ما معنى التهدئة الأمريكية على الجبهة الفلسطينية؟
نصر شمالي
لم يكن توجه الأمريكيين لتهدئة الوضع على الجبهة الفلسطينية سوى محصلة لتردي أوضاعهم في الجبهة العراقية، فقد قلبت مفاجآت الميدان العراقي موقفهم رأسا على عقب، وحولت نشوتهم المسكرة القصيرة إلى خيبة مريرة طويلة، وجعلتهم يعيدون النظر بسياسة استبعاد الحلفاء الدوليين وحرمانهم واحتقار الأصدقاء الإقليميين وابتلاعهم! غير أن محاولاتهم لإقامة جبهات عريضة، سياسية وعسكرية، تمكنهم من تدمير مقاومة الشعب العراقي، اصطدمت بمعوقات عدة أبرزها عمليات القتل والتدمير الشامل التي يشنها "الاسرائيليون" على مدار الساعة ضد الشعب الفلسطيني، فقد أحرجت هذه العمليات بعض الحكام في المنطقة العربية والعالم، فتلكأوا في الاستجابة لدعوات واشنطن، وصرحوا مراراً وتكراراً أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني الأعزل يحول دون قيام مثل هذه التحشدات الدولية ضد الإرهاب "شملت تهمة الإرهاب المقاومة العراقية!".
وكان الرئيس الباكستاني من أبرز الذين صرحوا بذلك، وهكذا لم يكن ثمة مناص أمام الأمريكيين من التوجه إلى صنائعهم "الاسرائيليين" وجعلهم يحققون تهدئة على الجبهة الفلسطينية، بل ويمضون في تحقيقها إلى الحد الذي تبدو معه كأنما هي مشروع سلام حقيقي يؤكده الانسحاب من قطاع غزة ومن بعض المستوطنات في الضفة الغربية! وقد حققت هذه المناورة المحسوبة أغراضها، إذ ما كاد "الاسرائيليون" يبدأون انسحابهم من القطاع حتى تعالت صيحات الرضا والاستحسان العربية والدولية، وسرعان ما مدت حكومة باكستان يدها تصافح "الاسرائيليين" بحرارة وتعدهم بأفضل العلاقات في القريب العاجل، بينما أعلن "الاسرائيليون" أن عشر دول عربية على وشك إقامة علاقات معلنة معهم!
يأخذون دائما ولا يعطون أبدا!
إن ما يميز الأمريكيين وعملاءهم "الاسرائيليين" أنهم لا يعطون أبداً أبداً بل يأخذون دائماً ودائماً، وإذا حدث و"أعطوا" فأن ذلك يكون ولا بد في معرض عملية "اخذ" عظمى، فهم يعطون "الواحد" مؤقتاً ليستردوه مع (المئة) في أسرع وقت! ونحن لا نعرف شيئا عن الترتيبات الأمريكية – "الاسرائيلية" بصدد تهدئة الجبة الفلسطينية، ولكن يجب أن لا يخامرنا الشك بأنها كانت عطاء محدودا ومؤقتا في معرض الأخذ التام والدائم! ولعل الأمريكيين و"الاسرائيليين" اعتقدوا أن عملية الانسحاب من القطاع، التي قرنوها بوعد غامض حول قيام دولة فلسطينية، سوف تفضي إلى جعل السلطة الفلسطينية تابعة لهم مثل حكومة العراق، فتقوم بمهمة تدمير الشعب الفلسطيني نيابة عنهم، غير أن ذلك لم يحدث واتضحت استحالة حدوثه.
وهكذا فأن "الاسرائيليين" المنسحبين من القطاع ما كادوا يعثرون على شبه ذريعة حتى تشبثوا بها بمخالبهم وأنيابهم، وصدرت الأوامر صريحة باستخدام جميع الوسائل لتدمير الشعب الفلسطيني، وليس أسخف من أولئك الذين يمكن أن يلوموا الفلسطينيين على توفير الذريعة "للاسرائيليين"، فالذريعة سوف تختلق حتى لو صنعها "الاسرائيليون" بأيديهم! أما عن أولئك الحكام الذين رحبوا بالانسحاب "الاسرائيلي" وسارعوا إلى مد أيديهم للمصافحة والوعد بإقامة العلاقات التطبيعية مع "الاسرائيليين" فأنهم عموماً لن يستطيعوا التراجع بسهولة عن وعودهم "إذا كانوا يريدون التراجع" بل لعلهم سينحون باللائمة على الفلسطينيين ويجدونهم يستحقون العقاب!
مصيرهم مرهون بالولايات المتحدة!
