في <خيار السلام الاستراتيجي>
لؤي حسين
يصعب على المرء فهم
موقف السلطة السياسية السورية في ما يتعلق بقضية الجولان، وبموضوع إسرائيل عموماً.
وذلك ليس لاختلاف وتباين آراء ومواقف مسؤوليها تجاه هذه القضية، وليس لتقلب موقفها
الرسمي بين تمجيد الحرب وبين القبول بالسلم، بل لعدم وجود تصور واضح وناجز عند أي
من أطرافها أو مستوياتها عن الكيفية أو الطريقة أو الاستراتيجية التي تمكّنها من
إنهاء حالة النزاع مع إسرائيل واستعادة الأراضي السورية المحتلة.
ومن الواضح أن
خطاب السلطة لا يتطابق ولا يتناسب مع أدائها. فالخطاب، المتعدّد والمتقلب، الذي
تعتمده السلطة الحالية ليس إلا انتقاء عشوائياً لعناوين كبيرة من أدبيات عهد الرئيس
السابق حافظ الأسد، مع عجز وإخفاق بيّنين في التمكن من متابعة أو حتى استلهام أداء
السلطة السابقة في جانبه العملي. ف<خيار السلام الاستراتيجي> الذي أراده الأسد الأب
عنواناً لطبيعة المواجهة مع إسرائيل، تطلب منه فعل الكثير، على جميع الأصعدة
الداخلية والإقليمية والدولية وعلى جميع المستويات، لتكريسه. على الرغم من عدم
انسجام مفرداته مع بعضها ومع واقع الحال.
وقد بدأ
التأسيس ل<خيار السلام الاستراتيجي> بعد حرب 1973 وإعلان اتفاقية الهدنة. وكان
بمثابة تعبير صريح لانتهاء مرحلة الحروب السورية ضد إسرائيل، واعتماد صراع
المفاوضات بديلاً عن صراع السلاح. ولم تجد السلطة السورية السابقة طريقاً لتحقيق
فوز في هذا الميدان الجديد، خصوصاً بعد خروج مصر من الحلبة العسكرية لهذا الصراع
المستعصي، سوى بجعل دمشق ممرراً إجبارياً لأي خطوة سلام تريدها إسرائيل، أو المجتمع
الدولي، في المنطقة. أي أنها سعت لأن تمتلك المقدرة على تعطيل مشاريع الآخرين طالما
أن موازين القوى في تلك المرحلة لا تسمح لها بفرض خياراتها ومشاريعها. فاعتمدت
لتحقيق هذا الخيار العمل على صعيدين متلازمين وتزامنين في الوقت نفسه، الأول: تعزيز
وتثبيت دور سوريا، أو دور سلطتها، الإقليمي لتكون طرفاً رئيسياً ومقرراً على طاولة
المفاوضات. وفي سبيل ذلك عملت على خلق مسار لبناني وضعته تحت إمرة المسار السوري.
والثاني: عرقلة مباشرة للمسارات الأخرى التي يمكنها الاستقلال عن المسار السوري.
وكان الأهم على هذا الصعيد هو المسار الفلسطيني. غير أن هذا التوجه ما كان يمكن
للسلطة أن تسير فيه خطوة واحدة من دون الانفتاح على الخارج الإقليمي والدولي،
والاعتراف بدوره الرئيسي في المسار العام للصراع العربي الإسرائيلي. وعدم الاكتفاء
بالخطابات والتصريحات.
هذه اللوحة، وما تتضمّن من عوامل، تغيرت جذرياً ونهائياً مذ خسرت السلطة السورية
الحالية الملعب اللبناني على أثر انسحابها منه. إذ استقل المسار اللبناني عن
مسارها، وبدا هذا واضحاً في نشوب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وتأكد من
خلال مسار الحرب حيث لم يكن للسلطة السورية أي دور حتى لو كان استشارياً، وأتم
استقلاله بشكل نهائي بالقرار .1701 لكن بالإضافة إلى هذا، والأهم منه، أنها، وبسبب
عدم مقدرتها على استيعاب انسحابها من لبنان وانفكاكه عنها، أوقعت نفسها بعزلة شبه
تامة إقليمياً وعربياً، بل وضعت نفسها بخصومة خاسرة مع كل الأطراف المعنية والفاعلة
في أوضاع المنطقة ومستقبلها.
