احتمالات المستقبل القريب.. ودور الديمقراطيين: الافتتاحية

 


تواجه سوريا أزمة سياسية قد تكون الأخطر في تاريخها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. تتصل الأزمة هذه، كما هو معلوم، بالملابسات السياسية والقانونية والأخلاقية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في شتاء هذا العام، كما بخطط ومطامح الفاعلين الدوليين الكبار، الأميركيين بالخصوص، الذين قد يستخدمون التجريم المحتمل للنظام فرصة لدفع خططهم واستراتيجياتهم الخاصة بإعادة ترتيب المنطقة خطوة إضافية إلى الأمام.


على أن الأزمة المحتملة لا تنبع من الضغوط الدولية وحدها، بل بالخصوص من جمود بنية النظام ومن ثباته على سياسة الحرب المفتوحة ضد المجتمع السوري ومنع المواطنين السوريين من المشاركة في حمل أعباء مستقبل بلدهم في مرحلة مفصلية من تاريخه. لقد ثابر النظام على منطقه الإقصائي الذي يعتبر المجتمع عدوا ينبغي مراقبته بشدة، والتضييق عليه، وتقييده، ومنعه من المبادرة المستقلة أو التطلع للمشاركة في شؤونه العامة. هذه السياسة، سياسة الحصار الداخلي المديد على الشعب السوري، ألحقت من الأضرار بالبلاد وبوحدة شعبها ما يتخطى كل ما يمكن أن يطمح إليه حصار خارجي. ولا ريب أن ثمرتها الأولى هي تفريق قلوب السوريين وتشتيت إرادتهم، أي بالفعل تحطيم الرابطة الوطنية الجامعة بينهم. فإذا التقى الحصاران، الداخلي من قبل نظام الاستبداد والنهب، والخارجي من قبل السلطة الامبراطورية الأميركية، فتح ذلك باب الإجهاز على كل ما ضحى به الشعب السوري من أجل استقلال بلاده ووحدتها وفرصها في التقدم.
إن من أهم ما كشفته تفاعلات السوريين مع مهمة المحقق الدولي ميليس، والاتهام المحتمل لمسؤولين أمنيين، وربما سياسيين، سوريين، هو قلق قطاعات واسعة من المواطنين على بلدهم ووحدته وأمنه الوطني واستقراره. يكتشف السوريون ، نتيجة لممارسات النظام ، أننا بلد معرض للاهتزاز بشدة في المحن، بدلا من التوحد والتقارب، ويخشى بعضنا أن كياننا الوطني بالذات مهدد بمخاطر عدة . وأضحى من المألوف أن يتخوف كثيرون بيننا على مصير البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي ووحدتها الوطنية.  
يكشف هذا القلق المشروع زيف المنجز السلطوي كله وتهافت سياساته وتدميريتها. بعد أكثر من أربعين عاما من حكم نظام الحزب الواحد، وحالة الطوارئ المجايلة له، وتحكيم الخوف في حياة أهل البلاد، ومن مزاعم مضللة بمواجهة العدو للتغطية على الطغيان ونهب الموارد الوطنية، بعد هذه السنين كلها نجد كيان بلدنا بالذات، وليس أهدافه فقط، موضوعاً في مهب رياح التفتت والسيطرة الأميركية معا. ولا يخفى أن تفجير مجتمعاتنا العربية من الداخل طموح إسرائيلي قديم، حققته بأبخس الأثمان أطقم سلطوية تجمع بين الاستبداد والجشع والفئوية وانعدام الكفاءة.
ليس هذا الدرس جديدا بحال. ولطالما أكدنا عليه في تحليلات ومواقف معلنة، في "الرأي" وفي وسائل الإعلام المتاحة. فبكل بساطة لا يمكن
لسوريا أن تتقدم وتترسخ وحدتها حين لا تكون قلوب السوريين "على بعضهم". هذا بالطبع يستدعي قلبا كاملا لسلم الأولويات الوطنية الراهن الذي يجعل من الوطنية إيديولوجية لإقصاء المواطنين من المجال العام لا لاجتذابهم إليه وتوسيع دوائر مشاركتهم فيه. إن رؤيتنا تتطلع إلى  مجتمع تكون حرية وكرامة كل فرد فيه هي شرط استقلال البلاد وكرامتها الوطنية.
