حركة 23 شباط - ..الواقع والخيال



 


عادل اسماعيل
    

 

بدايةً نزجي جزيل الشكر للصحافي ، والوزير الأردني السابق السيد صالح القلاب على ما جاء في مقال له في صحيفة "الشرق الأوسط " بتاريخ 23 /2/ 2006عن "حركة 23 شباط " 1966في سورية. وبغض النظر عن اختلافنا معه فيما يذهب إليه بشأن هذه الحركة وسواها من شجون "بعثية" ، فقد ألقى ضوءا على هذه الحركة التي لم تحظ من المهتمين بالشأن السياسي إلا بالتعتيم والتجاهل غالبا ، والخلط ( المقصود أو البريء ) بينها وبين بقية أجنحة البعث وتياراته ، حيث توضع الأمور كلها في سلة واحدة ، وتعلق الأوزار جميعها على مشجب واحد ، وكأن تاريخ البعث خط ٌ واحدٌ مستقيمٌ لا يلوي يمينا ولا يسارا منذ كان هذا الحزب فكرة وحتى آخر رشوة حصل عليها موظف فاسد في هذا المنصب أو ذاك .
وشكرا للسيد القلاب أيضا لأنه حفزنا على العودة إلى تلك الفترة من تاريخ سورية المعاصر التي غلب فيها نهج "23شباط" ومنطقها وتعاطيها مع قضايا الوطن والأمة،ولو كانت ، في رأينا ، فترة قصيرة جدا لم تتجاوز السنتين في حقيقة الأمر ، حيث عطلت زخمها ، ثم قطعت مسارها هزيمةُ الخامس من حزيران 1967 وما نتج عنها من أزمة داخلية وخلاف حاد حول سبل الرد على هذه الهزيمة وتحرير الأرض ؛ فمن المعروف أن قيادة " 23 شباط " رفضت قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 أساسا لحل القضية ، وظلت متمسكة بقرارات قمة الخرطوم ( لا صلح لا اعتراف لا مفاوضات) ، ورأت أن السبيل الأنجع هو المقاومة والكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد ، ومواصلة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يتوافق وهذا الخيار دون إغفال أهمية العمل السياسي – الدبلوماسي... ومن عاش تلك الأيام لا شك يتذكر مشاهد الفدائيين من كل الانتماءات في شوارع دمشق وغيرها من المدن السورية.
ولا يسعنا في هذا السياق أيضا إلا أن نشير إلى مقال السيد حمود الشوفي في " القدس العربي " ( أعاد نشره موقع "الرأي " بتاريخ 25 / 2/ 2006) الذي ألمح فيه إلى ما يفيد ضمنا أن كل المصائب بدأت من 23 شباط 1966 ، مسجلا بذلك تمايزا "هاما" عن الذين يرون البداية في الثامن من آذار ، فالسيد الشوفي يبرّئ الثامن من آذار ويجرّم 23 شباط معتبرا أنها مستمرة في حكم سورية حتى الآن ، وما الباقي إلا محطات هامشية في مسار طويل اصطبغ بالطائفية منذ 23 شباط 1966 تحديدا كما يُفهم مما كتبه السيد الشوفي الذي يرتكب في ما ذهب إليه من رأي يشبه التأكيد ، جنايةً كبرى بحق كل الوقائع وسياقها التاريخي.
كنا شبانا صغار السن ، عندما سمعنا من المذياع ذات صباح من شهر شباط 1966أناشيد وطنية قومية ثورية تعلن عن وقوع انقلاب في البلد , فهالنا الأمر.. إذ كيف ينقلب الرفاق على الرفاق ؟؟.. تابعنا الأخبار والتعليقات والتوقعات طيلة النهار تقريبا. استقر الوضع ميدانيا ، وتوضح للعالم من يكون الانقلابيون وما هي هويتهم ودوافعهم . منا من اقتنع ومنا من لم يقتنع... وكان فراق. ولو أننا أدركنا آنذاك ، أن اختلاف الرؤى والمناهج أمر طبيعي ، لما صار الفراق شقاقا فعداءً ، ولا عودةً – عند البعض - إلى ثقافة غافية في بواطن العقول تمتح ، عندما تستفيق ، من ينابيع ما قبل وطنية بكثير ، ويصعب عليها ( رغم يساريتها أحيانا ) أن ترى غير الانتماء الطائفي محركا لمسيرة التاريخ ، ومفسرا لسلوك البشر وخياراتهم السياسية ، ومحددا لمصالحهم الاقتصادية!؟.