في الأفق المنظور، وفي الحسابات العسكرية والمادية، يبدو التفوق "الاسرائيلي" بعمقه الأمريكي الأوروبي كاسحاً وثابتاً على صعيد المنطقة بمجملها، أما في الأفق غير المنظور فأن التفوق الفلسطيني بعمقه العربي والإسلامي والأممي يبدو هو الكاسح والثابت، فقد نهض الكيان الصهيوني على موضوعة ملفقة تقول "بأرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، واعتقد المجرمون أن هذه الموضوعة غير الموضوعية يمكن جعلها حقيقة مع مرور الزمن بإبادة الشعب الفلسطيني، أي بالبرهنة لاحقاً عن صحة الموضوعة المسبقة، لكن العقود الطويلة من الصراع الرهيب برهنت أن "الاسرائيليين" يزدادون ارتباطاً بأوطانهم الأصلية من دون إحراز أية سمات خاصة متجذرة في المنطقة العربية، بينما يزداد الفلسطينيون حضوراً وتألقاً ورسوخاً على الرغم من جميع الأهوال التي يواجهونها.
لقد راهن الإنكليز والأمريكيون و"الاسرائيليون" على إمكانية إبادة الشعب الفلسطيني وإمكانية تدمير الأمة العربية وهم لا يزالوا يراهنون على ذلك رغم ثبوت استحالته، ومن هنا مأزق "الاسرائيليين" الذين جعلهم تطاول الزمن يستمرون فقط كقوة محاربة لا تستطيع ضمان وجودها إلا بالحرب المفتوحة المجهولة النتائج!
ففي البدايات كانت الحروب تعد وتنظم بحيث تكون النتائج مضمونة تماما لصالح "الاسرائيليين"، حتى أن ديفيد بن غوريون "رئيس وزراء اسبق" قال في منتصف الخمسينات الماضية: "دعونا نأمل ونتمنى نشوب حرب جديدة مع البلاد العربية، لأننا سنكون الرابحين حتى لو أعطينا الحاكم العربي مليون جنيه من أجل أن يشن الحرب ضدنا"!.
أما اليوم فقد اختلف الحال كلياً بعد أن تأكدت استحالة استئصال الشعب الفلسطيني وتدمير عمقه العربي والإسلامي، غير أن "الاسرائيليين" لا يستطيعون التراجع عن رهانهم وعن طابعهم الحربي الذي يدينون له وحده بوجودهم، وإلا توجب عليهم حزم حقائبهم والعودة إلى أوطانهم الأصلية التي لا زالوا يحملون جوازات سفرها، فإلى متى يا ترى يمكنهم الاستمرار على هذا المنوال، وهل ثمة شك في أن استمرارهم مرتبط بالظروف الدولية القائمة وبمكانة الولايات المتحدة وباستقرار استراتيجيتها الدولية الراهنة التي يشكلون احد أركانها؟
ملاذهم الحرب وضمانتهم واشنطن!
إن التنقل بين فلسطين المحتلة حيث الوطن الصوري والولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا حيث الوطن الحقيقي هو مظهر يومي مستمر وشائع في الكيان الصهيوني، فبعض اليهود الصهاينة لهم إقامة شبه دائمة في باريس أو نيويورك، وإقامة ثانوية في فلسطين، ولبعضهم الآخر وضع عكسي، كما أن معظم المشاريع الصناعية والتجارية المسماة "اسرائيلية" هي أمريكية أو أوروبية.
ويمكن القول أن المجتمع الصهيوني الاستيطاني ليس سوى مجموعات مقدرة من نماذج المجتمعات الأمريكية والأوروبية، وأن الكيان الصهيوني نوع من معسكر دولي يقوم فيه عامة اليهود البسطاء بدور المستندات الملفقة التي تبرر وجوده وتجعله يسمى "دولة"! وبناء على ذلك فأنه ليتوجب علينا الوصول إلى اليقين الراسخ أنه إذا ما خطر لما يسمى "اسرائيل" ممارسة سياسة مستقلة فان وجودها برمته سوف يكون عرضة للزوال، فهي لا تستطيع أبداً أن تكون مستقلة، لا إزاء أسيادها الذين صنعوها لانجاز أهداف محددة وتأدية وظائف معينة، ولا إزاء الأمة العربية التي لا تستطيع "اسرائيل" في حال كونها مستقلة حقا، وقائمة بذاتها حقا، أن تحتل أياً من أراضيها ولو ليوم واحد!
لقد كتب موشي شاريت "رئيس وزراء اسبق" في مطلع الخمسينات الماضية ما يلي: "لا يمكن ليهود الولايات المتحدة أن يساعدوا (اسرائيل) في حال نشوب نزاع بينها وبين أمريكا، وهذا يعني أن المشاركة الفعالة ليهود أمريكا في بقاء دولتنا متفوقة يمكن ان تتحقق على أساس اندماج سياستنا الخارجية في السياسة العالمية لواشنطن، ولن يساعدنا إخوتنا اليهود في ما وراء البحار إذا لم نخضع لرغبة حكومتهم"!
وهكذا نرى بوضوح أن المستوطنين في فلسطين ليسوا شعباً بل مجرد محتلين عابرين على طريقة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر! إنها الحقيقة التي يعرفها جميع الصهاينة في قرارة نفوسهم، والتي تفسر لنا طربهم الوحشي بالأوامر التي صدرت إليهم بمهاجمة الضفة والقطاع بعد الانسحاب، فملاذهم المؤقت هو الحرب وحدها، وضمانتهم المؤقتة هي الولايات المتحدة التي تتعرض اليوم لامتحان عسير يضعهم بدورهم في مأزق خطير.