هذا الواقع الجديد أسقط مقولة <السلام الاستراتيجي> من أن تكون خياراً بيد السلطة
السورية. بل إنه أفقدها غالبية الخيارات، ولم يُبق لها إلا خيار اللاسلم. وهذا لا
يعادل ولا يكافئ خيار الحرب، بل يترك لها، فقط، رفض الحلول السلمية المطروحة، أو
التي يمكن أن تُطرح لاحقاً. خاصة بعد أن ثبتّت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان
أن قراري الحرب والسلم مازالا بيد إسرائيل حصراً.
فامتلاك خيار السلم لا يشترط فقط امتلاك إمكانية اعتماد الحرب كخيار ثانٍ، بل يشترط
أيضاً، وهذا هو الأهم، المقدرة على إلزام الخصم باللجوء للحل السلمي من خلال إفقاده
إمكانية الفوز بالحرب. كذلك فإن خيار الحرب ليس مجرد القدرة على القيام بها، بل
المقدرة على النصر أو الصمود بها، أي يرتبط خيار الحرب بالنتائج السياسية التي يمكن
تحصيلها. وإلا لكان أي طرف في أي نزاع يمتلك خيار الحرب. فإن كانت الحرب تشترط ذلك
لتكون خياراً، وألا تكون مجرد ضرب في المجهول والمغامرة أو مجرد رد فعل، فإن خيار
السلم هو أعقد من ذلك ويتطلب جهوداً وقوى متعددة المستويات. ولهذا تُعتبر الحرب هي
الخيار الأسهل، لكنها، بالتأكيد، لا تحقق غير الخراب والدمار في أغلب الأحيان.
ويبقى أنه لا يمكن تحقيق السلم إن كان القبول به متأتياً من مجرد العجز عن الحرب أو
الفوز بها. بل ربما يكون العكس هو الأكثر جدوى وصحة، أي حين يكون السلم خياراً في
لحظة المقدرة على خوض الحرب. وبغير ذلك لن يكون هذا السلم أكثر من مجرد هدنة، وقد
تكون طويلة الأمد أو غير محدودة. وأعتقد أن الحالة الصراعية القائمة الآن بين سوريا
وإسرائيل تأتي ضمن هذا التصنيف. فحالة اللاحرب القائمة الآن بينهما ليست مستندة إلى
رفض الطرفين لحل النزاع بينهما بالطرق الحربية، بل لشعور السلطة السورية بعجزها عن
رد العدوان الإسرائيلي، المتمثل باحتلال أراض سورية، عن طريق الحرب، ولتقديرات
القيادة الإسرائيلية أن الأراضي السورية التي تحتلها تكفيها في هذه الفترة لضمان
أمن حدودها.
أما ما نسمعه من منابر السلطة السورية في هذه الآونة، بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية
الأخيرة على لبنان، من دعوات تتناوب بين الحرب والسلم فهي لا تخرج عن الإطار
الخطابي العاجز عن أن يجد له في الواقع ما يقترن به. فدعوات الحرب ليست أكثر من
خطابات لفك الإحراج الذي وضعت السلطة نفسها فيه جراء انفلات مواقف مسؤوليها
المؤيدين لاستمرار الحرب في لبنان (في حينها)، وإعلائهم لشأن العمل المسلح، وبهجتهم
في سقوط <زيف> العملية السلمية التي بدت من خلال تصريحاتهم على أنها كانت مفروضة
عليهم وليست خياراً تبنوه بمحض إرادتهم.هذا في مواضيع الحرب والسلم التي تغفل أن
الجولان ليس مجرد ساحة حرب أو ملفاً للمقايضة، بل هو قبل كل شيء حق وملكية لكل
الشعب السوري وليس للسلطة. ومن حق أصحابه على سلطتهم، وعلى معارضتهم أيضاً، أن
يسمعوا أقوالاً، بل أن يروا أفعالاً، تبين لهم آليات واضحة ومفصلة وجادة لاستعادة
أراضيهم المحتلة، غير تلك التي تلوم المحتل أو هيئة الأمم المتحدة التي لا تعيد لهم
هذه الأراضي على طبق من فضة.
