الأيّامُ السّود...و الجهادُ المحمود : ملابسات وآفاق انتشار الجهادية الأصولية في سوريا


محمد حيّان السمّان
 

عن الحوار المتمدّن في ٣٠/ ١١ / ٢٠١٢


بعد عشرين شهراً من انطلاق الثورة السورية تعود – بقوة – إلى الواجهة قضية الجماعات الإسلامية المسلحة ( الجهادية) التي تقاتل إلى جانب كتائب الجيش السوريّ الحر. ومن مفارقات الحدث السوري, أن يكرّر الأمريكيون والأوروبيون الآن تلك النغمة ذاتها التي لطالما كررها النظامُ الحاكم في دمشق منذ بداية الأحداث, والتي تقول بوجود مجموعات إسلامية مسلحة ( إرهابية) تعمل داخل سوريا. وكما أشار Aaron Y. Zelin فإن مثل هذه الادعاءات التي كانت تبدو سخيفة – عندما كان يرفعها النظام في بداية الثورة لتبرير قمعه الوحشي للمتظاهرين السلميين –, أصبحت الآن حقيقة ملموسة وساطعة, بعد أن " أصبح للمقاتلين الأجانب وجود حقيقي في التمرّد, و وجودهم لم يعد مقلقاً لنظام الأسد فحسب, ولكن للسوريين في المعارضة أيضاً ".لكن المرء يحتاج إلى قدْرٍ كبير من – السذاجة- أو- حسن الظن- ليصدّق الأمريكيين وصانعي القرار السياسي الغربي عموماً هذه الأيام, عندما يدّعون القلقَ والتخوّف من الحضور المتزايد للفكر الجهادي ( القاعديّ) , وتزايد أعداد المجموعات الأصولية المقاتلة في سوريا, الأمر الذي يجعلهم مترددين بشأن تزويد المعارضة السورية بأسلحة نوعية, خشية وقوع الأسلحة في أيدي هذه المجموعات, مما يشكل خطراً على مصالحهم وأمن إسرائيل.وحقيقة الأمر أن الأمريكيين وحلفاءَهم الأوروبيين يكذبون مرتين : عندما يصرّحون بعدم موافقتهم على تزويد المعارضة السورية بالسلاح, وعندما يبدون هذا الخوف المشوب بالتهويل والتضليل من انتشار الجماعات الجهادية في سوريا.فالمعارضة السورية لم تُترَك بدون سلاح أبداً, منذ أن تعهّدت أطراف إقليمية نافذة, وبموافقة أمريكية ضمنية, بتسليح المعارضة وجمهور الثورة, بعد أشهر قليلة من بداية الأحداث. وكان ذلك إيذاناً فاجعاً بحرف الثورة السورية عن مسارها السلمي المدنيّ إلى العسكرة والعنف والاستبطان المستمر للمثال الليبي الذي كان قائماً وفاعلاً آنذاك بحيوية إعلامية احتفالية لافتة. لقد بقي توريد السلاح إلى المعارضة السورية منذ البداية مضبوطاً ومراقباً بصرامة – نوعاً وكماً-, وذلك بما يكفل توازناً دقيقاً يحافظ على استمرار العنف والتدمير المتبادل, من دون أن ينجح أي طرف بتحقيق انتصار نهائي حاسم على الطرف الآخر. وبات الآن معروفاً للجميع, وباعتراف مصادر أمريكية, أن فريقاً من ضباط ( سي آي إيه) استقر في جنوبي تركيا, صحبة ضباط أتراك ومن دول إقليمية أخرى, للعمل مع المعارضة السورية المسلحة وتنظيم ومراقبة تدفق السلاح إلى الداخل السوري.إن الالتزام بوتيرة بطيئة– لكن مستمرة – للإمداد بالسلاح, وبنوعية ذات مستوى محدد من حيث الفاعلية والأهمية العسكرية, لم يكن مردّه إلى حذر الغربيين من الجهاديين – كما يُشاع عادة- , بل على العكس, كان مقصوداً – مثله مثل العسكرة - لتحقيق عدة أهداف من بينها الإفساح في المجال كي تنضج الظروف الكفيلة بنمو التطرف والفكر الجهادي في سوريا, والتشجيع على استخدام العنف كحل وحيد للانتصار في معركة أريدَ لها – منذ البداية - أن تكون طويلة الأجل...