نستعيد هذا الدرس لا لأننا نعول على النظام أو نتوهم إمكان إقناعه بأن البلاد في مأزق خطير. فقد بلغ النظام من الفساد والقمع أن قطع خط الرجعة على نفسه وقطع على كل متوهم بالشراكة معه حبال وهمه. نستعيده لأننا نرى أن واجب العمل على صون وحدة البلاد وحماية استقلالها يقع على عاتق الوطنيين والديمقراطيين السوريين على اختلاف توجهاتهم السياسية ومنابتهم الأهلية ويتجاوز قطعيا أسس النظام الحالي، نظام حراسة التفكك الوطني.
 لا علاقة لهذا الدرس بالتحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري إلا كمناسبة للتذكير به، ولا يفيد التشكيك بميليس وبالتسييس المحتمل لمهمته إلا في التشويش على الضرورة الملحة لتغيير عميق في النظام الحالي، تغيير يضع نصب عينيه المساواة السياسية بين المواطنين والمشاركة الحرة في الشأن العام لهم جميعا. لقد أوصل نظام الحزب الواحد البلاد إلى حافة جرف الانهيار الوطني وضياع الاستقلال، أو الانفجار الاجتماعي الذي يخشى أن يجري في قنوات أهلية وليس في قنوات سياسية ومدنية. الرؤية الوطنية التي نعمل من أجلها هي إعادة تأسيس النظام السياسي في البلاد على قواعد المواطنة المتساوية والحريات العامة. لا على مزيد من نظام الحزب الواحد وأجهزته الأمنية وتمييزه بين المواطنين إذا كنا جادين في العمل على إنقاذ سورية . 
احتمالات ومسارات
 وفقا للمعلومات والتحليلات المتداولة ثمة ثلاثة أو أربعة احتمالات رئيسية:
الصفقة أو النموذج الليبي؛ الحصار أو النموذج العراقي؛ سيناريو القطة المحاصرة؛ وسيناريو الانقلاب أو دفع أطراف من النظام للانقلاب عليه.
أيا يكن السيناريو المحتمل فإننا نرجح أن تأخذ الأمور وقتا أطول مما يوحيه التطور المتسارع للأحداث منذ اعتقال الجنرالات اللبنانيين الأربعة، أبطأ أيضاً مما يوحيه أو ربما يرغبه سيل الشائعات المنتشر في كل أرجاء البلاد.
وفقا للنموذج الليبي قد يقوم تفاهم غربي، أميركي أوربي، على منح قيادة النظام فرصة الاستمرار بشرط أن يسلم للمحكمة الدولية المتهمين المحتملين من قادة أجهزته الأمينة، وأن يسلم بكل ما ترغب به الولايات المتحدة بخصوص العراق ولبنان وفلسطين ، فضلا عن تحديث محدود للنظام على المستويين الاقتصادي والحقوقي بما يجعله مقبولا أكثر من القوى الدولية المسيطرة.
ليس لدى القوى الغربية دافع كاف لعقد صفقة كهذه، اللهم إلا مراعاة تجنب انهيار مفاجئ للنظام قد يتسبب في فوضى غير منضبطة. النظام نفسه لا يملك من القوة إلا "تهديد" الغرب بضعفه واحتمال انهياره وحلول أعداء للغرب محله أو توسيع دائرة الفوضى والإرهاب في المنطقة. ويبدو أن دولا عربية أساسية، مصر والسعودية بالتحديد، تشعر بالقلق من هذا الاحتمال، وتحاول لعب دور ما في تجنبه. الأرجح أن يتمثل هذا الدور في نصح النظام بتسليم المشتبه فيهم المحتملين من طرفه، مقابل إقناع الأميركيين بوجوب تجنب فراغ سياسي وامني في سوريا خشية أن يوسع ملعب الفوضى والإرهاب في المنطقة.     
كان برنامج القوى الغربية دائما تحديث التسلطية، وليس أبدا الديمقراطية. وهو معادل للسقف البرنامجي العقلاني لـ" إصلاحيي " النظام، قبل أن يفضل أساطينه الانكفاء نحو نظام أمني عائلي مغلق يذكر بأسوأ أيام عهد سلفه. وفي الظروف الحالية سيكون مضمون هذا البرنامج نوعا من وضع النظام تحت الوصاية، أي مراقبة سلوكه وحركاته وسكناته، وجعله مطالبا في كل وقت بإثبات حسن السلوك .
