المؤتمر العربي العام الرابع

 

بيروت – 30 آذار/مارس 2006

 

 

نصر شمالي - سورية


 

 

بلغ الصخب الإعلامي والسعار العسكري حداً يكاد يطغى تماماً على المشهد الإقليمي والدولي، فالديكتاتورية الأميركية تملي على بعض ضحاياها مفردات خطابهم السياسي ضدّها وتحّدد لهم خطوات مواجهتهم الميدانية لها، فيستجيبون ويا للعجب، أما هاجسها الرئيس فهو تجريد المشهد من أي بعد تاريخي، وإفراغه من أي مضمون إنساني قومي أو أممي، والتعتيم على التطور النوعي الذي طرأ على بنية أمتنا فجعل مقاومتها شديدة الفعالية وغير قابلة للنكوص.

إن الخروج من أسار حدود اللحظة الراهنة سوف يجعلنا نرى على الفور أن المواجهة الحالية الكبرى ليست في جوهرها سوى تكرارا ًمتقدما لتلك المواجهات التي توالت على مدى القرن الماضي، فإذا كان الامر كذلك، وهو كذلك حقاً، فإن أول ما يجب أن نلاحظه هو التطور الذي ظل يطرأ على أحجام القوى المتقابلة، من مواجهة الى أخرى، فالخط البياني لحجم القوى المتقابلة ظل في صعود مستمر، من حيث التعداد والعتاد، وبالطبع فإن ما استدعى صعود الخط البياني، على الرغم من كل شيئ، هو تقدم أمتنا وليس تراجعها، إذ لو أنها تتراجع لكان الخط البياني في هبوط وليس في صعود، وذلك يعني أن البنية التاريخية التحتية المشتركة للأمة كلها، التي كانت هدفاً رئيسياً للعدوان على مدى القرن الماضي، قد صمدت أمام جميع محاولات تفتيتها وتبديدها، على الرغم من نجاح الأعداء في تجزئة بنيتها الفوقية، السياسية والجغرافية. إنه يعني أن البنية التحتية، الاجتماعية التاريخية، ظلت موحّدة وممتنعة على محاولات اختراقها،فهي تقاوم مثل هذه المحاولات من جهة، وتناضل لاسترداد بنيتها الفوقية، المسلوبة والمبعثرة، من جهة أخرى، وفي هذا ما يفسر لنا تصاعد أحجام القوى المتقابلة من جولة الى أخرى!

الصحوة الإسلامية والقومية:

لقد تحققت هذه الصحوة التي نشهدها اليوم، والتي تجسدها المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، بفضل متانة البنية التاريخية التحتية المشتركة للامة كلها،وبفضل تجاوز بعض أطرافها منذ سنوات طويلة مرحلة البدايات،مرحلة الارتباك، والتخبط، والفجاجة، والخطاب السياسي القاصر، والأداءالميداني الأخرق، وبلوغهم مرحلة النضج بكل أطيافهم الوطنية والقومية والاسلامية، لقد زال خطر الانكفاء الذاتي والموضوعي، ولا يضيرهم في شيئ أن أطرافاً مهمة أخرى لم تلحق بهم بعد، لأنها ستفعل بالتأكيد، إن عاجلاً أو آجلاً .

إن الصحوة تبرز بأبهى صورها في الساحة الفلسطينية، على الرغم من أن فلسطين تعتبر الحلقة الأضعف في المشهد العربي والإسلامي، حيث القوى الفلسطينية المجاهدة تشكل اليوم رأس الحربة، والخندق الأمامي، والرافعة التاريخية للوضع العربي والاسلامي عموماً، ولا غرابة أن تكون كذلك وهي التي نجحت في إبقاء الكيان الصهيوني مجرّد مشروع قابل للإنكفاء،لأنها منعته من تحقيق أي تقدّم نوعي، حاسم ونهائي، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو المشروع الذي انطلق من فكرة أن الفلسطينين لا وجود لهم، وقد أراد الأميركيون واليهود استئصال الفلسطينين، تأكيداً للفكرة المسبقة التي تقول بعدم وجودهم!