(?) كاتب وناشر سوري
على الأرجح أنّه لم يحظ إنسان مؤخراً بالاهتمام
والتحليل بقدر ما حظي سماحة السيد حسن نصر الله،
الأمين العام لحزب الله اللبناني، وذلك ليس في لبنان
أو الشرق الأوسط وحسب، بل في العالم أجمع.
في لبنان، كنّا نسمع
أسئلة كهذه تطرح بين الناس:
هل ارتكب الرجل خطأً
فادحاً عندما قام بأسر الجنديين الإسرائيليين؟ ألم
يتعلم من الدرس الذي لقنّته إسرائيل لغزّة لقاء أسر
المقاومة الفلسطينية لجندي إسرائيلي واحد؟ هل كان
مأموراً؟ لو طلب منه آنذاك أن يوقف الحرب، هل كان
سيمتثل؟ إلى متى كان ليستطيع هو وأنصاره أن يبقوا
صامدين؟ قد يكون هو قد اختار درب المقاومة، أما
الآخرون فلا، هل يحق له جر البلاد بمفرده إلى أتون حرب
لا يعلم مداها إلا الله؟
أما وقد انتهت الحرب
الآن، فمن أين له بكل هذه السيولة النقدية، وكيف
استطاع أن يعوّض على الضحايا بهذه السرعة الخيالية؟
وفي خطابه الأخير، لماذا قام بدعوة العرب والمسلمين
لاستجماع قواهم استعداداً لمواجهة محتملة، ألم ينزف
لبنان بما يكفي بالنيابة عن هؤلاء؟
أمّا على الصعيد
العربي والإسلامي، فالتساؤلات كانت أشبه بالآتي:
من هو هذا الرجل؟
وهل هو عبد الناصر جديد؟ وما هي انعكاسات تجربته
المثيرة على حكام العرب؟ وإن كان هو قد نجح بالقيام
بكل هذا، فماذا يمنع غيره من الحذو حذوه؟
ليس من الضروري
محاولة الإجابة على جميع هذه الأسئلة من أجل التوصل
لفهم الرجل بصورة أعمق، وقد يكون هو نفسه غير مكترثً
بها. ولو سلمنا جدلاً أنه قد اقترف خطأً يوم الثاني
عشر من تموز عام ,2006 فهل اقترف غيره بدءاً من الثالث
عشر؟
شخصياً، لم أكن قد
ولدت بعد في نكبة 1948 أو هزيمة 1967؛ وعليه لا يمكنني
الاستيعاب الدقيق لمشاعر الإحباط والمرارة التي عانى
منها مئات الملايين من العرب والمسلمين في الحدثين،
والتي تجسّد جزء كبير منها على مدى السنين بانعدام
الثقة، وكره الذات، بل وأكثر من ذلك، الإعجاب
بالجلاّد.
ولا شك بأن معظم
أحداث القرن الماضي لم تسهم في دحض هذه المشاعر وإعادة
الثقة، فعلى العكس، كان معظمها، وإن لم يكن كلها، قد
عززها على المستويين العربي والإسلامي. ويكفينا أن
نتذكر: الحروب الأهلية في لبنان منذ 1975؛ الحرب
العراقية الإيرانية عام 1981؛ الاجتياح الإسرائيلي
للبنان عام 1982؛ الحرب على العراق عام 1991؛ وعلى
أفغانستان عام 2001؛ وعلى العراق مجدداً عام 2003؛
وتولت الولايات المتحدة الأميركية القيادة المباشرة
للحروب الثلاث الأخيرة.