ونحن نرجح أن تسييس التحقيق، وليس عدم تسييسه، هو أنسب مخرج للنظام. فاعتبارات السياسة والمصالح والاستقرار هي التي ستتغلب في النهاية على اعتبارات العدالة والحقيقة. يتوافق ذلك مع حقيقة أن نظام السيطرة الأميركية في منطقتنا يشبه تماما النظام السوري من حيث طابعه المحاسيبي (الزبائني)، وعدم احترامه لسيادة القانون وإرادة الشعوب ومصالحها. نرى أيضا أن احتمال تسييس نتائج التحقيق (وليس التحقيق ذاته) قوي جدا، لأن الجريمة سياسية بامتياز ، وقد يستفيد النظام من ذلك، خلافا لما تعلنه إيديولوجيته ووسائل إعلامه. ولعل زيارة الرئيس بشار الأسد الخاطفة لمصر يوم 25/9 خطوة في اتجاه التسييس.
في التداول احتمالات وسيناريوهات أخرى لا يمكن استبعادها، أولها سيناريو العقوبات والحصار. وفقا لهذا المسار يحتمل أن يصدر قرار من مجلس الأمن الدولي بمقاطعة سوريا وعزلها سياسيا، وربما ملاحقة دولية لبعض أركان النظام على الطريقة الصربية. تجربة العقوبات العراقية والليبية أثبتت أنها أكثر إيذاء للشعب من النظام، خصوصا إن دامت زمنا طويلا كما حصل في العراق وليبيا. على أن طول أمد العقوبات غير محتمل لسببين: سبب أميركي وسبب سوري. السبب الأميركي هو تسارع إيقاع التطورات في المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق وحيازة الولايات المتحدة على إقليم قاعدة لخططها الشرق أوسطية هو العراق؛ أما السبب السوري فهو افتقار النظام إلى عقل استراتيجي من أي نوع، براغماتي أو مبدئي، ما يجعله مهيئا لارتكاب الأخطاء الكبرى على جاري عادته طوال السنوات الخمسة الماضية. ومعلوم أن الأخطاء الكارثية كانت هي القطار السريع الذي استقله النظام نحو عزلته الحالية، وهي التي ألهبت بورصة المضاربات حول مصيره. 
سيناريو القطة المحاصرة: هل هناك احتمال لسيناريو "علي وعلى أعدائي"، أي أن يمتنع النظام عن افتداء نفسه ببعض أدواته القمعية، وأن يعمد إلى تنشيط ما يظنها أوراقه، إن بدفع الأوضاع نحو التسخين في لبنان والعراق (وليس الجولان!)، مع التلميح إلى تفجير الأوضاع في سوريا ذاتها؟ هذا الاحتمال الانتحاري ليس غريبا على عقلية النظام، لكن من غير المحتمل أن يلجأ إليه إلا إذا كان الخيار البديل عن الانتحار هو تقبل الحكم بالإعدام. أي إذا كانت مستويات سياسية وأمنية عليا مشمولة بالملاحقة الدولية. 
الاحتمال الرابع هو دفع قوى من داخل النظام للانقلاب عليه. غرض هذا السيناريو هو إنقاذ النظام من ذاته بالتفاهم مع القوى الغربية المؤثرة وليس إنقاذ سوريا من النظام. مثل غيره، هذا الاحتمال قد يأخذ وقتا أطول مما توحي الظواهر، لكن أقصر مما يفضل النظام والخائفون عليه. ولا ريب أنه دون هذا السقف، لا فوقه، يتحرك أمثال السيدين عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي.
واضح من وراء استعراض هذه الاحتمالات أن آفاق تطور أوضاع البلاد بين رمادية وسوداء. هذا ثمرة سياسات نظام أضاف إلى استبداديته ولصوصية رجاله رعونة واستهتارا وجهلا بوقائع الحياة السياسية الدولية والإقليمية (في الداخل يتكفل القمع بتغطية انعدام الكفاءة). وليس لمزيج الرعونة والاستهتار والجهل أدنى علاقة بإرادة مقاومة للنظام الدولي والإقليمي، وإن كان النظام وشركاء إيديولوجيون متنوعون له يفضلون أن يروا الأمر كذلك. ليس البلطجي مناضلا، ولا القاتل ثوريا، إلا في منطق تفكير مأزوم لم يؤد لدينا ولدى غيرنا إلا إلى الدمار والانحطاط الحضاري.
