تقويم اعوجاج النظرة التقويمية للجيش السوري للكاتب محمد خليفة

 

 

محمود جديد

 


بداية ، أودّ توضيح النقاط التالية :
  1 - لست معنيّاً باقتفاء آثار الهفوات والأخطاء الواردة في كامل المقال ، ولا بما ذكره عن حقبة حافظ الأسد منذ ارتداده عام 1970 , وما بعده ..وسيقتصر ردّي فقط على  ماجاء حول الفترة بين  1963 و 1970 من مغالطات وتناقضات . 
2 - لست معنيّاً بالدفاع عن هذه الطائفة أو تلك ، والخوض في المستنقع الطائفي .. فهذا الطريق رفضته طيلة حياتي مذ كنت فتىً وحتى الآن حيث تجاوزت الخامسة والسبعين من عمري ..و لا أعترف ، ولن أعترف على إيّ انتماء سوى الانتماء الوطني والقومي والانساني دون تعصّب أو تطرّف.
3 - إنّي حريص كلّ الحرص على النقد الموضوعي المحدّد ، ولذلك اعتدت على ذكر النصّ الوارد ثمّ التعليق عليه مستنداً إلى الوقائع والتواريخ والأسماء ، بعيداً عن الضبابية والإنشاء السياسي ، أو الاقتصار على ذكر العموميات ... 
النقاط الواردة في مقال السيد محمد خليفة والمشمولة بردّي والمحدّدة بين قوسين :
" المشروع العلوي لحكم سوريّة " 
يقول الكاتب مايلي نقلاً عن المرحوم أمين الحافظ ، والسيّد أحمد أبو صالح  :
1 -  "  يقول أمين الحافظ رئيس الدولة بين 1963 و1965 ان العلويين كانوا ممنوعين من دخول الجيش قبل 1954 كضباط محترفين, ولم يرفع الحظر عنهم إلا بعد سقوط الشيشكلي, وعودة الحكم الديموقراطي, فدخل كثير من العلويين الجيش, وكان منهم الاسد ومحمد عمران وصلاح جديد. ووجدوا في البعث غطاء لإخفاء طموحهم, وسلّماً لتسلق السلطة, فالبعث كان يملك جناحاً عسكرياً في الجيش وذا شعارات قومية وطبقية. وكانوا يتصرفون ككتلة علوية, بشهادة أحمد أبو صالح عضو قيادة البعث القطرية حينها, ينسقون فيما بينهم كمجموعة ضغط متجانسة. وعندما وقع انقلاب 1963,احتل الثلاثة مواقع قيادية في الجيش." 
بغض النظر عن مدى دقّة المنقول عن لسان الآخرين فتقويمي لاعوجاج ما ورد هو مايلي : 
ا - إنّ ماورد عن لسان الحافظ  مجافٍ للحقيقة والبرهان على ذلك وجود أسماء كثيرة برزت في تاريخ الجيش السوري بعضهم أقدم من الحافظ نفسه مثل : المرحوم العقيد محمد ناصر الذي اغتاله ابراهيم الحسيني عام 1950  بأوامر من الشيشكلي وفقاً لتقديرات المرحوم أكرم الحوراني مع توجيه شبهة التعامل مع المخابرات الأمريكية للحسيني ( راجع مانشره في الشرق الأوسط ، وفي مذكّراته  ) وكان العقيد ناصر ضابطاً لامعاً في سلاح الطيران وقائداً للقوات الجويّة السورية آنذاك .. وهناك اللواء عزيز عبد الكريم الذي استلم معاوناً لرئيس أركان الجيش في حقبة الانفصال    .. وهناك أسماء بارزة أيضاً من دورة الحافظ أو أقدم منه أو أحدث بسنوات قليلة مثل  : المرحوم غسّان جديد ، والمقدم محمّد هوّاش ، والمقدم محمد معروف ، والمقدّم وفيق اسماعيل ،واللواء محمد عمران ، واللواء صلاح جديد ، واللواء عبد الغني إبراهيم ، واللواء علي حمّاد ،  والعميد محمد شريف ، والعميد محمد ملحم ، و حافظ الأسد ومصطفى عمران ، وعلي نعيسة ، وعزت جديد ، وصلاح نعيسة وكثيرون غيرهم  ... جميع هؤلاء كانوا في الجيش قبل حدوث الانقلاب على الشيشكلي ، لا بل أنّ المرحوم محمد عمران كان الساعد الأيمن للمرحوم مصطفى حمدون الذي قاد هذا الانقلاب  ، وهو الذي احتلّ إذاعة حلب وقتذاك  ..  
ب - أمّا القول أنّ الثلاثة (الذين ولدوا في الطائفة العلوية  المذكورين في فقرة المقال السابقة) "وجدوا في البعث غطاء لإخفاء طموحهم ، وسلّماً لتسلّق السلطة .. الخ الفقرة " فيدعو هذا التوصيف إلى الرثاء لمُطلِقِه  ، ولُمعتمِده في نظرته التقويمية ، لأنّه ينطلق من تفسير بوليسي طائفي  للأشخاص  والأحداث   استناداً على منبتهم في الطائفة العلوية فقط دون الاستشهاد بفعل أو  تصرّف محدّد معتمداً أسلوب أبو صالح  ، والتعامي عمّا  جرى من خلافات فيما بينهم ، ووجهة نظر كلّ منهم خلال تلك الحقبة ، والمصير الذي لقيه محمد عمران على أيدي عصابة رفعت الأسد الإجرامية عندما كان مقيماً في طرابلس وبمعرفة أخيه  ، أو اغتيال صلاح جديد بالسمّ عام 1993في  سجنه ، بعد اعتقاله دون محاكمة في سجن المزّة مدة 23 سنة .. هذا مع العلم ، أنّ عمران كان حليفاً للمرحوم صلاح البيطار وشكّلت مجموعة عمران  الجناح العسكري له ،.. كما أنّ القيادة التاريخية للحزب المتحالفة مع أمين الحافظ أعادته من اسبانيا عام 1965 وسلّمته وزارة الدفاع .. والكاتب تغافل عن الإشارة إلى ذكر تلك الوقائع التي ذكرتها ليستكمل توليفته الطائفية ...علماً أنّ فترةالخلافات بين الثلاثة بعد عام 1963كانت أطول من فترة التوافق ...   
 كما أنّ الاستشهاد بهلوسات أحمد أبو صالح  لا يُعتدّ بها ، لأنها مليئة بالافتراءات الظالمة  الحاقدة كالعادة  ، ولم أرَ في حياتي إنساناً بعيداً عن الحقيقة ومجافياً لها في خرجاته التلفزيونية مثله ، وكلّ مرّة كنت أسمعه كان يخطر على بالي أوّلاً أنّه في غير وعيه لسبب ما .. 