لقد أحبط العرب بهذه
الهزائم لدرجة أنهم نسوا أو تناسوا كل إنجازاتهم
الإيجابية في ذلك القرن المنصرم، كتأميم قناة السويس
وما تلاه من مقاومة وإخراج ثلاثة جيوش أجنبية من مصر
عام ,1956 ثم بناء السد العالي. كما نسوا أو تناسوا
حرب أكتوبر 1973 وتحطيم الجيش المصري لأسطورة الجيش
الإسرائيلي الذي لا يُقهر عند عبوره لقناة السويس،
وتدميره لخط بارليف.
بل هناك من تجاهل
ولادة الثورة الفلسطينية التي أعادت الروح إلى قضية
فلسطين، ووضعت ملف قضيتها في سلم الأولويات الدولية،
ومنحت الأمل من جديد في استرداد الوطن لشعب كان قصارى
ما يحصل عليه بعض المعونات من وكالة الغوث. ونجحت
الثورة في رفع شأن القضية الفلسطينية من قضية لاجئين
إلى قضية شعب مناضل.
وأكثر من ذلك كله
وصل الإحباط بالبعض إلى درجة التقليل من أهمية النصر
التاريخي وغير المسبوق للمقاومة اللبنانية في تحرير
جنوب لبنان ودحر الجيش الإسرائيلي بلا قيد أو شرط ،
سنة .2000
إن هذا العجز، والذي
أصبح مع الوقت عجزاً متعمداً أكثر منه مكتسباً، عن
رؤية هذه الإنجازات، سيكون من شأنه كذلك، دفن الرؤوس
في الرمال مجدداً والإغفال عن نصر .2006 ويبدو أن مِن
بيننا مَن أصبح يتقبل الهزيمة بسهولة أكثر من النصر،
ويعارض قيام أي مقاومة، ويسعى لإجهاضها إن هي قامت
فعلاً، لأنه يرى أنه ليس لها الحق بالولادة في مجتمعات
اعتادت الهزيمة والذل!
لقد دحض نصر الله
هذا المنطق. وربما لهذا السبب يقوم البعض اليوم بكل
هذا التشكيك حياله. كل ما يفعله الرجل أنه يتحدّى
الأمر الواقع، والكثير منا لا يريده أن يفعل ذلك. نريد
أن نبقى كما نحن، أن نسمح للآخرين أن يقوموا بالتفكير
والتصرف بالنيابة عنا، طالما أنهم يعيدون إلينا الفتات
من أموال مواردنا.
ليس حسن نصر الله من
يجب أن يخضع للتحاليل النفسية، بل أصحاب هذا المنطق،
فخطأ الرجل الوحيد هو أنه لا يشبه معظم الذين يتصدون
لتقرير مصائرنا، حيث أنه رفض أن تنال كل الأحداث
التاريخية من صوابية تمييزه بين الحق والباطل. واتخذ
لنفسه نهجاً صادقاً، حيث أنه ينفذ ما يعد به، وشهد له
بذلك العدو قبل الصديق.
وفي العودة إلى حرب
,2006 ما من أحد ينكر أن الخسائر الإنسانية
والاقتصادية مهولة، وأن مستقبل الاستثمارات في الوطن
أصبح مهدداً. لكن، ومع الأسف الشديد، ما الجديد في
ذلك، أو ليس هذا هو حال لبنان، بل والعديد من الدول
العربية، وخاصة دول الطوق، منذ قيام إسرائيل سنة 1948
حتى لحظتنا الراهنة؟ أي منذ أكثر من خمسين سنة، وقبل
أن يكون السيد نصر الله قد أبصر النور؟ هل نعود
لسلبيتنا ونضع اللوم على حزب الله، مخافة أن نلوم
العدو الحقيقي، ونعتبر الحزب منهزماً حتى عندما ينتصر؟
هل اعتبر الشعب الفرنسي مقاومته منهزمة بسبب الخسائر
الجمّة التي تعرض لها على أيدي النازيين؟ فلولا هذه
المقاومة لما كان ديغول وبالتالي شيراك اليوم رئيساً
لفرنسا.
