* خدام - البيانوني: تطبيع الفساد، أم تعويم الإخوان؟

 

 

نضال نعيسة


 

بدون أية حذلقات بلاغية وأدبية، ربما تكون، المكيافيللية، وحسابات الحقل السياسي، التي تسقط كل الروادع ‏وتبرر كل المحظورات، حتى الدينية منها، وتقرب وجهات النظر بين أعداء الأمس وحلفاء اليوم، ربما تكون ‏الدافع الأكبر وراء مد يد البعثي القومي للسلفي الأصولي، وإن كان هناك، عموما، تقارب فكري، وتقاطعات بين ‏التيارين اللدودين. لقاء بروكسل لقاء المقايضة، والتطبيع، الذي بدأ بمصافحة وانتهى بعناق طويل وحار، يصح ‏أن يكون عنوانه الأعرض "عفا الله عما مضى"، وكفى الله المعارضين شر الكلام، وحاز السيد خدام على شهادة ‏حسن السلوك، ولا "حكم عليه"، التي دأب البعض على توزيعها "لونيا" على عباد الله، وذلك نظرا لخدمته الطويلة ‏المتفانية، وبقائه دهرا في حضن النظام، وبذا تحولت بعض فصائل المعارضة إلى دائرة لإصدار تلك الشهادات. ‏والآن هل يحق لفصيل غير هام من "المهمشين" وساقط من حسابات الحاسبين، أن يسأل هل شفعت "لونية" خدام ‏له، وأسقط الفيتو الإخواني عنه، فيما لا يزال هذا الحظر الإخواني نفسه ساريا على رموز سورية معارضة لا ‏تختلف كثيرا، من حيث المبدأ، والممارسة، والنتيجة عن شخصية السيد خدام السلطوية، ولكنها تختلف عنه ربما ‏فقط بتلك "اللونية" التي نأنف، مؤكداً وعلمانيا، من ذكرها؟

وبعيداً عن هذا وذاك، فهل كانت مثلا، وعلى سبيل التذكير، "لونية" عارف دليلة، سببا في تجاهله كلياً، وهو ‏البروفيسور الأكاديمي الاقتصادي المرموق وصاحب اليد، والقلب، والكف النظيفة، ولم ينغمس يوما في شائنة، ‏أو يلطخ اسمه بفساد، ولم تحظ تلك "اللونية" التي صيرتها بعض أطراف المعارضة "مشبوهة وطنيا" بمجرد ‏شرف الإطلاع والتوقيع، أو حتى ولو من باب التوسل والاستئناس، على "الإعلان الشهير" الذي تغنى عتاولته ‏به، واعتبروه فتحا سياسيا، وترياق الشفاء للوطن السوري المكلوم؟ ومن إحدى مفارقات المعارضة المؤلمة، أن ‏الدكتور عارف دليلة، أحد أشهر ضحايا عملية "وأد الجزأرة" المزعومة التي أجراها بمهارة، وبكلتا يديه، مبضع ‏‏"الجراح" البعثي الشهير، ما يزال قابعاً في سجنه في زنزانة باردة وموحشة، وفي وضع صحي لا يسر أحداً من ‏دعاة الديمقراطية، ونصرة حقوق الإنسان.

وهل كان هذا اللقاء الذي بدا استعراضياً، حتى الآن هو منتهى طموح معارضة افتقرت لأدنى أدوات التأثير ‏والضغط المباشر، لأن تنضوي تحت جناح مع من كان حتى الأمس القريب شريكا مباشرا في كل الممارسات ‏السلطوية الجارية حتى الآن والتي يحفل خطابها السياسي بجرعات ثقيلة من نقدها يوميا؟ أم أن عدو عدوي هو ‏صديقي حتى ولو كان عدواً لدوداً؟ أم أن الجانبين يمتلكان من المعلومات، والأوراق، والمعطيات الخاصة ‏‏"التطمينية"، ولا سيما المتعلق منها بسير التحقيق، ومما ليس متاحا لفقراء المعارضة السورية الآخرين؟ أم هي ‏حاجة خدامية لتبييض التاريخ السياسي الطويل في أروقة النظام لتضيع عندها جميع "طاسات" النظام المتشابهة ‏في حمام المعارضة المقطوع عنها المياه؟ وهل هي عودة، ربما غير موفقة حتى الآن، وعبر النافذة الإخوانية، ‏بعد أن خرج مكرهاً، وغير مأسوف عليه، من باب النظام الواسع العريض؟

وما هي دلالات وقوة هذا التحالف الجديد وبهذا الوقت بالذات؟ وهل هي بداية لعودة المزيد من "المنشقين" ‏ورجالات النظام المزمنين إلى حضن السلطة الوثير، عبر بوابات المعارضة المفتوحة على ما يبدو على ‏مصراعيها، ولتتماهى بعدها المعارضة مع النظام العتيد، ويصير من الصعب التمييز بين الاثنين، ولا يُعرف من ‏كان معارضاً، ومن كان مواليا ذات يوم لتصبح المعارضة لاحقا خليطا فيه العجيب الغريب، يكحل فيها المواطن ‏عينيه المتعبتين بنفس الطاقم بعدما صُمّت آذانه، وعلى مدى عقود، بنفس الأسماء؟ وهل يعود النظام بحلته ‏الجديدة، بعد "التغيير المنشود"، من خلال رموزه القديمة، وكأنك يا "أبو زيد ما غزيت"؟

