أسوة بالسكون الذي يرين على جبهة الجولان، لكان مصير الجنوب اللبناني اليوم كمصير الجولان، أي إنه لما كان تحرر، ولبقي يرزح تحت نير الاحتلال حتى اليوم. لبنان نجح نجاحاً باهراً في سياسة التصدّي، أي في نهج المقاومة. فعلامَ يُطالب اليوم بالتخلّي عن مقاومته في وقت ما زال يتعرّض فيه للعدوان على أشكاله؟
جاءني يوماً فريق من المعترضين على سلاح المقاومة يحتجّون قائلين: لماذا يكون السلاح في يد حزب الله ولا يكون في يد <القوات اللبنانية> أو حزب <الكتائب اللبنانية> أو الأحزاب الأرمنية. وعندما ذكّرتهم بأن سلاح حزب الله إنما هو موجّه ضد العدو الصهيوني، جاءني الجواب للتو: ولكن هذا السلاح في يدهم. اليوم يوجّهونه ضد إسرائيل، ولا ندري متى يوجّهونه ضدّنا. سلّمت عند ذاك بأن هناك هاجساً لا بد من معالجته.
فكّرت بداية بالمعالجة انطلاقاً من المنطق الذي يفيد ان سلاح حزب الله ما كان يشكل مشكلة لو لم تكن المقاومة <إسلامية>. وهناك فئات من الشعب اللبناني غير إسلامية تنتابها هواجس. فلماذا لا تكون محاولة لتحييد فئوية المقاومة؟ واقترحت لهذا الغرض ثلاثة إجراءات: استحداث هيئة رعائية استشارية عليا للمقاومة ذات طابع لا طائفي: بحيث تشمل رؤساء الجمهورية السابقين ورؤساء مجلس النواب السابقين ورؤساء الحكومة السابقين ونواب رؤساء مجلس النواب والحكومة السابقين. وإنشاء لجنة مختلطة تعمل على تطعيم المقاومة بكادرات وعناصر من سائر الطوائف. وأخيراً لا آخراً اقامة حلقة ارتباط عليا بين قيادة الجيش اللبناني وقيادة المقاومة. هكذا تنزع المقاومة عن نفسها الرداء الفئوي فيتلاشى سبب أساسي من أسباب الاعتراض على سلاح المقاومة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية خطر لي ان المخرج قد يكون أيضاً في طرح سؤال مركزي، في سياق السجال الدائر، عن الأفق الزمني لاستمرار المقاومة، وبالتالي لاستمرار وجود السلاح في يدها. الجواب بكل بساطة ان الحاجة تنتفي بطبيعة الحال عند توقيع لبنان على تسوية مع العدو الإسرائيلي تُنهي حال الحرب المسلحة. والرأي السائد في لبنان ان لبنان سيكون آخر، لا أول، من يوقّع على تسوية مع إسرائيل من العرب. وقد تبنّى غبطة البطريرك الماروني هذا الموقف صراحة. هذه المقولة تعني عملياً ان لبنان سيوقّع على تسوية مع إسرائيل بعد فلسطين وسوريا لا قبلهما.
يبدو من معطيات المنطقة ان التسويات قادمة لا محالة ان عاجلاً أو آجلاً. فبعد كامب دايفيد مع مصر وبعد وادي عربة مع الأردن، بقيت فلسطين وسوريا ولبنان من قوى المواجهة. ورئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس لا يدع مناسبة إلا ويؤكّد فيها رغبته في استئاف محادثات <السلام> مع إسرائيل. كذلك الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، فقد صرّح غير مرّة ان بلاده على استعداد لاستئناف محادثات <السلام> مع إسرائيل من دون شروط مسبقة. فإذا ما توصّلت سوريا الى اتفاق مع إسرائيل، فإن لبنان سوف يلحق بالركب بعد أيام ان لم يكن بعد ساعات.
إذا عُقدت مثل هذه التسويات، التي تُنهي حال الحرب المسلّحة مع العدو الإسرائيلي، وإن كانت في ظننا لن تُنهي الصراع العربي الإسرائيلي، ما دام الحلم العربي في فلسطين لم يتحقق، فهل يبقى وجود للمقاومة المسلّحة في لبنان؟ هكذا تأتي مسألة سلاح المقاومة الى نهايتها المُحتمة.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد، ونحن في حمأة السجال حول سلاح حزب الله، الى متى يبقى هذا السلاح؟ والاجابة عن هذا السؤال تتوقف على السؤال: متى ستكون التسويات الموقعة؟ والجواب في ظل الأجواء السائدة في المنطقة يبقى موضع تكهّن ورجم بالغيب. ولكن الضغوط الدولية، وتداعي الموقف العربي العام، وانكشاف المنطقة العربية على مشاريع الفوضى البنّاءة والخلاقة، والتي يُراد منها التوصل الى تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، الى تهافت المسؤولين العرب على الانفتاح على العدو الإسرائيلي لا بل، كما سبقت الإشارة، حتى على مصالحة العدو الإسرائيلي، كل ذلك يمكن ان يجعل التسويات واردة في الأفق المنظور، ربما خلال سنة او سنتين او ثلاث او ربما أبعد قليلاً.
هذا سيكون الأفق الزمني، في حدّه الأقصى، لاحتفاظ حزب الله بسلاحه عملياً. فالخلاف إذن قاصر على بضع سنوات، قد لا تمتد طويلاً. تحمّلنا ضرورات التسلّح لسنوات طويلة، منذ الاجتياح الإسرائيلي الأول في عام .1978 فما بالنا اليوم نغصّ بهذا السلاح إذا كان الموجب له ما زال قائماً بتوافق المتحاورين؟