اليوم، على الرغم من الضجيج الذي يصم الآذان، ومن مؤامرات الصمت المطبق، يبدو واضحاً لكل ذي عينين من هم أصحاب فلسطين حقاً وفعلاً، الذين يدافعون عنها وعن وجودهم فيها بأظافرهم وبأجسادهم العارية، ومن هم المدّعون المرتزقة الذين يعملون في ركاب المستعمرين الاميركيين، ويحتمون خلف الدبابات  والطائرات الاميركية الجبارة، ويفضحون استعدادهم للرحيل في حال تخلّي الأميركيين عنهم. وإذن، فإن الخط البياني للمواجهات، منذ عام 1948 وحتى اليوم ,هوفي صعود مستمر، وهذا يعني أن الأمة تتقدم.

مغزى العودة الى الاستعمار المباشر:

من الأدلة القاطعة على صعود الخط البياني للمواجهات المتوالية بين أمتنا وأعدائها هذا الحضور الاميركي المباشر في منطقتنا، سواء في العراق أم في غيره، بكل ضخامته وثقله وجبروته . إن البعض يجأرون يالشكوى ويتأوهون وهم يتابعون القوات الاميركية الهائلة تتدفق على بلادنا في عودة صريحة الى حالة الاستعمار المباشر، غير أن ما يزعجهم هو بالذات ما يزعج أيضاً واشنطن التي تفضل ألف مرة إدارة حرب يخوضها الآخرون نيابة عنها وبإشرافها، وخاصة إذا كانوا من أهل المنطقة ذاتها. إن اضطرار الإدارة الأميركية للحضور ميدانياً بجيوشها الجرّارة ليس في مصلحتها مهما بلغت قوتها التدميرية، حيث ذلك يعني تاريخياً أنها تخوض معركتها الأخيرة بعد أن استنفدت جميع الأساليب والأنساق والوسائل الأخرى، وعلى سبيل المثال، فقد خذلها الكيان الصهيوني الذي عجز عن استئصال الفلسطينين منذ سنوات ظهوره الاولى، والذي تقهقر في الجبهة اللبنانية خاسئاً مهزوماً تحت ضربات المقاومة الباسلة بقيادة حزب الله، فبرهن بالتالي أنه ليس مؤهلاً لاحتلال موقع الإدارة الاقليمية بالنيابة عنها، ولذلك ألحقته في عداد قواتها وهي تكظم غيظها من فشله، وتقف عارية أخلاقياً وسياسياً أمام الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين وشعوب الأرض قاطبة بما فيها الشعب الاميركي!

ثم ان العراق يتصدى للزحف الاميركي بقواته النظامية بالدرجة الاولى، أي ببنيته الفوقية بالدرجة الاولى، بعد ان تحولت هذه القوات النظامية إلى استراتيجية المقاومة، أما البنية التحتية الشعبية فهي الاحتياطي الذي لا يعرف العدو شيئاً عن دوره القادم في المعارك. إن العراق ببنيته الفوقية، يقف اليوم في الخندق الأمامي وفي مقدمة قوى المقاومة الوطنية والقومية والاسلامية والأممية، فهو محط أنظار واهتمام العالم أجمع، وهو ميدان هذه الجولة العظمى المتقدمة من جولات الأمة على مدى القرن الماضي، ولاتغيّر في أهمية ذلك تاريخياً نتائج المواجهة، سلبية أم ايجابية, لأن هذه المواجهة تمثل صعود اً متميزاً في الخط البياني للمواجهات، وتمهد مباشرة لجولة الحسم الأخيرة.

المعارك ضرورية وإن لم نربحها:

إن استرداد الأمة لبناها الفوقية المسلوبة ليس بالمهمة التي يمكن إنجازها في جولة واحدة وفي فترة زمنية قصيرة، بل هي تحتاج الى زمن طويل والى عدد غير محدّد من الجولات غير الحاسمة . إن الأمة، عبر الجولات المتوالية، حتى غير الناجحة، تحقق تطوّر وعيها لذاتها وللعالم، وتصلّب بنيتها التي أصابها وهن شديد خلال مئات السنين الماضية، وتمكنها من امتلاك الجدارة الضرورية التي تفتقدها والتي من دونها لن تحتل موقعاً لائقاً في المستقبل، وإن هذا بمجمله هو عين ما حدث ويحدث، وعين ما يشير إليه الخط البياني التاريخي الصاعد.