يلتقي السيد القلاب مع السيد الشوفي في أن مرحلة " 23 شباط " لا تزال مستمرة حتى الآن ، إذ يقول " إن تحركات عبد الحليم خدام ( ...... ) توحي بأن حركة فبراير/ شباط التي وقعت في مثل هذا اليوم قبل أربعين سنة بالتمام والكمال قد تصل إلى خط النهاية قريبا ، فينتهي حكم هذا الحزب في سورية كما انتهى حكم جناحه الآخر في بلاد الرافدين قبل ثلاثة أعوام ". لا ندري إلى ما يستند السيد القلاب في قناعته التي ربما جعلته يطرح هذا الاحتمال ، ولأي غرض يهدف عندما يستذكر الطريقة التي انتهى بها حكم البعث في العراق ، ويومئ لاحتمال انتهاء حكمه في سورية أيضا ، ويقرن كل ذلك بـ "حركة 23 شباط " ، متنبئا لهذه الحركة بالوصول قريبا إلى خط النهاية ( أية نهاية ؟ ) .
القاصي والداني ، وأي مراقب متتبع ، وخاصة إذا كان قريبا من " البعث " ، يعرف أن حركة " 23 شباط " قد انتهت منذ أكثر من 35 عاما إذا كان المقصود بها نظام حكم ، أو سلطة حاكمة ، أو قيادة سياسية تشرف على شؤون البلد... ومعروفٌ لكل من السيدين القلاب والشوفي متى وكيف انتهت هذه الحركة ، وأن أي حديث عن استمراريتها في السلطة أو وراثتها من قبل آخرين ما هو إلا من صنع الخيال الخصب ، أو من باب الافتئات على التاريخ وكل مساراته طيلة ثلاثة عقود ونيف ، والإمعان في تجاهل الوقائع والاستهتار بها. فكيف تكون هذه الحركة مستمرة في نظام حكم بينما العديد العديد من مناضليها ذاقوا ويلات السجن والاعتقال ، وكثيرون غيرهم في المنافي ، بسبب معارضتهم نظام حكم يتعمد السيدان (كما يبدو لنا) التعامي عن أية فروق بينه وبين الحركة. فهل تستقيم الأمور هكذا ؟؟ .. لا ندري إن كان المصير البائس الذي آل إليه نظام البعث في العراق ، والحنين إلى " أيام عزه" ، والتبشير بمصير مشابه لغيره من أجنحة البعث هو وراء الربط التعسفي بين النظامين و" 23 شباط " رغبةً وأملاً في أن لا تبقى بقية من بعث ، وفي أن ينال مناضلو هذه الحركة وحزبهم ، حزب البعث الديمقراطي ، ما ناله غيرهم ؟؟ أم أن في هذا الربط والتبشير تأليبا على هذه الحركة التي شهد لمناضليها العدو قبل الصديق بالاستقامة ونظافة اليد والإخلاص والمبدئية ؟ أم إنه التحريض عليها بهدف تشويه حقيقتها وتاريخها لكي لا تبقى أطراف بعثية خارج التوصيفات الدارجة هذه الأيام محليا ودوليا ؟ ..
لن ننصِّب أنفسنا في هذا المقام مرجعا يصدر ( لا سمح الله ) الأحكام لصالح أو ضد هذا الطرف أو ذاك من أطراف البعث ، ولا نريد أن ندخل في جدل قديم استنزف الكثير من الوقت والتعب حول شرعية وجدوى ومسوغات قيام 23 شباط , أو8 آذار في سورية ، وشباط وتموز في العراق ...إلخ . لندع ذلك للتاريخ الذي لا بد أن يصدر حكمه العادل عاجلا أم آجلا .. ولنلتفت الآن إلى ما هو أهم بكثير ، أي مواجهة الواقع الراهن بكل ما ينطوي عليه من تهديدات ومخاطر تطال الوطن والأمة في الصميم.