يستفيد من الأوضاع التي أنتجها الاستبداد الجهول سياسة أميركية تجمع بين التطرف وغطرسة القوة، وتعمل على إعادة تشكيل المنطقة بما يجعل من سلطتها هي مرجعاً نهائياً لكل تفاعلاتها وسياساتها الممكنة. وكما هو مألوف في تاريخ بلادنا منذ قرابة قرنين فإن الهيمنة الخارجية تحرك الانقسامات الدينية والطائفية والإثنية الكامنة، وتفاقم من هشاشة الدولة الوطنية، وتعمق الشرخ بين الوطنية والديمقراطية. والواقع أنها لا تحتاج إلى بذل جهود كبيرة من أجل خلق استقطابات واستنفارات طائفية. فكما هيأ النظام الاستبدادي في العراق الأرضية للانقسام العراقي، وسهل بذلك الاحتلال وقلل نسبيا من صعوبة السيطرة الأميركية، فإن شقيقه السوري لم يقصر في تفكيك لحمة المجتمع السوري واللعب على تعدديته الإثنية والدينية والطائفية، الأمر الذي يثير مخاطر التفكك الاجتماعي الأهلي كلما اشتد دور القوى الخارجية فاعلية.  
إن التلاقي الموضوعي بين نوعين من سياسة "فرق تسد"، استبدادي داخلي وامبراطوري خارجي، يضع المجتمع السوري أمام تحد وجودي يكاد يكون غير مسبوق. 
سياسة الديمقراطيين
هل هناك ما يمكن أن يفعله الديمقراطيون السوريون؟
لنتحدث قبل كل شيء عما ينبغي ألا نفعل. ليس لنا أن نعلن نوعا من حالة الطوارئ التي تدفع للالتحاق موضوعيا أو فعليا بالنظام. نطالب أنفسنا وغيرنا أيضا بالقطيعة مع خطاب الطوارئ وثقافتها ومع محاولات بعضنا إثبات وطنيته أمام النظام. هذا إما خضوع للابتزاز الإيديولوجي، أو محاولة، واعية أو غير واعية، لخلق قواسم مشتركة معه. وهو في الحالين أهم أسباب تمييع الموقف المعارض. لقد أثبت النظام مرارا أنه لا يقبل شراكة وطنية ولا مساواة سياسية بين المواطنين، وليس في وارد الانفتاح على الشعب ، وأن ما يشغل باله هو بقاءه وليس أي شيء آخر. وهو يشعر بالسعادة حين يجد معارضين يتبرعون بتهويل الأخطار الخارجية أو التنديد بالخطر الأصولي المزعوم. فإيديولوجيته لا تقوم على شيء آخر. وقد استخدمها، إيديولوجيا الأخطار الخارجية تحديداً، على الدوام سلاحاً لمحاصرة المعارضة ووضعها في موقع الدفاع. يناسبه أيضا أن يبادر معارضون إلى نشر الخوف وبذر الشكوك بين مكونات المجتمع، فسياسته لا تقوم على شيء آخر غير تخويف السوريين من بعضهم والعبث باختلافاتهم السياسية والإثنية والدينية والمذهبية. إن مفهومي النظام للوطنية وللوحدة الوطنية يعنيان شيئا واحدا: استلام رقبة البلد من قبل طاقم أبدى على الدوام استعدادا للتفاهم مع "الخارج" واللعب بالداخل. 
بلادنا مهددة فعلا لكن تكتيف الشعب وإخراجه من الحياة السياسية ليس وسيلة للوقوف في وجه التهديدات. إن أمن سوريا يمر بصورة محتومة عبر طي صفحة النظام الأمني الذي لا يفكر بغير أمنه هو والذي لا ينظر إلى المجتمع السوري إلا كمصدر للخطر. وقد برهن النظام مرارا وتكرارا أنه مستعد للتفاهم مع القوى الدولية التي يزعم محاربتها، وأعلن انه مستعد للتعاون مع الأميركيين، وانه يبحث عن قضية مشتركة معهم (يتطوع مثلا لمحاربة التطرف الديني كما أعلن غير مرة)، وأنه بالمقابل غير مستعد للعمل مع القوى الوطنية الديمقراطية والفعاليات الاجتماعية في المجتمع السوري من اجل مواجهة التحديات الخارجية أو التوجه نحو إصلاح دخلي جدي. التفاهم المحتمل، بل المرجح، هو بين النظام وبين قوى الهيمنة الدولية والإقليمية، وليس أبدا بين المعارضة الديمقراطية والنظام .