إن هذه الحرب المفتوحة على جميع الجبهات، وفي جميع الميادين، تضع الأمة أمام خيار وحيد، هو خيار خوضها، وهي تخوضها وسوف تستمر في خوضها جولة فجولة، في هذا القطر أو ذاك، ليس لأنها لاتملك خياراً آخر فحسب أو لأن الحرب مفروضة عليها فحسب، بل لأنها تريد أن تربحها وإن بعد عدد كبير من الجولات غير الحاسمة، أما الذين يتوهمون إمكانية إحراز الجدارة والاحترام والتقدم من دون خوض هذه الحرب المفتوحة فانهم لا يفعلون سوى إطالة أمد عذاب أمتهم ومضاعفة حجم خسائرها.

البعد الأممي للتجزئة والوحدة:

ليست قضية الوحدة والتجزئة مجرّد هاجس عربي واسلامي داخلي، فمثلما للوحدة ضروراتها العربية والإسلامية فإن لها أيضاً ضروراتها الأممية العالمية في المستقبل، وأيضاً مثلما للتجزئة وظائفها وضروراتها في النظام العربي الرسمي القائم فإن لها وظائفها وضروراتها في النظام الدولي، حيث تجزئة الوطن العربي تشكل ركناً أساسياً من أركان وحدة هذا النظام الاحتكاري العالمي، وحيث وحدته تشكل رصيداً إيجابيا قوياً لصالح علاقات أممية متكافئة ومتوازنة يحققها بالفعل حضور العرب المغيبيّن . إن العالم يفتقد أمتنا التي أحدث غيابها خللاً خطيراً في بنيته وتوازنه.

وهكذا، فإن نضال العرب من أجل استكمال وحدتهم( ولتكن على الطريقة الاوروبية) هو بداهة نضال من أجل التأسيس لنظام دولي نظيف وعادل، والأعداء عندما يسهرون على حراسة التجزئة في بلادنا، بل ويسعون لتوسيع نطاقها كي تشمل الأخلاق والعادات والثقافة والعلاقات اليومية، فإنهم بذلك ينهضون بعبء أساسي من أعباء عملية حماية وحدة نظامهم الربوي الدولي. ويمكن القول أن جميع محاولاتنا وتجاربنا الوحدوية في القرن العشرين، التي لم يقدّر لها النجاح، كانت محكومة بسوية وعينا لأبعادها الدولية والأممية، وهي سويّة كانت قاصرة بالطبع، إضافة الى ضعف الجاهزية البنيوية قياساً بالقوى المقابلة، أما اليوم فإن الطريق إلى الوحدة تبدو واضحة بفضل المقاومة التي أفرزتها البنية التاريخية الموحدة للأمة.

المواجهة العامة للديكتاتورية الاميركية:

لقد انطلقت واشنطن بإصرار على طريق إقامة ديكتاتوريتها الدولية، فاصطدمت كما هو متوقع بمقاومة جميع الكتل الأممية، غير أن اصطدامها بكتلة الأمم الاسلامية، والعرب منها في القلب، كان رئيساً ومتميزاً، وهي توقعت مثل هذا الاصطدام منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعدت له مايتفق مع أهميته، حيث الكتلة الاسلامية تقع في معظمها ضمن حوض المحيط الهندي الذي يحتوي على معظم الثروات المادية والبشرية العالمية. ولقد كانت المواجهة مع الكتلة الاسلامية، وفي مقدمتها العرب، متداخلة ومعقدة ومتناقضة، حيث الاشتباك الاميركي مع هذه الكتلة يهدف الى تأمين الهيمنة على ثرواتها من جهة، ويهدف من جهة ثانية الى جعلها أهم مرتكزات نهوض واستقرار ديكتاتوريته الدولية. وهكذا فإن العرب والمسلمين هم أول وأهم ضحايا الديكتاتورية الاميركية، وهم في الوقت نفسه من تريدهم أول وأهم مرتكزاتها وعوامل ثباتها ونجاحها! غير أن هذا الذي يبدو عملاً هجومياً أميركياً من الطراز الأول هو في حقيقته الجوهرية عمل دفاعي لاهجومي. إنه الهجوم ظاهرياً في معرض الدفاع عملياً. إن النظام الربوي الدولي الذي تدافع عنه واشنطن، بمساعدة الانكليز واليهود فقط، قد بلغ نهاياته القصوى، وهو يترنح فعلاً.