ولكننا ، ولكي نضع أقدامنا على الطريق الصحيح بهذا الاتجاه ، لا نرى مندوحة من التنبيه إلى ضرورة احترام الوقائع التاريخية وعقول القراء أيضا. ولذلك نود القول أن " 23 شباط " التي سقط نظامها / سلطتها / عام 1970، وزُج بقادتها في السجون ، وشُرّد العديد من مناضليها وكوادرها ورموزها في أصقاع الأرض ، قد استمرت ( رغم الحصار الإعلامي والظروف بالغة القسوة والتعقيد ) نهجا سياسيا ، وتنظيما وطنيا تقدميا معارضا لا علاقة له بهذا النظام أو ذاك ، وطورت ورسخت مفاهيمها ومنطلقاتها ، وبلورت مواقفها الواضحة إزاء أغلب قضايا الأمة وما واجهته من أحداث ومنعطفات منذ 35 سنة وحتى الآن ، بغض النظر عن الصواب أو الخطأ في هذه المواقف ، فنحن هنا ، كما أشرنا ، لا نريد أن نصدر أحكاما قطعية على أي كان. لقد رسخت هذه الحركة استقلاليتها العقائدية والتنظيمية والسياسية ، وأثبتت وجودها عندما استطاعت استيعاب أعداد من المناضلين وصلت بهم ومعهم إلى مؤتمر قومي سنة 1980 أسفر ، من جملة ما أسفر ، عن تعديل في اسم الحزب فصار "حزب البعث الديمقراطي .." ، بعد أن كانت قد أثبتت حضورا على الصعيد الداخلي تجلى ( إلى جانب أمور أخرى ) بالمساهمة الجادة كعضو مؤسس في إقامة " التجمع الوطني الديمقراطي " الذي ضم ، ولا يزال ، أربع تنظيمات سياسية أخرى ، ويضطلع الآن كما هو معروف للجميع بدور لا مجال لنكرانه على صعيد المعارضة الوطنية الديمقراطية الواعية لمتطلبات المرحلة والرافضة لكل أشكال التدخل الخارجي في شؤون وطننا الداخلية وما قد يجره ذلك من ويلات. فأين هي إذن حركة " 23 شباط " مما جرى في بلد حكمه ، ومما يجرى في بلد يحكمه ، حزب البعث. ؟؟ ولمَ يُنسب إليها ما لا علاقة لها به : لا نظريا ، ولا تنظيميا ، ولا ممارسةً سياسيةً ؟؟ ( بغض النظر عن أي تقييم لتجارب البعث الأخرى ). أم أن كل شيء كان على أحسن ما يرام منذ 8 آذار وحتى 23 شباط ... وبعد ذلك أظلمت الدنيا ولا تزال ...؟؟
إن من يعود إلى الفترة التي أعقبت 8 شباط العراقية و8 آذار السورية ، وسبقت 23 شباط ، سيدرك - إذا التزم الدقة والموضوعية في مراجعة ممارسات ووثائق كل الأطراف - أن هذه الفترة كانت عاصفةً بالخلافات والصراعات بين الكل ، وحول كل شيء : قومي قطري ، يميني يساري ، مدني عسكري ، وحدوي انفصالي ، مع القيادة التاريخية ، ضد القيادة التاريخية ... إلخ ، دون أن ننسى طبعا التيار "الماركسي" وما سجله في المؤتمر القومي السادس 1963من انتصار هام ، ومبكر، يعتز به حتى الآن يساريو البعث بغض النظر عن مواقعهم الحالية.
