أزمة أنقرة مع المعارضة السورية وهدنة العيد


 يوسف الشريف

أنقرة
الأربعاء ٢٤ أكتوبر ٢٠١٢
قبل شهرين فقط، كانت أروقة السياسة والإعلام في تركيا تبدو متفائلة بتغيير محتمل في موقف واشنطن من الأزمة السورية بعد انقضاء الانتخابات الرئاسية الأميركية، باتجاه العمل على حسم المشهد، إما بتحريك مجموعة أصدقاء سورية لإنشاء منطقة آمنة في شمال سورية أو من خلال فتح باب تسليح المعارضة ودعمها مالياً وعسكرياً واستخبارياً حتى إسقاط النظام، لكن هذا التفاؤل تراجع لتحل محله عوامل التوتر على الحدود مع سورية وتبادل القذائف، كما بددت هذا التفاؤل مواقف المعارضة السورية المتشرذمة سياسياً وعسكرياً.
الصورة التي كانت شائعة لدى الأوساط التركية كانت تتلخص في أنه في حال توحيد مقدار أكبر من المعارضة السورية تحت مظلة المجلس الوطني الذي كان من المفترض أن يعيد بناءه الداخلي وهيكلته باتجاه توسيع المشاركة فيه، وبتوحيد كلمة الميليشيات العسكرية المسلحة للمعارضة على الأرض، فإن الساحة ستكون ممهدة لفترة ما بعد الانتخابات الأميركية التي ستشهد تحركاً حاسماً من واشنطن، لكن الجهود التركية في هذا الإطار باءت بالفشل لتجد أنقرة نفسها أمام اختبار جديد وربما أصعب مع مشروع هدنة العيد الذي أطلقه المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي، والذي اعتبره كثيرون في الأوساط التركية بداية تصحيح مسار للسياسة التركية بعدما فقدت الأمل في المعارضة السورية وإن لم تفقد الأمل في إسقاط نظام بشار الأسد، لكنها ربما بدأت تعيد حساباتها باتجاه القبول بجزء أصغر من كعكة الحكم الجديد في سورية.
فزيارة رئيس جهاز الاستخبارات المركزية «سي آي أي» ديفيد بترايوس بداية أيلول (سبتمبر) الماضي، اسطنبول شكلت خطوة لإنعاش التفاؤل التركي القديم، ووفق مصادر المعارضة السورية فإن بترايوس التقى عدداً من قيادات الجيش الحر والمجموعات المقاتلة على الأرض، من بينهم قائد لواء التوحيد عبدالقادر الصالح الذي ظهر للمرة الأولى علناً في اسطنبول بالتزامن مع زيارة بترايوس ليعلن سيطرة المعارضة على 70 في المئة من حلب والعمل على توحيد صفوف المجموعات المسلحة، ليتبع ذلك الإعلان عن تشكيل الجيش الوطني الحر الذي من المفترض أن يجمع كل الميليشيات المسلحة المعارضة ومن ثم تم دفع القيادات العسكرية للجيش الحر للانتقال إلى الداخل السوري لتكون على الأرض تراقب وتقود، وحينها أيضاً بدأ الحديث يتكاثر عن اجتماع مهم للمجلس الوطني السوري الحر في الدوحة.
بدا لبعض الوقت أن هناك استجابة أهم أطراف المعارضة السورية مع التحرك التركي لتوحيد الصفوف أمام المراقب الأميركي، لكن سرعان ما تبددت هذه الأجواء سواء بسبب التكتيك السوري على الأرض الذي عمل على جرّ تركيا إلى الصراع عبر قصف أراضيها، أو بسبب تفجيرات حلب التي تبناها تنظيم القاعدة والتي كانت بمثابة الرد القاتل على الجهود التركية لتوحيد القيادة العسكرية للمعارضة، لينتهي الأمر أولاً بتسريب مقالات في صحف غربية عن وقف إمدادات السلاح للجيش الحر والمجموعات المسلحة عقاباً لها على عدم توحيد صفوفها، وليتبع ذلك اتهامات لدول عربية بعينها بتمويل جماعات جهادية ودينية مقاتلة بعيدة من سيطرة الجيش الحر على الأراضي السورية، وليُختتم ذلك بتصريحات رسمية أميركية ودولية أبدت قلقها رسمياً من نشاط الجماعات «المتطرفة» التي تعمل عسكرياً على الأرض من دون أن يكون لأحد أي نفوذ على قراراتها أو أهدافها.
بدا من المشهد أن أي انتقاد لأداء الميليشيات المسلحة المعارضة على الأرض يحمل في طياته ولو في شكل غير مباشر انتقاداً لأنقرة التي راهنت على سيناريو الحسم العسكري، على رغم أنها هي نفسها من ترفض تزويد المعارضة بأسلحة مضادة للدروع وأخرى متطورة ضد الطائرات خوفاً من أن تقع بيد مجموعات إرهابية تستخدمها ضد مصالح تركيا لاحقاً، ولأنها أكثر المتضررين من دخول الإرهابيين على خط المواجهة سواء كانوا من تنظيم القاعدة أو من حزب العمال الكردستاني.