وما زال البعض يصّر
على أن الحرب انتهت بهزيمة وليس نصراً، وأنها وضعت
أوزارها بسبب التدخلات الأجنبية وليس بسبب صمود الشعب
والمقاومة، وأن بيروت بقيت محيّدة بسبب صداقة بعض
أبنائها مع الغرب، وليس بسبب تهديد السيد نصر الله
بضرب تل أبيب إذا ما تعرضت بيروت لأي هجوم! كما ويذهب
البعض لحد اتهام الرجل بأنه قام باتفاقات سريّة مع
أطراف خارجية حمته من تكنولوجيا الاغتيال الإسرائيلية
والأميركية التي لا تخطئ.
يخشى هؤلاء المحبطون
حتى تنسم بوادر نصر ما، ويرون في الهزيمة والاستسلام
ضمانة للسلامة والاستقرار! أما النصر فيترتب عليه
واجبات وضرائب غير مرغوبة، متناسين بذلك قول مارتن
لوثر كينغ، السياسي الأميركي الأسود الذي كان ناشطاً
في موضوع المساواة والمطالبة بالحقوق المدنية
للأميركيين السود، بأن السلام لا يكمن في انعدام الحرب
بل في تواجد العدالة. وهنا، وفي العودة إلى أحد
الأسئلة الأولى، نجيب أنه ربما يكون السيد نصر الله قد
ارتكب خطأً تكتيكياً عندما أسر الجنديين ولم يعتبر من
تجربة غزّة، ولكنه اعتبر من تجربة فلسطين الأوسلوية
الفاشلة كلها، والتي كبّدت الشعب الفلسطيني أيام
الهدنة المفترضة مع إسرائيل أثماناً أكثر مما دفعه
طيلة سنوات حروبه.
ويختلف المحبطون
اللبنانيون مع العديد من نظرائهم الإسرائيليين الذين
يعتبرون بدورهم أن إسرائيل هي التي هزمت في الحرب،
مطالبين بمحاكمات ومحاسبات ومقلّصين شعبية رئيس
وزرائهم إيهود أولمرت إلى 7 في المئة، بعدما كانت تفوق
80 في المئة في بدايات الحرب. إنها حقاً مقاربة مثيرة
جديرة بالاهتمام، ربما لأول مرّة في التاريخ نشهد
شعبين في دولتين متعاديتين يتنافسان على الهزيمة،
عوضاً عن النصر.
بالرغم من هذا كلّه،
لا يسعنا إلا تقبل وجهات نظر بعضنا البعض، مهما كان
هناك من تباينات في تقييم نتائج الحرب، فنأمل على
الأقل ألا يكون هناك خلاف على النية في الإصلاح،
ومداواة الجراح. وهنا، واستناداً للمنطق نفسه، نؤكد من
جديد أن العلاج لا يحتاج لاجتراح المعجزات، أو أخذ
الإذن من أحد. فلنبدأ بالإصلاح، كل على طريقته، وليس
بالضرورة على طريقة السيد نصر الله، ولكن فلنبدأ.
فلنتعلم من هذا
الرجل المميّز، حتى ولو كان بعضنا غير متفق معه.
(?) مهندس لبناني
صلاح الدين حافظ
نحن امام ثلاث حالات تتوالى فصولها على مر الايام. وهي حالات الانقسام فالتقسيم ثم الاقتسام...