المدينة العالمية الواحدة:

لقد عقدت في الولايات المتحدة قبل أيام ندوة كان العراق موضوعها، وكان من أهم المشاركين فيها مستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، الذي يعتبر من أبرز السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين الأميركيين، والذي يصفه الفرنسي جان بيير كوت قائلاً: إن هدف بريجنسكي هو الحفاظ على الموقع المتفوق للغرب الرأسمالي الصناعي في العالم، والحفاظ على موقع الولايات المتحدة المتفوق في الغرب المتقدم وفي العالم عموماً!

كان بريجنسكي من أوائل الذين طرحوا سياسياًَ فكرة "المدينة أو القرية العالمية الواحدة" ومن السباقين في العمل على أساسها، فقد صدر له في أواخر ستينات القرن الماضي كتاب بعنوان "بين عصرين" شرح فيه أن عالم اليوم هو مدينة واحدة، من يعيش فيها يجب أن يخضع لقوانينها، وأنها مدينة تحكمها نخبة عالمية ارستقراطية، سياسية واقتصادية، تقيم في الحيّ المركزي، الذي هو الغرب أو الشمال، وتحيط به أحياء مغلقة هي دول الجنوب، دول مثل أحياء الصفيح التي يقطنها أكثرية من الفقراء، والجماعات الدينية المختلفة، وعصابات الجريمة! ونفهم من شروحات بريجنسكي المعقّدة أن النخبة الأرستقراطية العالمية الحاكمة لا تتطلع إلى تغييرات إنسانية إيجابية، بل لا تمانع بعلاقات دولية أكثر قذارة، شرط أن تكون أكثر انضباطاً، أي أنها تتطلع إلى ترتيب الوضع الراهن وضبطه بغض النظر عن فساده! وقد نصح بريجنسكي بمأسسة الفقر والجريمة، معتبراً أن وجودهما لا مفر منه إن لم يكن ضرورياً، فقال: إن سلطات المدينة العالمية تفضّل التعامل مع الجريمة المنظمة لا مع الجريمة الفوضوية! وشرح أن أساليب التعامل تشمل الحرب المحدودة المستمرة ضدّ الدول/ الحارات الجنوبية، تماماً مثلما تشنّ قوات الشرطة الأميركية غارات على أحياء الفقراء في المدن الأميركية، لتحدّ من فوضوية الجريمة وفلتانها وتعيدها إلى دائرة المأسسة التي يمكن تنظيم العلاقة معها!

العراقيون ضربوا المصداقية الأميركية:

نعود إلى ندوة العراق التي شارك فيها بريجنسكي، لنسمع أقواله ونرى مدى تطابقها مع نظرياته حول الإدارة النخبوية للمدينة العالمية الواحدة، فالمفترض أن الإدارة الأميركية شنت غارة بوليسية ضدّ الحارة العراقية، في نطاق الحرب المحدودة المستمرة ضدّ جرائم العالم السفلي الجنوبي، لكن بريجنسكي يقول أن هذه الغارة محكومة بالفشل بغض النظر عن الزمن الذي تستغرقه، ولذلك هو يدعو إلى فك الارتباط والانسحاب الشامل من العراق خلال سنة، أما عن الأسباب فذكر منها: النفقات المرتفعة المحرّمة، ونجاح التمرّد العراقي في ضرب شرعية ومصداقية الوجود الأميركي! وأما المقصود بالنفقات المرتفعة المحرّمة فهو عدم جني الأرباح المفترضة من الحرب، بل تعّرض التوظيفات المالية الهائلة للضياع، والتي بلغت مئات المليارات من الدولارات ويقال آلاف المليارات!

لقد اضطربت نظريات بريجنسكي بعد أن اهتزت الصورة التي رسمها للمدينة العالمية الواحدة المدارة من قبل أرستقراطية مركزية، وهاهو يعترف بأن الشعب العراقي نجح في ضرب شرعية ومصداقية الوجود الأميركي في العراق، ويتحدث عن الولايات المتحدة التي تخوض حرباً غير وطنية، بدليل عدم نجاح الإدارة في تحقيق تعبئة وطنية أميركية لصالح الحرب، تتضمن فرض ضريبة على الأغنياء، وفرض ضريبة حرب على الشعب، وفرض التجنيد الإلزامي، وبدليل فشل الرئيس بوش في شحذ الروح الوطنية الأميركية، كما يقول بريجنسكي، وفي هذه العودة إلى الوطنية الأميركية والوطنية العراقية تراجع عن فكرة المدينة العالمية والارستقراطية العالمية التي تحكمها!