مدمّرة, وتفضي إلى تغييرات جوهرية حاسمة في الاجتماع السوري, وفي التمثلات العامة لدى غالبية السكان حول هوية الذات/ الأنا, وهوية الآخر/ العدو, بتحديداتهما الصارمة النهائية التي تنفي مبدأ المواطَنة والدولة المدنية من الأساس, وهو ما كانت الثورة قد تطلعت إلى تحقيقه في مبتدئها السلميّ الديمقراطي. إن الغربيين يعلمون قبل غيرهم طبيعة النتائج التي يمكن أن تترتب على إحساس السوريين بأنهم خُذلوا, وأنه قد تم التخلي عن نصرتهم في مواجهة نظام بربري سفاح يتطلع بقوة عبر العنف والتجييش الطائفي, إلى التمسك بالسلطة.إن شعار ( يا ألله مالنا غيرك يا ألله), الذي ردده جمهور الحراك- منذ وقت مبكر- بنغمة فجائعية احتجاجية, ليس سوى التعبير المكثف عن نفوس ذاهبة إلى عدمية التطرف الديني في أقصى درجاته. وقد نقلت صحيفة تايمز منذ خريف 2011 تصريحات للسيد ( لؤي الزعبي ), وهو زعيم جماعة سلفية سورية معارضة, جاء فيها " إن غياب مساعدة دولية للسوريين كما كان الأمر في ليبيا, لم يترك للسوريين خياراً آخر سوى السلاح ". ومن الجدير ذكره أن الزعبي كان قد خاض تجربة ( الجهاد ) بأفغانستان ضد السوفييت في ثمانينيات القرن الماضي, كما أنه شارك في القتال في البوسنة. ولهذا دلالة جديرة بالتأمل, حيث نقبض هنا على مؤشر مبكر على المنحى الذي ستتخذه الأحداث لاحقاً, وعلى الفاعلين النموذجيين فيه.ومن ناحية ثانية, وللتدليل على كذب الأمريكيين وحلفائهم, ينبغي التذكير هنا بأن معظم المقاتلين الأجانب الذين ساهموا أيضاً في تكريس الأصولية السورية المسلحة في المشهد السوري الراهن, و نشر الفكر الجهادي, وقدّموا دعماً ميدانياً كبيراً للمجموعات الجهادية في سوريا, قد تسللوا – منذ أشهر- إلى مناطق شمالي حلب وإدلب واللاذقية, ثم توغلوا جنوباً باتجاه هذه المدن نفسها أو أطرافها الريفية, عن طريق تركيا التي ظهرت خلال هذه الأحداث وكأنها تستنسخ آليات وطرائق وأهداف الدور الباكستاني خلال الأزمة الأفغانية بعد دخول القوات السوفياتية إلى أفغانستان في سبعينيات القرن المنصرم. لقد أشرفت أجهزة الأمن والاستخبارات التركية بشكل مباشر على تسهيل مرور هؤلاء المقاتلين الأجانب عبر أراضيها , وتقديم ما يلزم لهم من معلومات وخدمات لوجستية, للدخول إلى الأراضي السورية, والوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر. وكل ذلك كان يجري بتنسيق كامل مع الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين والأطراف الإقليمية التي تبرعت منذ البداية بتمويل العملية والمساهمة في ترتيباتها. * * *

لقد تشكلت ببطء ولكن بفاعلية, وطوال الأشهر الماضية, تربة خصبة في سوريا لنمو الفكر الجهادي والجماعات الأصولية المسلحة. إن التديّن الشعبيّ في أوساط الريف السوري , بات الآن وبعد أشهر من تلقي الناس أقسى أشكال التنكيل والإبادة على يد قوات النظام, مُترَعاً بالحقد والنزوع العنفيّ المتطرف. وقد التقى كل ذلك بالعناصر الأصولية والمقاتلين الجهاديين القادمين عبر الحدود التركية والعراقية, خاصة بعد سيطرة الثوار على المنافذ السورية مع تركيا, مما أسفر في الأشهر الأخيرة عن تنامي وتجذر الوعي