 2 - ورد في مقال خليفة الفقرة التالية : " في هذه الفترة ( بعد آذار 1963 ) من تاريخ سورية المعاصر تعرضت المؤسسة العسكرية لأكبر عملية تهديم منظمة على أيدي البعث. إذ طرد مئات الضباط المحترفين غير الموالين لهم, وأحلوا محلهم آلاف البعثيين غير العسكريين من معلمي المدارس والموظفين, ومنحوهم رتباً عالية دون تأهيل, كما رفعوا الضباط البعثيين عدة رتب مرة واحدة ليتمكنوا من شغل المناصب العليا, وكان منهم حافظ الاسد الذي رفع من مقدم إلى لواء ليكون قائد سلاح الجو عام 1964 ثم وزيراً للدفاع عام 1966.. مما أصاب الجيش بخلل كبير ظهرت نتائجه في كارثة 1967 أمام اسرائيل التي تسبب بها البعث عن سابق عمد ." 
  - إنّ تسريح عدد من تكتل الضبّاط الانفصاليين تمّ وفق النهج المألوف في تاريخ سورية بعد الانقلابات ولم يكن إجراءً جديداً ، وهذه ضريبة التخلّف وغياب الديمقراطية ..أمّا من حيث العدد ففيه مبالغة لأن كلمة مئات مطّاطة تبتدئ بمائة وقد تصل إلى أقل من ألف بقليل ، ولا أدّعي تذكّر العدد الحقيقي بدقّة الآن ،  وحسب تقديري ربّماً بين المِئة  والمئتين لا أكثر لأنّي قرأت جميع النشرات العسكرية التي صدرت في تلك الفترة  .. وبالنسبة لتعويضهم ، واستكمال النقص في ملاك القطعات العسكرية فقد تمّ عن طريق استدعاء ضبّاط احتياط جميعهم من خرّيجي كليّة ضبّاط الاحتياط ، ولم يُستدعَ مدنيّ واحد على الإطلاق لم يتخرّج من تلك الكلّية ، وقسم منهم كان معبّاً في كتائب وألوية احتياط يتمّ استدعاؤها وتدريبها عادةً وفق برنامج قيادة الجيش ثم تسريحها على أن تكون جاهزة للالتحاق بقطعاتها العسكرية عند الحاجة .. ولم يكن هؤلاء الضباط من ذوي الرتب العالية  ( ملازمين ، وملازمين أُوَل فقط ) ومن كافّة مناطق سوريّة ، ولم يُمنحوا رتباً عالية كما ورد ، وحبّذا لو يستشهد الكاتب باسم واحد فقط .. وممّا لا شكّ فيه أنّ عدم استقرار الجيوش وتسييسها يؤثّر على كفاءتها ، ولكنّ تأثير ذلك على هزيمة حزيران فيه الكثير من المبالغة  ، لأنّ عوامل أخرى ساهمت في ذلك بدرجة أكبر .. وما جرى للجيشين المصري والأردني أيضاً على الرغم من احترافيتهما واستقرارهما يؤكّد كلامي .. 
وبخصوص ترفيع الضباط البعثيين عدّة رتب مرّة واحدة فقد تمّت بشكل محدود عند إجراء تغييرات في المناصب العليا فقط  ، وهذا أيضاً مألوف في تاريخ الجيش السوري وغيره ..     
ويبقى الموضوع الآخر  الذي أثاره الكاتب في هذه الفقرة هو اتهامه البعث بأنّه سبّب كارثة حزيران عن عمْد ، فإذا كان لديه الدليل الذي يبرهن تعمّد حزب البعث  فليعرضه ، ولماذا يتكتّم عليه ؟    .. وهنا أحيله إلى مذكّرات المرحوم الفريق : محمد فوزي القائد العسكري المصري المحترم والبارز ، وتوصيفه وتحليله لأسباب وملابسات الهزيمة العسكرية وظروفها ..