وبذلك، واجهت أنقرة صعوبات في تحقيق هدفها بإسقاط النظام السوري سريعاً من طريق الحسم العسكري، وبدا أن خيارها وضعها في زاوية ضيقة وتحت رحمة تصرفات المعارضة السورية السياسية والمسلحة، فيما بدت دمشق أمام خيارات أوسع للرد على هذا التوجه التركي، فسعت إلى جرّ تركيا إلى الحرب في رسالة تقول لجارتها الشمالية إنها تخطئ إن ظنت أن الحسم العسكري على الأرض سيكون محصوراً داخل حدود سورية، فيما صبت هجمات القاعدة التي زادت في حلب في مصلحة النظام السوري سياسياً وإن أدمته عسكرياً.
بعد ذلك جاءت صدمة تركيا من المعارضة السورية السياسية التي تبنتها سابقاً، مع كشف التيار الوطني السوري عما قال إنه وثائق مسربة من الاستخبارات السورية، وهي الوثائق التي أشارت إلى أن الرئيس السوري بشار الأسد أمر بقتل طيارين تركيين بعد إصابة طائرتهما الاستطلاعية بالقرب من الساحل السوري وسقوطها في المياه الدولية ونجاة الطيارين من الحادث، إذ اعتبرت أنقرة أن الكشف عن هذه الوثائق محاولة من المعارضة السورية لزج الجيش التركي في حرب مع سورية أو إحراج حكومة «العدالة والتنمية» التركية أمام ناخبيها وشعبها، وهو ما أثار انزعاج الحكومة التركية البالغ ودفعها إلى إبداء موقف مستهزئ مما جاء في الوثائق والتشكيك في صحتها، ولعل هذه الحادثة وتعثر محاولات المجلس الوطني السوري المتكررة في إعادة هيكلته دفعا أنقرة الى فقد ثقتها بالمعارضة السورية أو على الأقل إعادة النظر في حساباتها في شأن مستقبل سورية.
من هنا، جاءت توقعات بعض المراقبين الأتراك وتحليلاتهم بتراجع تركيا عن موقفها السابق الصلب من الحسم العسكري على الأرض، وبدأت تتجه إلى قبول الحلول الوسط التي تتيح ظهور حكومة انتقالية يكون فيها من يمثل النظام والمصالح الصينية والإيرانية على غرار صيغة الثلث المعطل في لبنان، ليتحول صراع أنقرة من صراع مع نظام بشار الأسد إلى صراع مع الأسد بشخصه، وهو ما تجسد في اقتراح وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أن يتولى فاروق الشرع إدارة المرحلة الانتقالية، مع العلم أن الشرع لم يكن يوماً من المتحمسين للتقارب السوري - التركي الذي بدأ عام 2004 ولم يكن جزءاً من أي مشروع من مشاريع التقارب والتعاون، وبقي على هواجسه المشككة في نوايا أنقرة من تقاربها مع دمشق، حتى إن بعض المراقبين في تركيا اعتبر في حينه أن تهميش الشرع بتعيينه نائباً للرئيس كان من بين أحد أسبابه موقفه من تركيا.
على أن أنقرة التي كانت أعلنت سابقاً دعمها لتفاهم جنيف مع تحفظها عن فرض هذا التفاهم على المعارضة السورية وتأكيدها ضرورة أن يختار الشعب السوري الحل الأنسب لأزمته، تواجه اليوم اختباراً جديداً مع المعارضة السورية من خلال مقترح هدنة وقف القتال خلال عيد الأضحى، فإن بدت أنقرة تلقفت هذا المقترح ودعمته بقوة ونقلته ليكون أساس نقاش بينها وبين طهران من خلال لقاء رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في أذربيجان، وتبعها إعلان وزير الخارجية أحمد داود أوغلو توجيه دعوة رسمية إلى جميع أطراف النزاع في سورية لوقف إطلاق النار خلال العيد، فإن تركيا تبقى في موقف لا تحسد عليه مهما كانت نتيجة تلك الدعوة ومشروع الهدنة، إذ إنه في حال امتثلت المعارضة لمقترح الإبراهيمي بالهدنة، فستزيد اتهامات النظام السوري لها بالسيطرة على المعارضة المسلحة ودعمها لوجيستياً، على رغم أن هذا الاحتمال قد يغير جذرياً في مسيرة الصراع الدائر في سورية باتجاه تحول السجال إلى سياسي بدلاً من عسكري.
أما في حال رفضت المعارضة المسلحة هذا المقترح أو انجرت إلى رد على إطلاق نار من جانب النظام، فإن الجهود التركية ستذهب هباء وسيتأكد من جديد للسياسيين الأتراك بأنه لا يمكن الاعتماد على المعارضة السورية. وعلى رغم إدراك أنقرة هذه المحاذير إلا أنها فضلت دعم مقترح الهدنة مع يقينها بأن النظام السوري لن يلتزم وأنه قد يسعى إلى تفجير الصراع إقليمياً. على أن هذا الاختبار بنتائجه سيكون تجربة مهمة لتركيا التي تستعد لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بداية كانون الأول (ديسمبر) المقبل في زيارة رسمية، ليكون اللقاء فرصة خالصة لتقريب وجهات النظر في شأن الملف السوري، خصوصاً أن هذا الموعد سيأتي بعد الإعلان عن الفائز بالانتخابات الرئاسية الأميركية، ما قد يجعل الحوار التركي - الروسي أكثر واقعية بعد اتضاح المشهد الانتخابي الأميركي، وتحديد أنقرة موقفها من المعارضة السورية المسلحة على الأرض.