الجهادي داخل المكون العسكري للثورة, وتكاثر الجماعات الجهادية بشكل لافت. إن هذا السياق وتفاعل المعطيات المشار إليها داخله, لم يكن مجهولاً من قبل دوائر صنع القرار في الغرب, بل إن هذه الدوائر ساهمت في خلْق السياق وتحديد مساره وعناصره. ولدينا في مثال ( حلب ومعركة الفرقان ) ما يؤكد ذلك أيضاً. إن دخول الجيش الحر إلى حلب منذ تموز الماضي جاء على خلفية معاناة الريف الحلبي والإدلبي من وحشية قوات النظام, مضافاً إليها الحجم الهائل من الحماسة والفدائية اللتين تطلقهما العناصر الأصولية الجهادية المزدهرة أصلاً في تلك المناطق, مما جعل الأنظار تتجه إلى حلب التي كانت ماتزال صامتة تقريباً. لكن هذه العوامل الداخلية التي جذبت الثوار إلى حلب, لم تأت معزولة عن حيثيات خارجية دفعت بهذا الاتجاه أيضاً. وأعتقد أن تشجيع الثوار على دخول حلب والإيحاء – من قبل أطراف غربية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- بأن ذلك ضروري من أجل إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا, تؤمنها وتدعمها طرق إمداد سالكة مع تركيا؛ لم يكن – ذلك التشجيع - أكثر من خدعة أريد منها تحويل حلب إلى فضاء جاذب للمقاتلين الجهاديين والعناصر الأصولية, لن يلبث أن يتحول بالفعل إلى حاضن لأكبر التجمعات الجهادية وأكثرها تأثيراً في القرار ومجريات الأحداث ( جبهة النصرة - كتائب أحرار الشام – لواء غرباء الشام...الخ). وقد رأينا مؤخراً آخر تعبيرات هذا الوضع عندما تم الإعلان عن إقامة دولة إسلامية في حلب من قبل الكتائب الجهادية هناك.ما إن بدأت معركة ( الفرقان) في حلب, حتى بدأ المسؤولون الغربيون يعبّرون عن التراجع عن تأييد إقامة مناطق عازلة, بحجة صعوبة ذلك وتعقيدات الوضع. وأكثر من هذا عملوا على تخفيض منسوب توريد الأسلحة إلى حلب أثناء أعنف الاشتباكات مع قوات النظام. وهذا كله عاد وغذى من جديد الشعور بالإحباط والنقمة الذي ينمي ويكرس بدوره الفكر الجهادي, ويعطيه مشروعية أكبر للتألق والانتشار.

* * *لقد أفضتْ عسكرة الثورة إلى ارتهانها, كسيرورة ونتائجَ وآفاق, لإرادات خارجية تلعب في مصائر سوريا وشعبها على هواها. ومن ضمن ذلك مسألة التسليح نفسها التي تحوّلت بالتدريج إلى عامل ابتزاز وضغط وتوجيه للمزاج العام لجمهور الحراك والمعارضة السياسية والعسكرية, الذين جميعاً توهموا في لحظة بؤس تاريخي أن مطالبهم ستؤخذ بعين الاعتبار فوراً من قبل الداعمين والأصدقاء, وأن السلاح الذي سيحسم المواجهة لصالح الثورة آتٍ على الطريق. الأمر لم يكن كذلك أبداً, وسوف يتبين لاحقاً أن عسكرة الثورة, و وضعها تحت ذل الاستجداء المستمر للسلاح, سيكونان المدخل الرئيسي لاختطاف الثورة برمتها, وتحويلها إلى أمر مختلف يحقق أهدافاً أخرى. ويبدو أن توفير ورعاية تربة ملائمة داخل سوريا, لاستنبات الفكر الجهادي والأصولية المسلحة المشبعة بتحديدات طائفية, كانا من بين الأهداف الرئيسة لاستدراج الثورة إلى العسكرة والسلاح, ودمجها والنظام في سياق عنفي تدميري واحد.