3 -  وينهي الكاتب الفقرة السابقة بقوله : "   وفي هذه الفوضى سعى العلويون الى تعزيز مواقعهم داخل الجيش والحزب والدولة بحيث صار واضحاً لكل المواطنين في سورية بعد عام 1966 أن مفاصل السلطة وقعت في أيدي العلويين " كما أشار في فقرة لاحقة إلى الموضوع نفسه ...  
حبّذا لو عرض نماذج وشواهد على تعزيز المواقع على أساس طائفي ، وتحديد المفاصل ز أشار إليها السيّد خليفة فقد عشت تلك الفترة بتفاصيلها كضابط بعثي انتسب للجيش في عام 1957 ، وبالتالي لا أزال أتذكّر مجرياتها بكثير من الدقّة ، فالاعتبار الطبقي والحزبي والسياسي هو الذي كان معتمداً من حيث اختيار طلاب الكليّات العسكرية ، وفي التنقّلات والترفيعات وبقرارات جماعية بدءاً من شباط عام 1966 وحتى خريف 1968 حيث ابتدأت ظاهرة حافظ الأسد تتبلور وتُدخِل القطر في مرحلة الازدواجية في الحكم والتي شهدت بروز ظاهرة سرايا الدفاع واشتداد الصراع بين  قيادة الحزب وحافظ الأسد .. ولكن من المفيدالتذكير بأنّ السلطة التنفيذية  ( رئاسة الدولة ، والحكومة ، والمحافظين ) لم تكن بالصبغة الطائفية التي أوردها الكاتب ، (وحتى داخل الجيش على الرغم من ظهور ملامحها في فترة الازدواجية  ) ، وهنا أذكّر بالأسماء الواردة كنماذج وليس على سبيل الحصر : المرحوم  الدكتور نور الدين الأتاسي كان رئيساً للدولة وأحياناً رئيساً للوزراء في وقت واحد ، والدكتور يوسف زعيّن ( أعانه الله وأطال بعمره ) استلم رئاسة الوزارة أيضاً ، والمرحومين : محمد عيد عشّاوي ، ومحمد رباح الطويل تناوبا على وزارة الداخلية ، والمرحوم اللواء أحمد سويداني و اللواء مصطفى طلاس تناوبا على رئاسة الأركان ، والمرحوم : عبد الكريم الجندي استلم الأمن القومي ، والعقيد على ظاظا كان في المخابرات العسكرية .. وهذا لا ينفي أنّ حافظ الأسد قد ابتدأ في ترتيب أوراقه ومواقعه خلال فترة الأزدواجية وسانده في ذلك بقايا مجموعة محمد عمران في الجيش ، وأنصارالقيادة القومية المتواجدة في العراق ، والخلايا النائمة المرتبطة بأوساط خليجية وغربية .. وعلى كلّ حال سأستعرض أيضاً نماذج بعض الأسماء من غير الذين وُلدوا في الطائفة العلوية والذين دعموا وساندوا حافظ الأسد : 
مصطفى طلاس رئاسة الأركان ، حكمت الشهابي مخابرات عسكرية ثمّ رئاسة الأركان ، علي ظاظا مخابرات عسكرية ، ناجي جميل ومحمود عزّام قيادة القوى الجوية ، ممدوح عبّارة قيادة سلاح المدرعات ، عدنان دبّاغ وزارة الداخلية  ، علي المدني الشرطة العسكرية ، وليد حمدون في الجيش والحزب والحكومة  ، يوسف قرصة مدرسة المدرعات ..الخ هذا بالإضافة إلى أرتال طويلة من البعثيين أمثال عبد الحليم خدّام ، وعبدالله الأحمر ، والشرع وأعضاء القيادتين القطرية والقومية .. وأحزاب مايسمّى بالجبهة الوطنية  ، وكبار رجال الدين من المسلمين والمسيحيين .. الخ فلولا الغطاء السياسي والطائفي الذي تعاون مع حافظ الأسد ، والدعم الخليجي والغربي له لما استطاع أن يستمرّ شهوراً قليلة  في الحكم ...   

