كيف يقارن كيسنجر بين فيتنام والعراق؟
نصر شمالي: ( كلنا شركاء ) 22/4/2006
يعتقد
عدد من المفكرين الأميركيين البارزين أن الدكتور هنري كيسنجر ليس
جديراً بالمناصب الرفيعة التي تولاها في عقدي الستينات والسبعينات
الماضيين، لا من حيث الكفاءة ولا من حيث الأمانة، فقد تولى منصب مستشار
الأمن القومي ثم منصب وزير الخارجية على مدى فترة طويلة من الزمن
تميّزت بمفاصل خطيرة في تاريخ الولايات المتحدة، وفي تاريخ العالم
وبخاصة المنطقة العربية، وكان دوره سلبياً عموماً بحكم سطحيته التي
غطاها بالجولات الاستعراضية (سياسة الخطوة خطوة) وبالتصريحات المنمقّة
البراقة إنما الفارغة، وغطاها أيضاً بدعم واسع النطاق من أجهزة الدعاية
الصهيونية المتمكنة الواسعة الانتشار، والتي بفضلها غدا نجماً لامعاً
في الفضاء العربي، خاصة بعد أن محضه الرئيس أنور السادات كامل مودته
وثقته خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر وبعدها! ويعتقد أولئك المفكرون
الأميركيون أن كيسنجر، الذي يتحدّر من أسرة يهودية ألمانية هاجرت إلى
الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، كان ناجحاً حقاً في
خدمة الشركات وأصحاب المال والأعمال، فبعد خروجه من الحياة الرسمية،
التي تصرّف فيها دون أن يكون منتخباً أو جديراً، تفرّغ للوساطات
والخدمات التي يغلب عليها طابع السمسرة بين الأميركيين وبعض دول جنوب
شرق آسيا، خاصة اندونيسيا في عهد سوهارتو، فحقق لجماعته عائدات طائلة
فعلاً، لكنه لم ينقطع كلياً عن الحياة السياسية، فهو يطلّ من حين لآخر
مدلياً بآرائه التي يقبل عليها بعض السذّج في بلادنا كأنما هي آراء لا
تقبل الجدل! وقد صرّح مؤخراً، مطمئناً الأميركيين، أن الحرب العراقية
لن تكون حرباً فيتنامية أخرى، فيا له من استنتاج، حيث هي لن تكون كذلك
بالطبع وهذا أمر بديهي، لكن كونها حرب من نوع آخر لا يعني أنها ليست
مقلقة للأميركيين كما أراد كيسنجر أن يوحي!
المدنيّة العظيمة لا الجنس العظيم!
إن ما لا يريد أن يراه هنري كيسنجر وأمثاله من أعداء الإنسان هو مسألة
التكامل في ثنايا التفوق، والتفوق في ثنايا التكامل، فثمة جهد إنساني
أقل يحقق نتائج أكبر بينما هناك جهد أكبر يحقق نتائج أقل! وتعود مثل
هذه المفارقة الظاهرية في أسبابها إلى عوامل ديمغرافية واقتصادية،
فالثورة الصينية المعاصرة على الرغم من مساحة الصين الشاسعة وعدد
سكانها الهائل، لم تحقق أثراً عالمياً في مستوى الأثر الذي أحدثته
الثورة البورجوازية الفرنسية قبل حوالي قرنين من الزمن، رغم تفوق الجهد
الصيني بما لا يقاس، لكن ذلك لا يشكل مفخرة أو ميزة عرقية للفرنسيين
ولا انتقاصاً من قيمة الصينيين، إنما هي الظروف والشروط الزمانية
والمكانية والمادية والثقافية! ولو أخذنا الملحمة الفيتنامية، كمثال
آخر فريد في التاريخ المعاصر من حيث حجم الجهد والتضحية، فإن النتائج
التي أعطتها لا يمكن أن يقاس أثرها العالمي بالنتائج التي سوف تعطيها
الثورة الفلسطينية في حال انتصارها، حتى لو بذل الفلسطينيون جهداً
وتضحيات أقل، وهذا أيضاً لا علاقة له بأية ميزة عرقية، ولو تبادل
الفلسطينيون والفيتناميون المواقع الجغرافية فإنهم سيتبادلون أيضاً حجم
الجهود والتضحيات، ولن يتبدّل شيئاً جوهرياً في المسار العام للأحداث!
