باتريك سيل*
تشن إسرائيل حرب إبادة على لبنان من دون اهتمام بالسكان المدنيين، بغية القضاء على «حزب الله»، تماماً كما تحاول منذ ستة شهور القضاء على «حماس» في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أنها تريد اقتلاع الحركتين من جذورهما. ويبدو أن استراتيجيتها تقوم على إخلاء الجنوب اللبناني من سكانه وطرد الشيعة من موطنهم التقليدي الذي يعيشون فيه منذ قرون، تماماً كما تتابع هجومها الهمجي على غزة. وقد أدى العدوان في لبنان حتى الآن إلى تهجير 600 ألف من أهل الجنوب وإلى ترويع البلاد بأسرها وخنقها.
لماذا هذه الوحشية الإسرائيلية؟ شكل خطف ثلاثة جنود إسرائيليين بغارات قام بها «حزب الله» و «حماس» إهانة للجيش الإسرائيلي واعترافاً بقدرته الردعية، الأمر الذي لا يمكن في نظر الإسرائيليين إلا أن يعاقب. ولذا فالجيش مصمم على إفهام العرب في ديارهم أي ثمن باهظ يدفعونه إذا ما تجرأوا على مهاجمة إسرائيل.
وللجيش الإسرائيلي حساب قديم مع «حزب الله» الذي أدت عملياته المرهقة إلى طرده من لبنان في عام 2000 وإنهاء احتلال الجنوب الذي دام 22 عاماً. وبهذا النجاح برهن «حزب الله» للعالم العربي بأسره - وللفلسطينيين بوجه خاص - أن إسرائيل ليست معصومة من الهزيمة. وهذا ما يدفع إسرائيل اليوم إلى تصفية حسابها مع «حزب الله».
ولا شك أن بعض الصقور الإسرائيليين، من أمثال رئيس الأركان دان حلوتس، نادمون على مغادرة لبنان عام 1982 قبل «إكمال المهمة»، إذ انهم بعد قتل 1700 لبناني وفلسطيني أخفقوا في إخضاع البلاد وإدخالها في الفلك الإسرائيلي.
ولعل الأمر كذلك هذه المرة إذ قد تدرك إسرائيل بأن هدفها القضاء على «حزب الله» و «حماس» بعيد المنال. فهاتان الحركتان شعبيتان وتتمتعان بتأييد جماهيري كبير، وحتى إذا هزمتا على المدى القريب فلا بد أن تبعثا وتنشدا الثأر من جديد. لذلك تعتقد إسرائيل أنها إذا شاءت الانتصار الفعلي فلا بد أن تقتل مئات الآلاف من الناس لا المئات فحسب.
لطالما كرر زعيم «حزب الله» الشيخ حسن نصر الله، عدو إسرائيل الأول، إنذاره لإسرائيل بأن تتوقع «المفاجآت». وجاء ضرب الصاروخ على حيفا، المدينة الثالثة في إسرائيل، وعطب إحدى أحدث البوارج الإسرائيلية مثالاً أليماً لهذه المفاجآت، إذ نقل الحرب إلى الأراضي الإسرائيلية متحدياً الاستراتيجية الإسرائيلية التي قامت دائماً على خوض الحروب على الأراضي العربية.
ولعل المفاجأة الأكبر التي يعدها «حزب الله» هي أن يجتاز الأزمة الحالية الدامية من دون أن يرضخ. وكلما صمد «حزب الله» تنامت مشاكل إسرائيل مع المجتمع الدولي وازداد ضغط الرأي العام العربي على الأنظمة التي تقف بخجل موقف المتفرج.
ولطالما اعتمدت إسرائيل على الاستخدام الوحشي للقوة كي تضمن أمنها. فهي منذ إنشائها عام 1948 تسعى إلى الهيمنة على المنطقة بالوسائل العسكرية. وتقوم هذه السياسة على الاعتقاد بأن العرب لن يملكوا يوماً القوة أو القدرة الكافيتين على تحديها. وهذا في أساسه موقف عنصري واضح.
غير أن وراء هذا التهور الإسرائيلي وعرض العضلات تكمن عقدة اضطهاد عميقة وعقدة الأمن، وكلتاهما تصدران عن اقتناع يسود الكثيرين في إسرائيل بأن العرب يريدون قتلهم وبأنهم يواجهون تهديداً دائماً لوجودهم، ولذا يتصورون أن لا خيار أمامهم سوى أن يَقتلوا أو يُقتلوا. وهذه النظرة المظلمة لمحيطهم وبيئتهم هي التي تفسر طبيعة هجمات إسرائيل المبالغ في وحشيتها وعدم تناسبها وعدم اكتراثها بالشرعية الدولية أو أي مبادئ أخلاقية.
وإذا كانت إسرائيل تستطيع أن تتصرف بهذه الصورة فلأنها حصلت على حصانة استثنائية من جانب أميركا. فما يثير الدهشة في هذه الأزمة هو في الواقع التأييد الأميركي السياسي والديبلوماسي والاستراتيجي لإسرائيل، إلى حد منحها ما قيمته 300 مليون دولار من الوقود اللازم لطيرانها كي يستمر في تدمير لبنان.