 4 - يذكر السيّد خليفة في نهاية البند المتعلق بعنوان " في البداية جيش حرّ " " ومع ذلك لم تتوقف سلسلة الصراعات العسكرية ففي عام 1966 اقتتل عسكر البعث وصفى الجناح العسكري الجناح المدني الموالي لقيادة الحزب التاريخية, ثم عادوا فاصطرعوا حول السلطة بين جناح يريد تدعيم دور الحزب في الحكم, وجناح بقيادة وزير الدفاع حافظ الأسد يستهدف تهميش الحزب لصالح حكم من نوع آخر ذي مشروع لا علاقة له بكل ما سبق, يتمحور حول ذاته وعائلته ويستند لعصبية علوية اتضحت ملامحها تدريجياً وأثرت بعمق على كل مجالات الحياة السورية حتى الساعة "
وهنا أقول : إنّ أيّ باحث ومتابع ، ومراقب  سياسي موضوعي يعرف أنّ صلاح جديد كان من أبرز قياديي الجناح الذي كان يريد تدعيم دور الحزب في الحكم، ودفع ثمن ذلك 23 سنة سجناً بدون محاكمة ثم حياته، بينما حشره خليفة في مكان غير مكانه وموقعه  .. أليس مافعله الكاتب افتراءً وظلماً وتزييفاً للحقيقة والواقع الذي عاشه الكثيرون لحظة بلحظة ..
وعند الحديث عن وضع الجيش في مرحلة ما بعد 1970 ،  يقول السيد خليفة :" أمّاالأخطر مما سبق فهو ان الجيش تبلورت له هوية جديدة في عهد الأسد ووظيفة مختلفة جذرياً " 
وما أورده هنا وفي الفقرة السابقة  يتناقض مع اتهاماته الأخرى التي لاسنداً لها ، وفيه الكثير من التجنّي عندما يضع الضحيّة والجلّاد في كيس واحد ، فلو كان صلاح جديد ذا مشروع طائفي فلماذا اختلف مع حافظ الأسد منذ هزيمة الخامس من حزيران عندما اقترح في الاجتماع المشترك للقيادتين القومية والقطرية بضرورة تبديل وزير الدفاع ورئيس الأركان ؟  ، كما كان له دور بارز أيضاً في استصدار قرار من قيادة الحزب عام 1969 ينصّ على تبديل مراكز القوى الذي يعني نقل حافظ الأسد من موقعه  .. علماً أنّه رحمه الله أمضى طيلة حياته بعد ذلك في سجن المزّة دون أن يتنازل عن مواقفه المبدئية شعرة واحدة  ...   
وأخيراً ، من المؤسف لكاتب مثل السيّد خليفة أن يكون ظالماً لشهداء قضوا في سجن الطغاة ، وأن يساهم بقلمه في عملية التأجيج الطائفي الكريه ، ويفقد البوصلة التي ترشده إلى الطريق الوطني الذي يصون ويعزّز الوحدة الوطنية ويدفع باتجاه التغيير الوطني  الديمقراطي الجذري الشامل ...  
في : 22 / 4 / 2013