دعوة للإنقاذ

 

براهيم عجوة


تمر الأمة العربية بمرحلة عصيبة، أشد خطورة من نظيرتها مطلع القرن العشرين، تعيد المسألة الشرقية إلي الحياة، وتجعل الوطن العربي رجل العالم المريض، بديلاً عن الدولة العثمانية، تنذر بسايكس بيكو جديدة، رسمت معالمها استراتيجية إسرائيل في الثمانينات ، حيث تفترض أن يصبح الوطن العربي 40 كياناً سياسياً تدور حول جرم الكيان الصهيوني، تطبيقاً للبند الثالث من برنامج بلتيمور الصهيوني المقر عام 1942: قيادة يهودية للشرق الأوسط كله في مجال التطور الاقتصادي . وقد تجسدت هذه الاستراتيجية لاحقاً بعد احتلال العراق بالمشروع الاستعماري الجديد الشرق الأوسط الكبير ، والذي يشكل نجاحه نهاية العروبة بحسب تعبير أحد أقطاب المحافظين الجدد.

الأهداف الأمريكية العامة وتجلياتها في منطقتنا

مع انهيار نظام الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت الولايات المتحدة تتحرك باعتبارها المنتصر الوحيد في الحرب الباردة وتسعي لقطف الثمار منطلقة من أوهام نهاية التاريخ، وأسطورة صراع الحضارات.
استكمالاً لأوهامها وتحقيقاً لمشروعها سعت الولايات المتحدة للعمل علي عدة مستويات:
أولاً: علي المستوي الجيوستراتيجي: أعادت رسم خرائط مجالها الجيوستراتيجي و ما يتطلبه ذلك من تفكيك جيوبوليتيكي معتقدة بإمكانية حل المأزق التاريخي للإمبريالية وإطالة عمرها من خلال ذلك. وقد رأت الولايات المتحدة الأمريكية في الهيمنة علي مصادر الطاقة ضالتها المنشودة لتأبيد قيادتها للمعسكر الرأسمالي ولإعادة إنتاجه. فسعت إلي الإمساك بالخارطة الجيوستراتيجية الممتدة من بحر قزوين حتي المغرب العربي وهي خارطة النفط والأسواق وطرق النقل. فبدأت في احتلال افغانستان كمدخل، مستغلة أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) كذريعة، ثم العراق كخاصرة رخوة للضغط علي المحيط بما يسمح بإعادة إنتاج المركز الصهيوني كمركز مهيمن وتفكيك محيطه.
ثانياً: علي المستوي الاقتصادي: حاولت الولايات المتحدة تحويل اسواق العالم إلي أسواق مفتوحة لصادراتها عبر اتفاقية التجارة الحرة، وعملت علي فرض أشكال من إعادة الهيكلة الاقتصادية لأغلب دول العالم النامي من خلال هيمنتها علي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبما يخدم استراتيجياتها ويؤبد تبعية هذه الدول.
ثالثاً: علي المستوي السياسي: شرعت الولايات المتحدة في بناء الأحلاف تحت شعار من ليس معنا فهو ضدنا، وذلك لخلق غطاء دولي لسياساتها العدوانية علي الدول التي تمانع أو تقاوم هيمنتها. كما عملت علي تهميش حلفائها الرأسماليين في مؤسسات الأمم المتحدة وحيث فشلت في ذلك سعت لتهميش دور هذه المؤسسات.

الأهداف الأمريكية في المنطقة:

تمظهرت السياسة الأمريكية علي صعيد المنطقة في رسم وفرض أجندة مؤتمر السلام الذي عقد في مدريد، بعيد هزيمة العراق في ما سمي معركة تحرير الكويت، وفرض اتفاقات استجاب لها النظام الرسمي العربي والفلسطيني، كثمار لانحراف أولوياته وفقدانه نتيجة ذلك للمناعة والقدرة علي المقاومة. نتج عن استخذاء النظام الرسمي العربي والفلسطيني اتفاقية أوسلو مع قيادة منظمة التحرير، واتفاقية وادي عربة مع الحكومة الأردنية، وهرولة تطبيعية مع الكيان الصهيوني من قبل العديد من الأنظمة العربية، توجتها هذه الأنظمة في مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت وما نتج عنه من قرارات تصب في ذات الاتجاه الاستسلامي وتهدر حق العودة الفلسطيني جهاراً نهاراً.
تسعي الولايات المتحدة لتجاوز ارتباكها من خلال استشراسها في معركة الهيمنة علي المنطقة من خلال:
1- تشديد الضغط علي سورية وإيران وحزب الله وقوي المقاومة الفلسطينية. تحاول الضغط علي سورية من خلال تجنيد قوي دولية وإقليمية ومحلية لتغيير ميزان القوي في لبنان لصالح القوي المتصهينة، واستعمالها كمعبر للعبث في الوضع الداخلي السوري، بما يؤهلها للانقضاض علي ما تعتبره أهم العقبات أمام مشروعها المتمثل في التحالف السوري وقوي المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وبما يسمح لها ببناء تحالف ممتد من عمان حتي كردستان وبعمق يمتد إلي المغرب العربي لمواجهة ما يسمي بالخطر النووي الإيراني، حيث يستحيل تشكيل الخارطة الجيوستراتيجية الممتدة من بحر قزوين حتي المغرب وحجر العثرة الإيراني في منتصف الطريق.
2- إجهاض انتفاضة الشعب الفلسطيني عبر جر قوي المقاومة إلي العملية السياسية، وحرف أولوياتها من المقاومة إلي بناء الدولة الوهم، ثم حشرها ثانية بخطة الانطواء الشارونية، بما يقود إلي فشل ذاتي يتحمل الشعب الفلسطيني نتيجته، كشعب عاجز عن إدارة نفسه، مما قد يدفع إلي شكل من أشكال الوصاية الدولية أو العربية للمجاميع الفلسطينية المتبقية في الضفة والقطاع.
3- خلق حالة من الاحتراب الداخلي في العراق، تؤول إلي تحويل العراق إلي كانتونات طائفية وعرقية يضعها في خانة الخيانة الموضوعية، ويضعها في حالة تبعية مطلقة ويجعلها منفذاً أميناً للاستراتيجية الأمريكية ويحولها لأدوات يمكن توظيفها لاحقاً باتجاه المحيط.
4- تفكيك مؤسسات الدولة حتي علي صعيد النظم السياسية الموالية بما يفقدها حتي الحد الأدني من الممانعة، وبما قد يجعلها لاحقاً هياكل قابلة للتفكيك عند الطلب. وذلك من خلال العبث بالبنية الداخلية عبر المنظمات غير الحكومية وتسعير كل المكونات الإثنية والطائفية والمذهبية تحت شعار حقوق الأقليات والديمقراطية وغيرها.

أمريكا ليست قدراً وتشهد مرحلة الانحسار:

تصدت العديد من قوي المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية لهذا المشروع. فكان الخرق الأول لهذا الاجماع الاستراتيجي علي المشروع الأمريكي يتمثل في إجبار الكيان الصهيوني علي الانسحاب من جنوب لبنان تحت ضربات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله. تلته الانتفاضة الفلسطينية العظيمة التي كشفت النوايا الصهيونية والأمريكية، وأسقطت وهم التسوية ووضعت العصا في دواليب هذه العملية الخطيرة.
رغم ميزان القوي المختل لصالح الولايات المتحدة، وتوظيفها لكل ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي، ورغم الارتباك الدولي ما بعد أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) وكل مظاهر التهديد والوعيد بعد احتلال العراق، فإن المقاومة العراقية الباسلة، وقدرتها علي شي أمريكا وشلها بلهيب المقاومة قد أعطي العديد من القوي الإقليمية والدولية الفرصة لالتقاط الأنفاس، وأعطاها متسعاً من الأمل والوقت لإعادة النظر في استراتيجياتها، وفرصة للانفلات من ربقة الهيمنة الأمريكية. فها نحن نشاهد اليوم في أمريكا اللاتينية الفوز المتتالي لأنظمة حكم تحظي بدعم شعبي واسع وذات توجهات اشتراكية و تجاهر بعدائها للولايات المتحدة الأمريكية، وتعلن علي الملأ أن عصر الهيمنة الأمريكية قد انتهي. كذلك نشاهد بواكير تشكل جبهة عالمية لمناهضة العولمة، ونشاهد افتراقا في المصالح يتسع تدريجياً بين أمريكا والعديد من الأقطاب العالمية.