وهذا الانحياز الأميركي الفاضح هو الذي شل مجلس الأمن وقمة الثمانية والاتحاد الأوروبي، إذ كان الضغط الأميركي على هذه الهيئات الثلاث من الشدة بحيث لم تستطع أي واحدة منها أن تلح على ضرورة الوقف الفوري للهجمات الإسرائيلية الشرسة.
فبريطانيا رددت كما هو معهود ما تقوله واشنطن «يحق لإسرائيل أن تدافع عن نفسها»، في حين أن فرنسا نفسها، الحامي التقليدي للبنان، اتجهت نحو إدانة «حزب الله» بدلاً من إسرائيل على التدمير الشامل وإزهاق الأرواح.
وإذا كان الإرهاب يعرّف بأنه القتل العشوائي للمدنيين من أجل تحقيق أهداف سياسية، أفليس هذا بالضبط ما تفعله إسرائيل في لبنان وفلسطين؟ فهي تقتل العديد من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين من أجل تحقيق هدفها بالقضاء على «حزب الله» و «حماس»، فهي بكل المعايير الموضوعية إنما تدان بتهمة إرهاب الدولة.
لكن قتل العرب بهذه الصورة الجنونية وتدمير بلادهم لا بد أن يؤديا إلى عواقب سلبية على أمن إسرائيل ذاتها. فتصرفاتها الإرهابية تجعل إرهاب أعدائها مشروعاً ومبرراً. كذلك الأمر بالنسبة إلى أميركا التي سيؤدي تأييدها المطلق لإسرائيل إلى تبرير الإرهاب ضدها. ذلك ما كان عليه الأمر في 11 سبتمبر، وعلى رغم ذلك لم تطرح أميركا السؤال عن سبب تعرضها للهجمات. أن أميركا وإسرائيل تزرعان الرياح وسوف تحصدان العاصفة.
وهذا التأييد الأميركي غير المشروط لإسرائيل يدل إلى أن ما يدور الآن ليس مجرد حرب ضد «حزب الله» ولبنان لأن سعي إسرائيل إلى إخضاع لبنان إنما يقصد منه توجيه ضربة لمحور إيران - سورية - حزب الله الذي يتحدى الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية على المنطقة. والسؤال الأساسي هو أي إرادة ستسود في هذه المنطقة الحساسة من العالم. فلو كان النزاع محلياً فقط لكان يمكن لإسرائيل أن توافق على تبادل الأسرى كما يطالب بذلك «حزب الله» و «حماس»، وكما حصل ذلك مراراً في الماضي. فهناك 10 آلاف سجين فلسطيني وإطلاق سراحهم هو هدف فلسطيني أساسي.
غير أن للحرب أبعاداً أوسع، لذلك رأينا أميركا تطلق يد إسرائيل لأنها تواجه احتمال حصول أمرين يبعثان على القلق: إيران مسلحة نووياً وهزيمة مهينة في العراق. لذلك فهي بحاجة إلى استرداد زمام المبادرة في الشرق الأوسط، وقد أقنعت نفسها أو أقنعها أصدقاء إسرائيل داخل الإدارة وخارجها بأن إسرائيل تستطيع مساعدتها. ولقد شاهدنا المحافظين الجدد يبشرون بأن انتصار إسرائيل في لبنان هو انتصار لأميركا، وهزيمتها هزيمة لأميركا.
تلك هي الخلفية الجوهرية لحرب إسرائيل التي جرى التخطيط لها منذ أمد بعيد بمشاركة أميركا، وبتشجيع من بعض المتطرفين المسيحيين في لبنان الذين لا يزعجهم أن يروا إسرائيل «تقوم بالمهمة القذرة»، أي تحطيم «حزب الله».
وما يعقد الموقف وجه آخر من أوجه النزاع، وهو أن الدول العربية في الخليج قلقة من اختلال ميزان القوى الإقليمي. فهي تخشى هيمنة إيران واشتداد بأس الشيعة. لكن الأثر التفجيري الذي تحدثه الحرب في لبنان واستشهاد الفلسطينيين على الرأي العام العربي لا يمكن إهماله، خصوصاً مع التغطية الإعلامية المصورة للجرائم الإسرائيلية.
ويخشى أن تؤدي اللامبالاة الإسرائيلية لإزهاق الأرواح العربية إلى إقناع الشباب العربي بأن التعايش مع إسرائيل على المدى البعيد يصعب أن يتحقق. فالمثقفون العرب يعبرون بإلحاح عن وجهة النظر القائلة أن إسرائيل دولة استعمارية لا بد لها أن تزول كما زالت الإمبراطوريات الكولونيالية الأوروبية من قبل.
لقد سبق للدول العربية أن أعلنت في قمة بيروت عام 2002 عن استعدادها لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل في حدودها عام 1967. لكن إسرائيل التي تنوي توسيع حدودها رفضت هذا العرض. ولا بد أن يحين الوقت لإسرائيل كي تعيد النظر في موقفها هذا، فالعرض ما زال على الطاولة.
ولن تعيش إسرائيل بسلام إلا إذا انسحبت من الأراضي الفلسطينية واحترمت السيادة اللبنانية وأعادت الجولان إلى سورية.
كتب السياسي البريطاني ( ) مقالته التالية في جريدة الحياة وقد وجدت حركة القوميين العرب ضرورة إعادة نشرها