كلها أسئلة تبدو مشروعة، ومنطقية أثارها الاجتماع بين السيدين خدام و البيانوني في بروكسيل على مدي ‏يومين. وأهمية الحدث تتجلى برمزية القطبين، وموقعهما على الخارطة السورية، ولوقت طويل. وحاجة كل ‏منهما للآخر في البحث المضني، والعبثي، حتى الآن، عن عملية التغيير التي أصبحت لغزا على الجميع. ولقد ‏بدا اللقاء تراجعا إخوانيا واضحا عن أدبيات شكلت خطا سياسيا طويلا له على مدى زمن طويل، فيما كان أول ‏خطوة سياسية عملية للسيد خدام بعد انشقاقه المثير. حيث كان خطاب الإخوان المعروف حتى الآن يتناول ‏جوانب الفساد والاستبداد، وممارسات القمع التي كان السيد خدام ومن خلال موقعه السلطوي، شريكا بها بشكل ‏أو بآخر.

ربما يكون السيد خدام قد فقد كثيرا من رصيده السياسي، وحتى الشخصي، عبر مشواره الطويل كتفاً بكتف مع ‏رفاق الأمس المناضلين، ولكن ما الذي يجعل الجماعة وشيوخها مستعدين لهكذا مقامرة بما توفر لديهم من زخم ‏سياسي، ورصيد تعبوي، بعد المتحولات الإقليمية التي تجلت بفوز حماس، وإخوان مصر بالانتخابات؟ إنها ‏مغامرة سياسية يبدو أن لا احتمالات للربح فيها على الإطلاق، ولا سيما على الصعيد الداخلي، والخارجي. ولا ‏شك أن تلك المناوشات والقصف الإعلامي مع إخوان الأردن تندرج في باب بداية الخسارات، وفصم العرى مع ‏بعض التحالفات حتى العقائدية منها.

جملة هامة ذات مدلول كبير وردت في إعلان دمشق الذي صاغته، ولعبت، دورا كبيرا فيه جماعة الإخوان ‏المسلمين من وراء الكواليس عبارة، وهي "من يرغب من أهل النظام". فهل كان خدام هو هذا الـ "أهل النظام"، ‏وكانت اللقاءات، والترتيبات تجري منذ ذلك الحين، تمهيدا للوقت المناسب لـ"تخريج" العملية من قبل الإخوان، ‏واعتبارها متوافقة بما جاء في إعلان دمشق، أم أن كل ذلك مجرد صدفة، ومحض تخمين؟ وهل هناك مزيد من ‏القادمين الجدد إلى صفوف المعارضة من "أهل النظام"؟ غير أن المواقف الأخيرة المتضاربة التي صدرت عن ‏أقطاب الإعلان توحي بالتخبط، وبعدم وجود مثل هذا التنسيق. وقد يكون، وكما توقعنا سابقا، بداية لتقويض ‏ودفن ذاك الإعلان المثير للغط، والجدل.

إن من أهم مميزات أية قوى وطنية حقيقية هو تمثيلها لكل المكونات الموجودة على الساحة ومهما كان شأنها، ‏وبالتالي إحداث ذاك التوافق والالتفاف العام حولها. ومن هنا، ومن خلال التشعب، وعملية التفتيت الآخذة في ‏الازدياد على الساحة، والتي ساهم هذا اللقاء في بعض منها، فلا يزال الطريق طويلا أمام تبلور معارضة وطنية ‏حقيقية شاملة بعيدة عن "عولبة"، وتلوين مكونات الشعب السوري، وتصنيفها طبقا لتصورات مسبقة.

يا لجملة المفارقات الكثيرة التي تثير الألم، والشجون والمرارات، ومنها يمكن القول، إن أسعد الفرقاء، طراً، ‏بهذه اللقاءات، وبوجود معارضة ضعيفة، مفككة، وتتهادى متعثرة في مطبات استراتيجية فاقعة، هو النظام ‏السوري نفسه، "الدريئة" المشتركة لجميع أطياف المعارضة. وما تمنّع النظام المستمر عن محاورتها، حتى الآن، ‏إلا دليل، على عدم فاعليتها، أو امتلاكها لأدوات الضغط اللازمة التي تحدث التحول النوعي المطلوب في موقف ‏النظام، وإن نشاطات وتحالفات من هذا القبيل، قد تعطي مفعولا عكسيا، وقد تعزز من قوة النظام بدل أن تساعد ‏في إضعافه.

ومع ذلك كله، إنه لمن السابق لأوانه التكهن بأهمية وجدوى هذا الاجتماع التي يحددها فقط مدى ما يملكه من ‏أدوات تأثير، وضغط، وتغيير على الواقع الراكد "الستاتيك"، وإن المعطيات الداخلية المتوفرة وبغض النظر دائما ‏عن "لواحقها" الدولية المرتبطة بعمل لجنة التحقيق، لا توحي بقرب تحقيق أي انعطاف جوهري، ومهما كان ‏بسيطا. واستتباعاً، لذلك كله، يمكن القول، أن الشوط الأول في ماراتون التغيير، ما يزال بحاجة لأكثر من ‏حملات للتعارف والعلاقات العامة، أو تخطي الحواجز العالية ببهلوانية سياسية، أو مجرد القفز فوق حقائق، ‏ساطعة ودامغة تلوح لأي ناظر من الأفق البعيد.