الأولويات المقلوبة، كأفضل وسيلة لهدر الطاقة، شكلت معضلة مشروع النهضة العربي:

معلوم أن طاقات جماهير أمتنا العربية لم تزج كلها بشكل صحيح في الصراع مع العدو الإمبريالي الصهيوني، لأن العديد من الأنظمة والقوي العربية تخشي جماهيرها أكثر مما تخشي العدو الصهيوني وتحول دون تنظيمها وتسليحها وزجها في معركة الصراع، بل الكثير منها تم زجه بعيداً عن المعركة الحقيقية نحو معارك وهمية، والبعض أنتج معركته الوهمية الخاصة به، والبعض انحرف عن الصراع بوعي وإدراك وتبعية.
لقد تعرض السطح السياسي العربي والفلسطيني وعلي مستوياته الشعبية والرسمية لعدد من الانحرافات الخطيرة، أدت إلي تبديد نضالات الشعوب ووضعت الأمة علي مفترق طرق خطير. تمثلت هذه الانحرافات في التالي:
علي المستوي الرسمي العربي: تم قلب أولويات أغلب وأهم المراكز العربية، ففي مصر تم قلب الدور المصري من رافعة للنضال القومي العربي، إلي وسيط في الصراع العربي الصهيوني، من خلال محاولة نظام السادات استثمار نتائج حرب تشرين الاول (أكتوبر) باعتبارها فرصة للمساومة السياسية. وهذا ما تم تسويقه من قبل ذلك النظام عبر مقولة أن 99 بالمئة من أوراق الحل بيد أمريكا. كذلك تم قلب أولويات النظام العراقي في إعطاء الأولوية للصراع مع ما سمي بالخطر الإيراني الناجم عن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسعيها لتصدير الثورة. علي صعيد السعودية تم استبدال أولوية معركة الأمة في مواجهة الخطر الصهيوني، وبشراكة لا يستهان بها مع أغلب الإسلام السياسي، بأولوية محاربة الكفر السوفييتي وتحرير إفغانسان وإقامة النظام الإسلامي فيها. معركة لصالح القوي المعادية بامتياز، وهدر لإمكانات هائلة في هذه المعركة.
علي مستوي القوي الشعبية العربية: تجلي هذا الانحراف أو قلب الأولويات في استبدال معركة استكمال تحرر الأمة وصولاً لبناء دولتها الواحدة، بغرق هذه القوي بعد الاستقلالات الشكلية في اللعبة الداخلية للدولة القطرية والنضالات الديمقراطية دون ربط نضالها اليومي بمشروع الوحدة والاشتباك مع العدو الصهيوني كأساس للخروج الجدي من مأزق انسداد أفق التطور للكيانات القطرية، وبعضها ذهب به الشطط إلي إمكانية إقامة اشتراكية في هذه البلدان، أو نظام إسلامي في أخري صبت نتائجه في خدمة البرنامج المعادي، كما حصل في سورية ومصر وافغانستان. والبعض ذهب به الشطط النظري إلي اعتبار أن كل شعب عربي هو أمة قائمة بذاتها.
علي المستوي الفلسطيني: تجلي الانحراف في برنامج النقاط العشر الذي جاء ليكمل انحراف المستوي الرسمي العربي بعيد حرب تشرين الاول (أكتوبر)، ويطرح إمكانية التسوية السياسية مع العدو الصهيوني وحل الصراع سلمياً وإقامة دولة فلسطينية علي جزء من فلسطين وهذا ما حرف الأولوية من حركة تحرر ومقاومة إلي مشروع دولة في المنفي ثم أخيراً إلي سلطة أوسلو. والآن يتم الإيغال في هذا المستوي إلي حد الصراع علي السلطة بين القوي السياسية علي حساب الصراع مع العدو الصهيوني.
هذه الانحرافات الثلاثة أنتجت خروج مصر من الصف العربي وبالتالي إلغاء قرار الحرب العربي، تبعها بعد ذلك خروج العراق من الصف العربي، وقلب أولويته باتجاه ما سمي البوابة الشرقية، مما أدي إلي اختلال ميزان القوي علي الجبهة الشمالية، ودفع الكيان الصهيوني للاستفراد بالمقاومة الفلسطينية واجتياح لبنان عام 1982، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، مما أوجد ذرائع كافية لتيار التسوية الفلسطيني لقلب الأولويات والانخراط في مشاريع التسوية الرائجة.
شكلت هذه الانحرافات المناخ الإقليمي الذي كان يحيط به مناخ دولي من اختلال توازن نظام الثنائية القطبية الدولي لصالح المعسكر الرأسمالي.