و لابد هنا من الإشارة إلى محددين اثنين تكاملا معاً وساهما بقوة في تسهيل عملية الاستنبات المشار إليها أعلاه, أحدهما سابق على بدء الثورة, والآخر برز إلى الواجهة والاستثمار بقوة خلال الثورة,و بتدبير مباشر من قبل النظام :أ- انتشرت في سوريا بعد عام 2006 حملة دعائية كبيرة ضد الشيعة ( كمذهب ديني ) وضد المقولات الأساسية في هذا المذهب : ولاية الفقيه, تفضيل علي بن أبي طالب, مبدأ التقية...الخ. وهي جزء من حملة أوسع ظهرت في عدة بلدان عربية بهدف مواجهة ما قيل أنه محاولات تمدد مذهبي شيعي في العالم الإسلامي. وكان واضحاً أن ذلك كله يأتي ليمهد ويؤسس لموقف سياسي- مذهبي واسع الانتشار في الشارع السوريّ ( السنيّ تحديداً ) من إيران وحزب الله. وقد ساهمت قنوات تلفزيونية عديدة في هذه الحملة عبر سجالات وندوات صاخبة يحضر فيها ممثلون عن السنة والشيعة. وبالتدريج بدأت شعبية السيد (حسن نصر الله) و(حزب الله), التي ازدادت بشكل كبير خلال حرب تموز 2006, بالاهتزاز والتراجع. وبدأت إيران تظهر خلال هذه الحملة بمظهر المروّج الداعم لحركة تشييع كبيرة تقوم على قدم وساق في سوريا.إن هذه الخلفية مهمة جداً لفهم الأجواء الدعائية المذهبية التي سادت في الشارع السوري قبل انطلاق الثورة, والتي رعت واحتضنت بروز الجماعات الجهادية في سوريا خلال الثورة أيضاً. مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك أن سياسة حزب الله وإيران الداعمة بقوة للنظام الفاشي في تصديه لجمهور الثورة؛ قد ساعدت كثيراً في استكمال وإنجاح عملية التجييش الطائفي ضد الشيعة و ممثليْها الرئيسيْن في المنطقة. كان الألم العام الذي يكرسه عنف النظام و وحشيته إزاء الجمهور, يتحول إلى مزيد من الحقد والكراهية ضد إيران وحزب الله. وبخاصة بعدما تواترت الأخبار عن مساهمات ميدانية لهذين الطرفين في أعمال القمع والتنكيل. إن سيرورة العنف العاري للنظام ضد الثورة, تحتضن سيرورة تنامي الحقد الطائفي إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ سوريا المعاصر.ب- سعى النظام السوري منذ انطلاق الثورة إلى عسكرة المواجهة, وتحويل مسارها من ثورة شعبية سلمية بأهداف ديمقراطية مدنية, إلى حالة تمرد مسلح تقوم به مجموعات ( إرهابية) على الأراضي السورية. وكان النظام ينطلق من تجربة سابقة ( حماه 1982 ) ومن ثقته بقدراته العسكرية الكبيرة, ليذهب في خطته الجهنمية هذه إلى أبعد مدى بوصفها الخطة التي تؤمن له استعادة المبادرة وإخماد الحراك. وبالتساوق مع ذلك عمل النظامُ جاهداً على استثمار المسألة الطائفية من أجل تفتيت الإجماع الوطني على التغيير, وربط مصيره – أي النظام - بمصير مكونات عديدة في المجتمع السوري, أمل بإخراجها من معادلة الصراع أو الوقوف معه ضد الثورة. لقد نجح النظام – كما أوضحت في دراسة سابقة – وإلى حد بعيد في عسكرة الثورة, عبر استخدامه المقصود لأقسى درجات العنف, وتغاضيه عن إدخال السلاح – عبر الحدود مع لبنان بخاصة-. كما أن المبادرات الخارجية لتسليح المعارضة, والتأثير المستمر للنموذج الليبي, ساهما أيضاً – في مفارقة لافتة – في مساعدة النظام بخطته هذه. ثم عادت العسكرة وأجواء العنف المتبادل لتغذية البعد الطائفي في الأزمة السورية, وتكريس التحديدات الطائفية كدينامية فاعلة باستمرار في التأثير على الوعي والممارسة لدى قطاع كبير من جمهور الثورة.