كذلك ينبغي الانتباه إلى أن درجة الأهمية لمنطقة جغرافية معينة لا تبقى
على حالها، فهي ترتفع أو تنخفض، وقد ينتقل شعب منطقة ما من حالة التخلف
إلى حالة التقدم (أو العكس) خلال فترة مدهشة في قصرها نتيجة لتوفر بعض
الشروط المقترنة بإرادة سياسية كافية، أو نتيجة فقدان الشروط واضمحلال
الإرادة! وقد ذكر فريدريك أنجلس أن أجداد البرلينيين (الفيلتاب أو
الفيلز) كانوا يأكلون لحوم البشر حتى القرن العاشر الميلادي! أما
ديورانت فيقول (في قصة الحضارة) أن المدنيّة ليست وقفاً على جنس دون
جنس، فليس الجنس العظيم من يصنع المدنيّة، بل المدنيّة العظيمة من تصنع
الشعب، حيث الظروف الجغرافية والاقتصادية والسياسية تخلق ثقافته!
النقص الفاضح في الذكاء!
واستطرداً نقول أن العرب، أو الأمم الأخرى التي تعيش حالتهم، عندما
يعترضون على اعتبار تاريخ البشرية مقصوراً على تاريخ الأوروبيين
والأميركيين فإنهم لا يسعون من وراء اعتراضهم إلى اعتباره آسيوياً أو
أفريقياً، بل يهدفون إلى إعادة الاعتبار لمنطق العلم ولقوانين التاريخ
التي امتهنت على أيدي أمثال هنري كيسنجر، حيث هذه القوانين لا تعترف
بتميّز شعب وبتفوّق أمة بناء على العرق أو اللون، ولا يمكن أن تهمل
القيمة النسبية المتساوية المتكاملة لجهود جميع المجتمعات الإنسانية
عبر جميع العصور البشرية.
لكننا لن نعدم إنساناً منصفاً من دول الشمال، مثل وول ديورانت، يقول:
إن قصتنا (قصة الحضارة) تبدأ من الشرق، ليس لأن آسيا كانت مسرحاً لأقدم
المدنيات المعروفة لنا فحسب بل لأن تلك المدنيات كوّنت البطانة والأساس
للث قافة اليونانية والرومانية، التي اعتقد (السير هنري مين) خطأ أنها
المصدر الوحيد الذي استقى منه العقل الحديث، ولسوف يدهشنا أن نعرف كم
اختراعاً من أهم مخترعاتنا، وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي، وكم مما
لدينا من علوم وآداب وفلسفة ودين، تعود إلى الشرق! يضيف ديورانت: إن
التعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا للتاريخ، التي تبدأ روايته من
اليونان وتلخص آسيا كلها في سطر واحد، لم يعد مجرّد غلطة علمية، بل
إخفاقاً ذريعاً في تصوير الواقع ونقصاً فاضحاً في ذكائنا! يختم ديورانت:
إن المستقبل يولي وجهه شطر المحيط الهادي فلا بد للعقل أن يتابع خطاه
هناك!
إن هنري كيسنجر وأمثاله هم من عناصر إشاعة الجهل والإخفاق الذريع في
تصوير الواقع التاريخي، وتكريس النقص الفاضح في الذكاء العام، ومثال
ذلك محاولته نفي أوجه التشابه بين الحرب الفيتنامية والحرب العراقية،
على أساس أن تلك كانت خطرة ومخيفة، وهذه ليست خطرة ولا مخيفة!
الفارق بين حرب وحرب!
والحال أن ما يحدث في منطقتنا اليوم، في فلسطين ولبنان والعراق وإيران
وأفغانستان، ليس مجرّد أحداث إقليمية منفصلة وعابرة، بل يتضمن بذور
انقلاب عالمي إيجابي يفترض أن يكون لصالح الإنسان عموماً في جميع
القارات، فهذه المنطقة هي مهد الحياة المجتمعية الأول، وعندما كانت
كندا بكاملها، على سبيل المثال، قطعة جليد خالية من أي أثر للحياة، قبل
حوالي ستة آلاف عام، كانت أرض العراق تعج بالحياة المتقدمة، وتتأهب
لظهور الحضارة السومرية التي هي إحدى أمهات الحضارات البشرية اللاحقة،
وها هم الأميركيون وحلفاؤهم يحاولون تقويض هذا الركن الذي نهضت عليه
الحضارات المتوالية، فهل سينجحون في تقويضه؟ وإذا نجحوا فما الذي سوف
يترتب على ذلك؟ لكن جميع الدلائل تؤكد أن الإخفاق سيكون من نصيبهم، وأن
ما يحدث على أرض العراق وفلسطين وغيرهما هو المدخل إلى تغيير ايجابي في
العلاقات الدولية والإنسانية، ولعل هذا هو الفارق بين الحرب الفيتنامية
والحرب العراقية من حيث بعد الأثر ونوعيته، وليس ما تشدّق به كيسنجر من
مقارنة مضللة.
|