فلسطين في خطر:

أما قضية الأمة المركزية قضية فلسطين، فقد دخلت مرحلة الحسم النهائي، إذ تجري مصادرة الجغرافيا الفلسطينية، والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م أو معظمها يواجه المصير الذي واجهته الأراضي المحتلة عام 1948م، كما ينص علي ذلك وعد بلفور الجديد (وعد بوش لشارون) في 14/4/2004. وما خطة الانطواء أو التجميع، البرنامج السياسي لحزب كاديما الصهيوني إلا الترجمة السياسية لهذا الوعد. ومع فقدان الجغرافيا باتت المعركة تتمحور حول الديمغرافيا. مما لا شك فيه أن هذه الحال هي وليدة عاملين متعاضدين هما: البرنامج الصهيوني وأزمة العمل الوطني الفلسطيني....وهي أزمة هيكلية بنيوية استراتيجية، أساسها القفز عن مرحلة التحرر الوطني، مهامها وقوانينها والانسياق وراء أوهام التسوية والجري وراء سراب الدولة المزعومة، واعتبار أن الحكم الذاتي هو جنين هذه الدولة التي أكدت الوقائع أنها لن تكون سوي دولة الكانتونات، حيث يتكفل جدار الضم وعملية التهويد الجارية علي قدم وساق، وبزخم غير مسبوق في الضفة الغربية بترسيخ هذه الحالة، مما يجعل هذه الدولة من حيث السياق والمواصفات، وقابليات الحياة صناعة صهيونية بامتياز. ونشير في هذا الصدد إلي وثيقة سرية أعدتها دائرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الصهيونية، ونشرتها صحيفة يديعوت أحرنوت، 31/10/2005 قالت انها تستند إلي رسالة دكتوراه أعدها الباحث الصهيوني رزنكي يحلل فيها 389 نزاعاً إقليمياً علي مدي التاريخ، خلص فيها إلي أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هي مصلحة استراتيجية لإسرائيل، وذلك لأنها ستلغي عنصر عدم التماثل، الذي يمنع تفوقاً للجانب الفلسطيني، وذلك من خلال نفي الصراع، كصراع بين حركة تحرر وطني وكيان غاصب، ويصبح بين دولة فلسطين والكيان الصهيوني.
وتبين الوثيقة السرية أنه في كل النزاعات التي انتهت بين دولة وهيئة غير دولة ، أي حركة تحرر وطني نال الطرف الضعيف كل مطالبه، فالقوة في مرات كثيرة كانت تكمن في الضعف، ولهذا تقرر الوثيقة بأنه سيكون لإقامة دولة فلسطينية تأثير إيجابي علي قوة النزاع وعلي استمراره. ففي معظم الحالات كما تستنتج الوثيقة وضعت إقامة دولة للطرف الضعيف جداً نهاية للنزاع. وقد أثبتت التجربة أن التسوية شكلت فرصة ذهبية للكيان الصهيوني في اغتيال الجغرافية والديمغرافية الفلسطينية. ولعل زخم التهويد الجاري علي قدم وساق في الضفة الغربية بما فيها القدس، والانطلاق نحو استكمال تهويد الجليل والنقب خير دليل علي ذلك، كما وفرت فترة التهدئة أو الهدنة المقررة في اتفاق القاهرة 15/3/2005 فرصة إضافية أخري للكيان الصهيوني للاستمرار في ذلك، حيث أصبح قتل الفلسطيني ومصادرة أرضه بلا ثمن. ويبدو أن هذه الهدنة لم تخرج عن كونها لحظة فيما سماه أرييل شارون تسوية مؤقتة طويلة الأمد لدي اعتلائه رئاسة الحكومة الصهيونية لأول مرة عام 2001. وقد شكل الخروج من غزة جانباً من هذه التسوية، وذلك لتتوفر للحكومة الصهيونية فرصة الاستفراد بالضفة الغربية، الأمر الذي يشكل منتجاً يضاف إلي منتجات أوسلو في تجزئة وشرذمة قضية الأمة المركزية، قضية فلسطين.