وكما تلاحظون فإن الكلمات الثلاث المعبرة عن الحالات الثلاث المعنية، تنبع من جذر لغوي واحد، ولكنها تؤدي في النهاية الى نتيجة واحدة محددة، هي فك الوحدة وصولا للانفصال!
ونظن ان تطورات الأحداث في المنطقة، تترجم الأوضاع بدرجة دقيقة، دقة الجراح الماهر الذي يجري جراحة في الجسد العربي، ليصل الى النتائج التي يريد هو الوصول إليها، حتى لو مات المريض!
دون دخول في الألغاز، فإن مخطط تفكيك دول المنطقة واعادة تشكيلها في شكل دويلات او كانتونات جديدة، يجري بسرعة شديدة، ربما بأسرع مما تصور الجميع، في ظل النظرية الاميركية المنتشرة، وهي الفوضى الخلاقة، اي إحداث اعمق انواع الفوضى التدميرية، لتسمح بتدخل دولي او اميركي بمعنى اوضح، يعيد تركيب المفككات على النحو المراد!
والأمر يبدأ بزرع فتنة الانقسام بين الشعب الواحد، وترويج الخلاف بين طوائفه على أسس عرقية، او مذهبية دينية وطائفية، ما يؤدي الى التنافر وفك الوحدة، ثم تبدأ المرحلة الثانية وهي ايصال هذه الطوائف والفرق المتصارعة الى حتمية تقسيم الوطن الواحد بينها، وتحويل الدولة الواحدة الى عدة دويلات، تقسيم في النهاية للثروة وتوزعها في ما بينها توزيعا طائفياً ايضا، بما يعكسه ذلك من ضعف وهزال!
ولن نحتاج لجهد كثير لتطبيق ذلك على أرض الواقع المعيش، في ظل التطورات الجارية امام الجميع الآن...
وسوف نختار نموذجين فقط، ليكونا مجالا للاستشهاد حول نظرية الانقسام فالتقسيم ثم الاقتسام... فإذا ما أجلنا الى حين مخطط تقسيم دول مهمة مثل لبنان، الاكثر قابلية لصراع الانقسام، ومثل سوريا ومصر والسعودية، بل ودول المغرب، في ما بين السّنة والشيعة، او بين المسلمين والمسيحيين، او بين العرب والبربر، فإن النموذج العراقي ثم النموذج السوداني، هما الآن يقعان على مائدة التقسيم دون مواربة او نعمية...
?? يظل الوضع العراقي هو الاكثر سخونة وتعجلا نحو التقسيم، وأمامنا عدة مظاهر واقعية تحدد ذلك هي:
أولاً: إذا كان الاحتلال الاميركي للعراق، وهو في عامه الرابع، قد انجز شيئا مهما، او حقق هدفا استراتيجيا، بعد اسقاط نظام الرئيس السابق صدام حسين، فهو قد انجز ايقاع العراق والعراقيين في حرب أهلية حقيقية، قتلت حتى الآن 655 ألف عراقي وفقا لدراسة جامعة <جون هوبكنز>الاميركية الحديثة، وجرت الجميع نحو التنافر الدموي، وحققت الانقسام الواضح في ما بين السّنة والشيعة والأكراد...
? ? ?
ثانياً: في ظل الاحتلال يجري العراق نحو المنظومة الثلاثية، الانقسام فالتقسيم ثم الاقتسام، فقد أقر البرلمان العراقي قبل ايام، نظام الفدرالية، الذي يكرس تفكيك العراق كما تراه اطراف معينة مثل السّنة والتيارات السياسية العلمانية، او يؤدي الى <تدعيم الوحدة>كما تدعي الاطراف الاخرى المطالبة بالفدرالية!
وفي النهاية فإن نظام الفدرالية الذي اقر، يعني تقسيم العراق الى ثلاثة كانتونات، تشمل تسع محافظات في الجنوب تضم اغلبية شيعية، وثلاث محافظات في الشمال تضم اغلبية كردية، ثم خمس محافظات في الوسط تضم اغلبية سنية...