المأزق تاريخي والإخفاق ممنوع:

لقد تحدث في الندوة الأميركية حول العراق أحد الجنرالات الذين اشتركوا في الحرب، فقال أن الحرب بدأت في اللحظة التي اعتقدوا فيها أنها انتهت! وتلك بالطبع إشارة إلى الأيام الأولى التي تلت احتلال بغداد، فقد اعتقدوا أنها الذروة والنهاية بعد الحصار المحكم المميت الذي استمر حوالي ثلاثة عشر عاماً، والذي اعتبروه الحرب في معظمها إن لم يكن كلها، وإذا بهم يجدون أنفسهم في البداية وليس في النهاية، فكان المأزق التاريخي الذي جعل بوش يردّد أن الإخفاق غير مسموح به، أي أنهم صاروا عرضة للإخفاق وما زالوا بعد ثلاث سنوات من الاحتلال! غير أن الرئيس بوش يبدو متمسكاً بمساره العام الذي يحتاج المضي فيه إلى نصف مليون جندي أميركي، وهو ما أشار إليه بريجنسكي، مدخلاً إياه في باب النفقات الحرام، مضيفاً أن الولايات المتحدة ليست في وضع يسمح لها بزيادة عدد القوات المحاربة، إضافة إلى أن ذلك لن يكون مجدياً، أي أنه لن يحول دون الإخفاق! وبناءً على ذلك دعا إلى التفكير واتخاذ القرارات بعقل بارد، فالحفاظ على مسار الحرب غير ممكن، وحتى تحويلها إلى حرب أهلية يبدو غير متاح، فالعراق لم يدخل فيها رغم أن الأميركيين يغذون هذا التوجه، وإذا نشبت الحرب الأهلية وانشغل العراقيون بأنفسهم عن الأميركيين فإن مضاعفاتها يمكن أن تكون أكثر تدميراً للمصالح الأميركية، فهي قد تخرج عن السيطرة لأن المظلة الأميركية المعدّة لاحتواء مثل هذه النزاعات مليئة بالثقوب كما يقول بريجنسكي!

فرصة لا تجوز إضاعتها:

ولكن، إذا كانت التكاليف الباهظة لمسار بوش السياسي والعسكري محرّمة، لأنها مجرّد خسائر فادحة بلا طائل، وإذا كانت الحرب الأهلية العراقية غير متاحة أولاً وغير مضمونة النتائج ثانياً، فما الحلّ؟ يقول بريجنسكي: في حرب الاستنزاف يكون المحتل الأجنبي دائماً في الوضع غير المواتي، وبما أن وضع الأميركيين هو كذلك فإن احتلال العراق فاشل مهما طال أمده، أما السياسيين العراقيين الذين يدعون لاستمرار الاحتلال فهم قيادة سيئة، وأما الصحيح فهو أن تطلب الإدارة الأميركية من القادة العراقيين أن يطلبوا منها الانسحاب! أضاف بريجنسكي: إننا نتصرف وكأن العراقيين رعايانا المستعمرون، الذين نعلمهم الديمقراطية عبر اعتقالهم وقصفهم وإذلالهم!

وهكذا نسمع اليوم أحد أبرز فلاسفة نظرية المدينة العالمية الواحدة، التي تتكون من حيّ أرستقراطي حاكم وأحياء تعجّ بالعصابات، والتي تدار بالحرب المحدودة المستمرة، أي بالغارات على طريقة الشرطة، وهو يعيد مرغماً الأمور إلى نصابها، فيتحدث عن الحرب الوطنية واللاوطنية، وعن المقاومة الوطنية للشعب العراقي الباسل، التي ضربت مشروعية ومصداقية الاحتلال، وبينما الحال كذلك، بمعانيه ومدلولاته الخطيرة المتعلقة بالمصير البشري عموماً، نجد البعض في بلادنا مشغولاً عنه بتفاصيل يومية لا قيمة لها، غافلاً عن ضرورة الإمساك بهذه الحلقة المتميزة من حلقات النضال الإنساني، التي يمكن أن يحقق الإمساك بها التأثير إيجابياً على مجمل السلسلة الدولية.

.