ہ الإغراق في أولويات السلطة والابتعاد
عن أولويات القضية: هدف صهيوني

منذ أوسلو برز في الساحة الفلسطينية خطان: خط المقاومة، وخط السلطة. وجود أحدهما لا يستقيم مع وجود الآخر إلا عرضياً. فلكل منهما فلسفته الخاصة. المقاومة استنزاف للاحتلال وزيادة في تكاليفه. والسلطة تعفي الاحتلال، وترفع عن كاهله الأعباء، وتخفف من أثقاله التي يفرضها القانون الدولي، مما يوفر للعدو المرونة والحرية اللازمتين لتسريع مشروعه التهويدي للضفة الغربية. لذلك سعي المعسكر المعادي إلي جر قوي المقاومة إلي خيمة السلطة عبر ما يسمي بالانتخابات التشريعية، واللعبة الديمقراطية، مع إدراكه المسبق لنتائج هذه الانتخابات. وثمة شواهد تعضد ذلك، ليس أقلها رفض الولايات المتحدة طلب أبو مازن تأجيل هذه الانتخابات التشريعية لمدة ستة أشهر بهدف ترتيب الأوضاع داخل فتح. كذلك الضغط الصهيوني باتجاه إتمام العملية الانتخابية والسماح للفلسطينيين في القدس الشرقية بالمشاركة فيها. يقول عاموس يادلين رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية: لقد بعثت وحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات في الأشهر التي سبقت الانتخابات رسائل شديدة الوضوح، شددت علي ضعف فتح مقابل تعزز قوة حماس. أشارت الرسائل جيداً إلي احتمال أن تتمكن حماس من التحول إلي الحزب الأقوي في البرلمان الفلسطيني. وقد شددت الاستخبارات علي أن حماس سوف تفوز في كل الأحوال بإنجاز مهم، وستكون المنتصر في الانتخابات. لقد عرضنا احتمالين: أحدهما تتساوي فيه القوي مع تفوق طفيف لفتح، والثاني انتصار جارف لحماس .
الأخطر حين تكون المشاركة في السلطة ليست نتاج قرار سياسي، بل نتاج رؤية فكرية تنطلق من الاعتقاد بأن الأزمة هي أزمة الأنظمة الحاكمة التي قامت علي أساس القمع والإرهاب الفكري والإقصاء السياسي لجهة ما كما يحلو للبعض ترويجه في الأدبيات السياسية، والذي يعني فيما يعنيه هو أننا إذا استطعنا إسقاط هذه الأنظمة وحللنا مكانها، فإن الأزمة تحل.
عاني الفلسطينيون في ظل السلطة الفلسطينية من شتي أنواع الفساد المالي وانتشار الرشوة والبلطجة والخوات، وتم إفساد حياته اليومية عدا عن التدمير الذي لحق بقضيته الوطنية. لكن السؤال المطروح هل الفساد المالي والرشوة وغيرها هي سبب بؤس الحالة السياسية الفلسطينية، أم أن الخيار السياسي لا يمكن إلا أن ينتج هذا المحتوي من السلوك الفاسد؟ لماذا اكتشف المانحون الفساد إبان انتفاضة الأقصي فقط؟ وليصبح هذا الفساد إحدي العورات المكشوفة للسلطة ليتم ابتزازها وفضحها في حال عجزها عن الانحناء بالمستوي الذي تطلبه أمريكا والكيان الصهيوني. أكثر ما يمكن الخشية منه هو تعميم الفساد عبر تداول الموقع الذي لا يمكن لمن يشغره إلا أن يتلوث بفساده. خاصة وأننا ندرك أنه موقع إفساد سياسي يشتمل لاحقاً علي كل أنواع الفساد. والخشية الأخري هي في تضخيم موضوع الفساد، واستثمار معاناة شعبنا منه، ليصبح أس البلاء ويغيب بذلك أساسه ومنتجه، ويغيب بذلك الاحتلال ومؤسسات التمويل كمنتج أساس لهذا الفساد.