* * *لقد ظن النظام السوري أنه من خلال نغمة وجود مجموعات إرهابية تعمل في الداخل السوري, سيمسك الغربيين والإسرائيليين من يدهم التي توجعهم – كما يُقال -. وظن أن إثارة المسألة الطائفية ستقلّص من جمهور الثورة, وتدفع الكثيرين إلى الخروج من صفوف التظاهر المطالب بإسقاط النظام. ولكن فات النظام السوري أنه كان يفعل – بالضبط – ما يرغب به وما يتهيأ لفعله الغربيون ووكلاؤهم الإقليميون تحت غطاء مساعدة الشعب السوري في التخلص من نظامه القمعي الاستبدادي : عسكرة الثورة, وتعميق الوعي الطائفي في بلد عُرف بالتعايش بين جميع مكوناته المتعددة المتنوعة.لم يدرك النظام السوري طبيعة التغيرات الجذرية في موقف الغرب من الإسلام السياسي عامة, ومن الدور المطلوب والمرتقب للإسلام الأصولي الجهادي خاصة. لقد غاب عنه أن الغرب يوشك على إطلاق مرحلة جديدة من الاستثمار النشط والفعّال للفكر الجهادي – السنيّ – تحديداً, كضرورة طارئة يحتمها سياق التحول في الصراع الدولي والإقليمي على الشرق الأوسط, والرؤيا الإستراتيجية لكيفية إدارة هذا الصراع, وبخاصة الملف الإيراني وما يستدعيه من هواجس تتعلق بالأمن القومي الأمريكي والمصالح الإستراتيجية للغرب, بما في ذلك أمن إسرائيل وضمان بقائها القوة العسكرية الأكبر في المنطقة. إن المؤشرات على التحول في الموقف الغربي عموماً, والأمريكي على وجه الخصوص, من الإسلام السياسي عديدة وساطعة, أعطى أوباما بنفسه شارة البدء بها عندما حيّا الحاضرين بتحية الإسلام في خطابه الشهير بجامعة القاهرة. ومن الواضح الآن أن الغرب يبارك ويدعم وصول الإسلاميين إلى السلطة في بلدان الربيع العربي, خاصة أولئك الذين أطلقوا مؤخراً رسائل عديدة تفيد بقبولهم بمبادئ الديمقراطية والدولة المدنية. لكن الموقف من الإسلام الأصولي الجهادي يتطلب حذراً أكبر, ومراوغة قادرة على الاقتراب الفعلي منهم إلى حدود الاختراق والتوجيه والدعم المباشر, ولكن من دون الظهور في المشهد, بل على العكس, إبداء الخوف والقلق من هذا الإسلام الأخير, والاستمرار في الادعاء بمحاربته. وهذا ما يفسر الإلحاح العلني المستمر من قبل الأمريكيين على رفض تسليح المعارضة, والتخوف من بروز التطرف كقوة فاعلة في سوريا ( التصريح الأخير من زغرب لوزيرة الخارجية الأمريكية على سبيل المثال ), بينما الحقيقة الفعلية غير هذا تماماً, كما أوضحت سابقاً. إن جانباً كبيراً من السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية, وحلفائها الغربيين عموماً – بما فيهم إسرائيل- قد بُني خلال العقود القليلة الماضية على محاربة (الإرهاب والتطرف الإسلامي ), وهذا الأمر يجعل من المستحيل على السياسة الأمريكية أن تعلن الآن وبشكل واضح ومباشر عن استعدادها للتعامل مع الأصولية الإسلامية, خاصة في بعدها الجهادي المسلح. لم يتهيأ الرأي العام الغربي بعْد لقبول هذا الأمر, مع أن هذا التعامل باتت تفرضه – فيما يبدو - ضرورات الأمن القومي الأمريكي ومصالحه الإستراتيجية, وبخاصة حيال الملف النووي الإيراني وتهديد حزب الله لإسرائيل.