ثالثاً: ولان الادارة الاميركية بزعامة الرئيس بوش وعصابة المحافظين الجدد المتطرفين من حوله، متلهفة الى <الخروج الاميركي الآمن والكريم>من الورطة العراقية الدامية، فإنها تعمل جاهدة على تكريس نظرية التقسيم وصولا للاقتسام بعد نجاحها في زرع الانقسام، ولذلك فإنها تستمع الآن بعناية ولهفة للتقرير المهم الذي اعدته لجنة اميركية على أعلى مستوى بتكليف من الكونغرس، وتضم متخصصين من الحزبين الجمهوري الحاكم والديموقراطي المعارض، برئاسة جيمس بيكر وزير الخارجية الاسبق...
وخلاصة تقرير بيكر تقول وتوصي بضرورة اللجوء الى حل تقسيم العراق الى الكانتونات الثلاثة السابق ذكرها... ثم ترك الامر للعراقيين يدبرون امورهم، حتى تنسحب القوات الاميركية في أمان!!
رابعاً: وفقاً لمخطط الانقسام فالتقسيم، فإن الكانتونات الثلاثة تقتسم الثروة النفطية، وهي الثروة الرئيسية، كل يأخذ ما يقع في حدوده الجغرافية...
والمعنى ان الكانتون الشيعي في الجنوب يسيطر على نفط الجنوب، وهو المخزون الرئيسي، والكانتون الكردي يسيطر على نفط الشمال، الثاني من حيث المخزون، بينما يسيطر الكانتون السني في الوسط على لاشيء لان الوسط يخلو عمليا من النفط.
وعلينا ان نتخيل اوضاع المستقبل، وصراعاته المؤكدة، في ظل هذا الوضع الذي يترجم عادة، باقتسام السلطة والثروة... والمعنى ان العراق، الدولة الموحدة صاحبة اهم مخزون نفطي بعد او قبل السعودية، قد انتهى جغرافيا وسياسيا واقتصاديا...
?? أما الوضع السوداني، فهو لا يختلف كثيراً عن الوضع العراقي، بل انه يتشابه ويسير معه وفي توقيت واحد، وفق نظرية الانقسام فالتقسيم ثم الاقتسام...
فبعد حرب اهلية دامية في جنوب السودان، امتدت لنحو ثلاثين عاما او يزيد، بين الحكومة المركزية في الخرطوم، ومتمردي الجنوب، بقيادة الحركة الشعبية، تحت زعامة جون فرنق ثم سيلفاكير، وبفعل تدخلات خارجية سافرة، سواء من دول الجوار، او من المدار الاوروبي الاميركي، جرى زرع فتنة الانفصال وروح التقسيم، وفق أسس عرقية ودينية، <عرب وافارقة، مسلمين ومسيحيين>، ساعد على اذكائها قصور المعالجة السياسية الوطنية، واللجوء للحلول العسكرية، من جانب الحكومات السودانية المتعاقبة للأسف، التي يجب ان تتحمل المسؤولية الاولى...
روح الانقسام وفتنة الانفصال رفعت ولا زالت ترفع شعار تقسيم السلطة والثروة، بعد رسوخ روح الانقسام، وهو شعار يبدو ايجابيا وبراقا في ظل وحدة الدولة، لكن الحقيقة انه يدفع نحو التقسيم والانفصال الفعلي غدا او بعد غد...
ونتيجة لفشل الحل العسكري <المؤكد>، وفي ظل ضغوط اجنبية عاتية، مع فشل اي حلول وطنية وحدوية من جانب الحكومات السودانية، جرى فرض توقيع اتفاقية <نفاشا>بين الجنوبيين وحكومة الخرطوم لايقاف الحرب الاهلية هناك، وفق أسس ستقود حتما من وجهة نظرنا الى تهيئة الأرض لانفصال الجنوب، بعد ست سنوات من التوقيع...