من المؤكد أن كل غيور علي مصالح شعبه سيكون في مواجهة الفساد. ولكن الحقيقة تقول أن ما نحتاجه اليوم قد تجاوز حاجات الإصلاح (إصلاح السلطة) وحاجات محاربة الفساد إلي إعادة بناء حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ورسم استراتيجية هذه الحركة.
لعل من أخطر الطروحات التي يجري تداولها اليوم وخاصة بعد الانتخابات التشريعية هو الخلط بين الهدف وبين المرحلة. فإذا كنا في مرحلة تحرر وطني ونحن كذلك، فلماذا يتم تقديم أولوية بناء مؤسسات الدولة (السلطة) الفلسطينية؟ ويوضع علي رأس الأجندة مكافحة الفساد، والأرض ما زالت تحت الاحتلال بما فيها السلطة التي تسمي أحياناً وعن قصد بالدولة. نعتقد أن مرحلة التحرر الوطني التي تستهدف دحر الاحتلال وبناء الدولة تضع هدف التحرير قبل بناء الدولة. هدف التحرير الذي يستدعي أولاً بناء حركة التحرر. وحركة التحرر ليست محصلة جمع قوي كما هي ليست ولا يمكن اختزالها في أي تنظيم مهما كبر حجمه وبلغت شعبيته، والذي يستدعي حشد كافة الطاقات الشعبية خلف برنامج المقاومة لإنجاز هدف التحرير. فمرحلة التحرر الوطني لا تنتهي حتي بقيام سلطة وطنية ولا تنتهي بقيام دولة فلسطينية علي جزء من الأرض الفلسطينية بعد تحريرها فكيف وهي ما زالت تحت الاحتلال؟ وحركة التحرر الوطني الفلسطيني يجب أن تدوم ما دام هدف التحرير لم يكتمل. فالقضية الفلسطينية ليست قضية جزء من الشعب الفلسطيني أو جزء من أرضه، بقدر ما هي قضية كل الشعب الفلسطيني وكل الأرض الفلسطينية وكل الحق الفلسطيني وبالأساس علي هوية فلسطين.
إن سلطة كالسلطة الفلسطينية مهما كانت نظيفة من الفساد لا يمكن أن تكون هيكلاً تنظيمياً ولا نضالياً لحركة تحرر. ولا يجوز الجمع المجاني بين السلطة والعمل النضالي المسلح بقدر ما يجب أن يتم بناء الأداة الوطنية القائدة والتي وحدها القادرة علي الجمع الكلي بين كل مستويات العمل الفلسطيني.
وقد سوقت الانتخابات تحت يافطة الديمقراطية، وانتصار الخيار الديمقراطي، وكأن هناك إمكانية لديمقراطية تحت الاحتلال، أو ديمقراطية بدون حرية. الأدب السياسي الليبرالي كما الثوري يتفق علي مقولة أن الاحتلال اغتصاب لأصل الحرية ، وأن الحرية هي الأرضية الصلبة لتوليد واستمرار الديمقراطية، ناهيك عن أن الانتخابات جاءت في لحظة تتسم بانطلاق ووجود عوامل وقوي عملاقة مدمرة للحالة الديمقراطية:
- تكريس دولة "الحرب" والأمن القومي في الولايات المتحدة.
- اجتياح العدو مناطق الحكم الذاتي وعودة الإدارة المدنية إلي مناطق الضفة الغربية، حيث باتت تقوم بالكثير من مهام سلطة الحكم الذاتي.
- افتقار الفلسطينيين إلي القدرة علي إنتاج دورة الحياة علي المستوي الاقتصادي العام ومستوي الحياة اليومية. أي الافتقار إلي الحد الأدني من الاعتماد الذاتي.