* * *إن عسكرة الثورة السورية, كهدف مشترك للنظام وللتطلعات السياسة الغربية عبر الحلفاء الإقليميين؛ كانت في الأساس مقدمة لتعميق البعد الطائفي في الأزمة السورية, على خلفية التمثلات والوقائع التي أشرت إليها سابقاً, بما فيها التصرفات الطائفية المتوحشة والغبية من النظام نفسه. وقد مكّنت العسكرة من صناعة رأي عام قابل للتحشيد ضد إيران وحزب الله بشكل كبير. حيث ساهمت المجموعات الجهادية التي نشأت في السياق الذي أوضحناه, في تأكيد البعد الطائفي للصراع- كما فعل النظام تماماً- وتحييد الأصوات المعتدلة والوطنية داخل الثورة. وفي حالات عديدة عبّرت تلك المجموعات مباشرة عن عدائها لإيران وحزب الله ( الشيعة ) وللنظام بوصفه ( علوياً كافراً), على خلفية موقف مذهبي متشنج أصلاً. وبينما ساهم الغرب ببطء وصبر شديدين, وعبر حلفائه الإقليميين الذين دفع بهم إلى الواجهة, في تشكيل مجال اجتماعي – إيديولوجي وأمني مشحون بالفكر الجهادي وبأعداد كبيرة من الأصوليين المسلحين في سوريا؛ كانت الجماعات الأصولية المسلحة تدمج باستمرار في فكرتها عن الجهاد بين النظام وإيران وحزب الله.المقدمات السابقة كلها, بما فيها الوقائع والشواهد على الأرض ( آخرها قضية الصواريخ التي حصل عليها الثوار ) يمكنها أن تعزز القول بأن السياسة الغربية ( الولايات الأمريكية المتحدة خاصة) تستعيد في سوريا الخطوط الأساسية في السيناريو الأفغاني الذي تم استخدامه منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي, لمواجهة الاتحاد السوفياتي على الأراضي الأفغانية. ويمكننا عبر استبدالات بسيطة أن نفهم الخطوط العريضة التي تبني عليها الولايات المتحدة خططها الاستراتيجية لمواجهة إيران وحزب الله في المنطقة, والاستثمار الحاصل والممكن في المستقبل لتطورات الأوضاع في سوريا. ففي مقابل الصراع بين الإيمان والإلحاد في المثال الأفغاني, لدينا هنا الصراع السني – الشيعي الذي تمت تغذيته منذ ما قبل الثورة السورية, وأثناءها, كما أوضحت أعلاه. وفي مقابل الاحتلال السوفياتي لأفغانستان, لدينا هنا الاحتلال الأسدي المدعوم من حزب الله وإيران. ولدينا هنا تركيا كوسيط ومعبر ومركز التقاء وتفاهم أجهزة استخبارات غربية وإقليمية, مقابل باكستان التي لعبت هذا الدور نفسه من أجل توصيل الجهاديين إلى أفغانستان, كما تفعل تركيا الآن إزاء سوريا. يظل الفكر الجهادي ( القاعدي ) نفسه في المثالين, وتظل آليات التحشيد ومصادر التمويل ذاتها فاعلة ومعتَمَدة. أما السوريون فهم من يدفع الثمن الأكثر كلفة من دماء أبنائهم وعلى حساب مستقبل بلدهم الذي تم تدميره بأبشع صورة يمكن تخيلها على الإطلاق. إن السيناريو الأفغاني الذي يستعيده الغرب الآن في سوريا تمهيداً لمواجهة بالوكالة مع إيران وحزب الله, ما كانت لتتهيأ له ظروف النجاح والتقدم في ظل ثورة وطنية سلمية مدنية وديمقراطية. وكان لابد من حرف الثورة باتجاه العسكرة والعنف والخطاب الطائفي الذي تمت تهيئة الظروف المناسبة لاشتغاله بقوة منذ ما بعد عام 2006. لقد ساعدت عسكرة الثورة السورية على خلق مجال ملائم جداً لنمو التطرف في سوريا, تمهيداً للانتقال بها إلى موقع الحاضن للجماعات الجهادية المشبعة بحقد طائفي, والخزان الطافح بالعناصر الأصولية المسلحة, التي لن يلبث الداخل السوري أن ينوء بحملها فيطلقها صوب أهدافها الخارجية الأساسية: لبنان ( حيث يلتقي بظاهرة الشيخ الأسير التي يجري حالياً التمكين لها كجبهة متقدمة ضد حزب الله), والعراق, وصولاً إلى مواجهة واحتواء التمدد الإيراني الذي بات يشكل خطراً على مصالح الغرب وإسرائيل تحديداً. إن سوريا تتحول بالتدريج إلى بؤرة استقطاب وتوزيع لتمثلات الحرب القروسطية المقدسة, التي سيخوضها الجهاديون مع عدو تاريخي بات مقدماً في الكراهية والعداء على إسرائيل نفسها.ــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