لم تكن " 23 شباط " ، كما يظن أو قد يظن البعض ، سببا لنشوء خلافات حادة في صفوف البعث وقياداته ، بقدر ما كانت تحصيل حاصل لهذه الخلافات وحسما لها ( وهذا في طبيعة الأشياء ) لصالح تيار من بين تيارات كان قد احتدم السجال فيما بينها مع الوصول إلى السلطة وما اقتضاه من ضرورة وجود برنامج ، أو رؤية سياسية واضحة ، للاضطلاع بالمهام التي تفرضها مسؤولية قيادة الدولة والنهوض بأعباء البلاد والعباد. ماذا يعني "المنهاج المرحلي" ، و" القفزة النوعية " ، و" الخطة الخمسية " والموقف من التأميم والإصلاح الزراعي ... إذا لم تكن تعنى ذلك بالضبط والتحديد ؟ وهل كان الموقف واحدا من هذه القضايا وسواها ؟ وهل كانت حياة البعث الداخلية خلواً من الخلافات والتناقضات والصراعات قبل السلطة ؟ ألم تثر زوبعة من الانتقاد ضد قيادة البعث التاريخية لأنها ضحَّت بالحزب ، وبالحياة الحزبية وحرية العمل السياسي في سورية من أجل الوحدة مع مصر الناصرية عام 1958، وقبلت بحل الأحزاب ومنها البعث نفسه ؟ ألم يبلغ الخلاف ذروته مع أكرم الحوراني أيام حكم الانفصال بسبب هذه المواقف وغيرها ما أدى إلى فصله من ، أو انفصاله عن ، حزب البعث قبل 23 شباط ، بل وقبل 8 آذار ؟.. نحن لا نذكّر بكل هذه الأمور لنسفِّه البعث ، أو لنأخذ عليه ذلك سببا لكل ما حصل فيما بعد ، بل لنشير إلى مسألة موضوعية وغاية في البساطة ، وهي أن أي حزب سياسي ، وخاصة إذا كان يعبر عن فئات اجتماعية متباينة , معرضٌ لتباين الرؤى وللانشقاقات والاحتراب فيما بين أجنحته (الوسيلة والأسلوب أمر آخر!) ، وليس في ذلك سبة ولا جريمة ، فتاريخ أحزاب الدنيا مليء بمثل هذه المشاهد ، خصوصا أن البعث حزب من العالم الثالث وفي مجتمعات تنخرها أمراض اجتماعية لا حصر لها ، ولا بد أن تصيب المناضلين برذاذها أينما كانوا بهذا القدر أو ذاك .. كانت الخلافات موجودة في حزب البعث قبل وبعد 8 آذار ، قبل وبعد 23 شباط ، قبل وبعد 8 شباط 1963 وتموز 1968 في العراق ...
المراجعة تقتضي منا في هذا السياق أن نذكّر بأن " 23 شباط " ، كتيار داخل البعث ، فانقلاب فنظام حكم فحزب مستقل ، اتسمت على الدوام بطرح سياسي واضح في تمايزه عن نهج غيرها ممن حملوا الاسم نفسه سابقا ولاحقا ، وفي هذا سر ومبرر بقائها واستمرارها. وهذه الحركة ووريثها "حزب البعث الديمقراطي.." لم تتهرب من مسؤوليتها عما مارسته في السلطة وخارجها ، ولم تر حرجا في أن تعلن بكل وضوح في العديد من أدبياتها ووثائق مؤتمراتها الحزبية ، وخاصة المؤتمر القومي الحادي عشر 1980 ، عن الممارسات والمواقف الخاطئة في مسيرتها النضالية ، ولم يدخر مناضلوها جهدا في تسديد سهام النقد نحو مواضع الخطأ في عملهم على أي صعيد.
ولكي نسلك الطريق الصحيح في التعامل مع الخلافات على صعيد الأحزاب والتنظيمات السياسية وفيما بينها ، وخاصة ذات المنابع المتقاربة ، نرى لزاما علينا أن ننعش ذاكرتنا قليلا ونحكّم العقل والضمير الوطني والقومي في معالجة كل هذه الخلافات ، فلا نلوي عنق الحقيقة لنبرر موقفاً اتخذناه ، ولا "ننسى" واقعةً تدحض رأيا رأيناه ، ولا نتشبث بموقعٍ قبل "دهرٍ" شغلناه. ولا مناص أمام الجميع ، وخاصة أولئك الذين علقوا الآمال على الأنظمة وراهنوا على قوتها واقتدارها وانتصارها بعون الله ، من مراجعة نقدية دقيقة صارمة صادقة مع الذات والآخر لكل هذه الحقبة الطويلة المريرة المهينة المضنية بكوابيس القمع والاستبداد ، ولكل الممارسات والمواقف ، واستخلاص العبرة الرئيس : إن وطنا موحدا مزدهرا لا يُبنى بالعبيد.