وهكذا تكون وظيفة سلطة الحكم الذاتي هي إدارة مرحلة الإفلاس والانهيار الشامل للمجتمع الفلسطيني، وحراسة الكانتونات علي تخوم خطة الانطواء أو التجميع. إذ لا معني -في ظل عجز الحكومة عن ضمان انتظام صرف رواتب موظفي السلطة الـ 140 ألفا بدون الخضوع للشروط السياسية للأطراف الممولة عربية كانت أم أجنبية- للوعود الانتخابية التي أطلقت، والفائقة الطموح، كي لا نقول المغرقة في الأوهام مثل إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني علي أساس من التنمية المستقلة، أي أننا أمام سياسة تجريبية، تفتقر إلي الرؤية الاستراتيجية التي توضح الغايات والخيارات والأولويات السياسية، وكذلك القصور في التحديد الواضح للمصالح والأهداف وغياب الحساب الرشيد لتكلفة وعائدات هكذا خيار في الاستجابة للتحديات المطروحة، وتبين أن ما جري من انتخابات وما تلاها لم يكن أبداً في سياق تثمير الإرادة الوطنية في مجال تعيين الاستراتيجيات والخيارات والأولويات والسياسات. وخطورة النزعة التجريبية تكمن في أن القضايا المصيرية بدءاً ليست حقل تجارب، فضلاً عن أن خصوصية القضية الفلسطينية في ظل الخلل الفادح في موازين القوي، وما يتمتع به العدو من دينامية فائقة، إضافة إلي نفوذه علي الساحة الدولية، لا يتيح الانسياق وراء سانحة دعونا نبدأ من جديد، لأن ذلك يعني عملياً وفعلياً العودة إلي الوراء.
كما كرست نتائج الانتخابات نهج اللعبة الصفرية في الساحة الفلسطينية، بمعني أن أي تقدم لطرف يعتبر انتقاصا من الطرف الآخر. وقد ترتب علي هذا النهج أن الاستقطاب الحاد والانفعالي الجاري الذي نشهده داخل الحالة الفلسطينية، أفضي إلي تفكك الجبهة الداخلية الفلسطينية. لا أحد يعرف كيف سيتم حسم هذا التوتر الفلسطيني الداخلي، خصوصاً أن هناك ازدواجية سلطة، وصراع صلاحيات بين حكومة السلطة ورئاستها. والازدواجية في السلطة دائماً خطرة ومليئة بالأفخاخ المدمرة. هذه الحقائق علي تناقض تام مع موجبات وشروط مسار التحرر الوطني الذي يقتضي بالضرورة وحدة كل الشعب بكل طبقاته وتياراته واتجاهاته وفصائله الوطنية علي قاعدة برنامج التحرير هي الطريق لدحر الاحتلال وتحقيق حق العودة كحق راهن غير قابل للإرجاء.
كما بات الخطاب السياسي والإعلامي الفلسطيني منشغلاً بقضايا أقحمت عليه.. كالحكومة، برامجها، سياساتها، صلاحياتها، اجتماعاتها، قراراتها، صلاحية الرئيس، صلاحية الحكومة، لقمة الخبز، تأمين الرواتب... الخ. وغابت قضية القدس وتهويد الأرض، حتي أن إعلان العدو عن مصادرة منطقة غور الأردن التي تشكل 28 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، لم يلفت الانتباه أو علي الأقل لم يحظ بالتغطية المطلوبة ولم يستدع حملة لا إعلامية ولا سياسية، رغم أنه سلة غذاء الضفة، ويعني حرمان 200 ألف عامل فلسطيني من العمل في أرضه، وتشريدهم. ثم ان نتائج الانتخابات قد قلبت صورة الشعب الفلسطيني الذي كرسته المقاومة وبالتحديد الانتفاضة، كشعب تحت الاحتلال يناضل من أجل تحرره الوطني وعودته إلي دياره التي طرد منها، ويحظي بالاحترام والتقدير بحيث باتت رموزه عنواناً لنضالات الأحرار في العالم، إلي شعب يتسول لقمة العيش، ويستحق الشفقة.

ہ مدير مركز يافا للدراسات/
عمان ـ الاردن