وحدة المعارضة لا تقوم دون خط ديمقراطي معارض غير مائع، وغير منشغل بتمجيد الذات والدعاية الذاتية على طريقة النظام نفسه. الميوعة من جهة، والنرجسية من جهة أخرى، هما آفتا العمل المعارض اللتان أعاقتا على الدوام وحدة المعارضة السورية ونجاعة عملها، إلى جانب الخوف من آلة القمع السلطوية المرفوعة دوماً فوق رأس المجتمع . وفي ذلك ما يشير إلى أزمة الوعي المعارض في سوريا وإصابته بعدوى النظام. فالنظام يشكو على الدوام من لا ديمقراطية النظام الدولي، لكنه مستعد في كل وقت للتفاهم مع حكام العالم الأقوياء والتراجع أمام ضغوطهم لضمان استمراره. وهو أيضا لا يكف عن الدعوة للوحدة والتضامن العربي، لكنه كذلك لا يشبع من تمجيد ذاته والنيل من الأطراف العربية الأخرى من جهة، والشكوى من استبعادها له أو حتى تآمرها عليه من جهة أخرى. استنساخ هذا السلوك ضمن المعارضة يورثها العجز والتخلف وعدم الفاعلية . 
وحدة المعارضة ليست شعارا دعائيا، إنها هي وحدة الموقف المعارض ومناخ إنساني وأخلاقي من الثقة والتقارب يدفع نحو عمل مشترك. سياسيا، وحدة المعارضة ممكنة وضرورية، لكن فقط على أرضية التوافق على تغيير عميق لنظام الحكم بما يضع حدا نهائيا لنظام الحزب الواحد وتسلط أجهزة مخابراته، ويفتح الباب للتفاهم بين تيارات الشعب السوري الرئيسية، ويتجه نحو انتخابات حرة وتعددية على المستويات جميعا.
أهم من وحدة المعارضة استقلاليتها. وقبل أن تعني الاستقلالية رفض الالتحاق بالنظام أو بالقوى الدولية المهيمنة، فإنها تعني الثبات على مبدأ التغيير الديمقراطي للنظام وقياس كل السياسات والمواقف به. فليس هناك هدف أكثر جذرية من ذلك لمن يقيس الأمور بالجذرية، وليس هناك هدف أكثر اعتدالا وبعدا عن الاستئصالية من ذلك لمن يخشى الاستئصال والتطرف .    
قد يكون النظام على عتبة تغيير اضطراري فيه أو حتى له. هذا أمر مهم وحيوي جدا، لكنه ليس التغيير الديمقراطي الذي تحتاجه سورية. التغيير المحتمل سيلبي مطالب ومصالح القوى الفاعلة فيه ، القوى الغربية وبعض قوى النظام أو المستفيدين منه، وليس بحال مصالح ومطالب المجتمع السوري ، التي لا يمكن أن تتحقق إلا بأيدي السوريين وبجهودهم المشتركة .
 وهنا يكمن الخيار الآخر ، الخيار الشعبي لإنجاز التغيير الوطني الديمقراطي القائم على التحرك الموحد لمختلف أطراف الطيف الديمقراطي المعارض ، في الداخل والخارج ، لإنجاز توافقات وطنية ، تلتزم بها أوسع الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، من مختلف التيارات الفكرية والانتماءات الأيديولوجية  لإنقاذ سورية ، وفتح صفحة جديدة في تاريخها . إنه خيار يقوم على مشاركة الجميع . لا يستبعد أحداً ، ولا يقصي طرفاً ، حتى من يقبل من أهل النظام بإجراء هذا التغيير ، ولا يحق لأحد المطالبة بدور استثنائي فيه . إن وحدة قوى التغيير الوطنية الديمقراطية ليست ممكنة فقط ، لكنها واجب تفرضه اليوم متطلبات المرحلة ، وتقتضيه مصلحة البلاد . إذا كنا نريد لسورية أن تخرج حقاً من أزمتها الوطنية ، ويكون لشعبها دور في تقرير مصيره .

"من مواد  الرأي 46"