وسرعان ما سرت روح الانقسام، طلبا للتقسيم والاقتسام، بذات المنطق والأساليب والأهداف، الى غرب السودان <اقليم دارفور>، ثم الى الشرق السوداني، فجاء توقيع اتفاق <ابوجا>بين حكومة الخرطوم وبعض اهم المنظمات المحلية المقاتلة في دارفور، قبل شهور، ثم جاء توقيع اتفاق <اسمرا>يوم السبت الماضي مع المنظمات المماثلة المتمردة في شرق السودان...
? ? ?
وبقدر ما رحبت اوساط سودانية وعربية كثيرة، بهذه الاتفاقيات الثلاث، باعتبارها طريق التسوية وإقرار السلام في ربوع السودان، اكبر دولة عربية وافريقية من حيث المساحة والامكانات الاقتصادية الواعدة، فإننا نعتقد انها طريق للهروب الى الامام، بتسويات سياسية موقتة جرت بضغوط دولية عاتية، تؤدي في النهاية الى تنفيذ المنظومة الثلاثية: زرع الانقسام في الوطن الواحد، ثم التقسيم وفق أسس عرقية وطائفية، وصولا لاقتسام السلطة والثروة اساساً، خصوصا في اقاليم الجنوب ودارفور، الغنية بالنفط والماء والمعادن واليورانيوم وغيرها...
والخلاصة... اننا امام نجاح فذ لنظرية الفوضى الخلاقة الاميركية، القائمة على اذكاء الحرب الاهلية والصراعات العرقية الدينية الطائفية، في العراق والسودان، وفي توقيت واحد، وإن بأساليب مختلفة شيئا ما، وصولا للنتيجة المحددة، وهي تحقيق الانقسام فالتقسيم فالاقتسام...
وهي نتيجة مطلوب تعميمها في الساحة العربية عموما، وتطبيقها خصوصا على الدول العربية الكبيرة، مثل مصر والسعودية والجزائر والمغرب، وعلى الدول الاخرى ذات القابلية للانقسام والتقسيم، بحكم تكويناتها العرقية والمذهبية، مثل سوريا ولبنان والصومال واليمن وليبيا، وحيثما تكون هناك مصادر قوة او مخازن ثروة...
وإذا كان الهدف الغربي الاستعماري، بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، واضحا وهو تفكيك المنطقة وتقسيمها، كما حدث في ظل الاستعمار الاوروبي القديم مع بدايات القرن العشرين <خصوصا اتفاق سايكس بيكو الشهير>، وصولا لاعادة بناء المنطقة وفق مشروع الشرق الاوسط الجديد، تحت الهيمنة الاميركية والقيادة الاسرائيلية، فما هو الهدف او المشروع العربي المضاد، غير مشروع الاستسلام التام قبل الموت الزؤام!!
للأسف، حتى اللحظة، ليس في الأفق اي ملامح لمشروع عربي مضاد، خارج نطاق صراخ الميكروفونات وضجيج التصريحات، الصادرة عن مراكز الحكم وسلطة النظم، بعد ان تخلت عن ابسط قواعد التجمع لحماية الأمن القومي المشترك، وتسابقت نحو مراكز الاستعمار الغربي الجديد، طلبا للحماية او طلبا للرضا السامي رعاية لتحالف الفساد والاستبداد السائد والقائد والرائد...
فإن كانت النظم العربية الحاكمة قد تراضت ورضيت بهذه الاوضاع، رغم اقتراب المنظومة الثلاثية للانقسام فالتقسيم والاقتسام، من رؤوس الجميع، وإن في توقيتات مختلفة ومؤجلة، فماذا عن الشعوب المستكينة، كيف يفك المقهور قيد قهره...
هذا حديث مؤجل!
? ? ?
?? خير الكلام: يقول الإمام الشافعي:
<ومن الدليل على القضاء وكونه >بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق>.
(?) كاتب مصري