قراءة مقارنة بين التقارير الثلاثة للجنة التحقيق الدولية
تجنّب برامرتز اتهامات ميليس المباشرة لسوريا.. وإن لم يسقطها
تفجيران وليس واحداً .. وتدقيق في رواية <<أبو عدس>> و<<حملة الأحباش>>

 


كتب محرر الشؤون القانونية :السفير 17/3/2006

 

هل خرج الرئيس الجديد للجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي البلجيكي سيرج برامرتز في تقريره الى مجلس الأمن عن مسار التقريرين السابقين لسلفه الألماني ديتليف ميليس؟
وهل يمهد التقرير الجديد الذي خرج الى العلن قبل يومين، لمسالك جديدة في مجرى التحقيقات غير تلك التي ظهرت طوال السنة المنصرمة؟
وهل يمكن للفوارق التي ظهرت في هذا التقرير عن سابقيه ان تؤدي الى تبرئة اسماء وجهات سياسية محددة وردت في التقريرين السابقين كمشتبه فيهم بالتورط في الاغتيال وأن توجه لاحقا اصابع الاتهام الى أسماء وجهات اخرى؟
وهل من شأن أي تبدلات محتملة في مجرى التحقيق ان تؤثر في معطيات كان لها الدور الكبير في التحولات السياسية الكبرى التي شهدها لبنان منذ عام ونيف والتي تخطت نتائجها حدود هذا البلد... وتالياً هل تؤسس أي معطيات جديدة بدورها لسياسات مغايرة وتحولات مختلفة؟
ثمة اسئلة كثيرة يطرحها التقرير الجديد الأكثر تحفظا والذي تميز بمنهجية مختلفة عن سابقيه لا سيما في تجنبه الاتهامات السياسية التي حفل بها تقريرا القاضي ميليس، وعدم توجيه اصابع الاتهام لأسماء محددة وردت في التقريرين الأولين. كذلك فهو قد اشار إلى تعاون سوري افضل في التحقيق وخلوّه من اسماء مسؤولين سوريين وضعت في خانة المشتبه فيهم او على الأقل معرفتهم المسبقة بالجريمة وذلك خلافا لتقريري ميليس.
وفي مقارنة اولية بين تقرير القاضي البلجيكي وتقريري سلفه الالماني تظهر بعض التبيانات في بعض المسائل الاساسية المتعلقة بسير التحقيق. لكن السياق العام لتقرير برامرتز لا يوصل بالضرورة الى استنتاجات عامة مغايرة لتلك التي توصل إليها ميليس على رغم انه لم يستبعد إهمال مسارات جديدة للتحقيق اهمها التقرير السابق كما ورد في الفقرة 18.
سوريا
ولعل التباين الاوضح بين برامرتز وميليس يتعلق بسوريا. ذلك ان القاضي الالماني افرد في تقريريه حيزا واسعا لتأكيد استحالة حدوث عملية الاغتيال من دون تورط سوري مباشر بها، او على الأقل من دون علم المسؤولين السوريين الكبار المسبق بها. وهو خصص الفقرات 23 الى 30 من تقريره الأول للحديث عن الخلفية المتعثرة للعلاقات بين الحريري وسوريا ثم الفقرات 31 35 للحديث عن عدم تعاون الحكومة السورية مع التحقيق وإعاقة عمل اللجنة ثم يتحدث في الفقرات من 94 حتى 117 عن دور مسؤولين سوريين في التخطيط للاغتيال ليصل في الفقرة 203 من تقريره الى خلاصة مفادها: <<بناءً على اكتشافات اللجنة والتحقيق اللبناني حتى الآن وعلى قاعدة الأدلة الحسية والوثائقية التي جمعت، والدلائل التي تم التوصل إليها حتى الآن، هناك دليل متجمع يشير الى التورط السوري اللبناني في هذا العمل الإرهابي. انها حقيقة معروفة جدا ان للاستخبارات العسكرية السورية وجوداً متغلغلاً في لبنان على الأقل حتى انسحاب القوات السورية تنفيذا للقرار 1559. وكان كبار المسؤولين الأمنيين السابقين في لبنان معينين من قبلهم. ومع تدخل الاستخبارات السورية واللبنانية بشكل منسق في المؤسسات اللبنانية والمجتمع، سيكون من الصعب تصور سيناريو جرت فيه مؤامرة معقدة لاغتيال أحد من دون علمهم>>.
وفي تقريره الثاني يكرر ميليس اتهاماته السورية وحمل بشدة على عدم التعاون مع اللجنة ليخلص في الفقرة 94 من هذا التقرير الى توصية مجلس الأمن بالتمديد للجنة لمدة لا تقل عن ستة اشهر <<لأن مسار بدء إظهار السلطات السورية التزاماتها لمجلس الأمن بطيء...>>. وطالب في الفقرة التالية والأخيرة <<بالتعاون الكامل وغير المشروط للسلطات السورية في المرحلة المقبلة من تحقيقاتها>>.
وخلافا لذلك فإن تقرير برامرتز لم يتضمن أي اتهام سياسي لسوريا وخلا من اسماء مسؤولين سوريين كان ميليس وضعها في خانة المشتبه فيهم. كذلك اشار للمرة الأولى الى تعاون سوري وإن تكن نتائجه الكاملة لم تظهر بعد. وقال ان اللجنة <<وضعت الاساس مع السلطات السورية لتحسين التعاون>> وانها <<تتطلع الى ان تتلقى في حينه ردوداً ذات صلة على طلباتها>>. وأكد ان <<الحكومة السورية لبت رسميا، وخصوصا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كل طلبات المساعدة تقريبا التي تقدمت بها اللجنة>>. لكنه اضاف و<<على رغم هذا التقدم المشجع فإن اللجنة ستحكم في النهاية على تعاون السلطات السورية على أساس المعلومات التي قدمت وسرعة تلبية طلباتها>>.
والأهم ان برامرتز كشف انه وفريقه سيلتقون الرئيس السوري بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع الشهر المقبل. وهذا يعني احد امرين: ان الجانب السوري اسقط تحفظاته التي كانت قائمة في هذ ا الشأن بعد تلقيه ضمانات محددة بأن سقف التحقيق لن يطاول مستويات معينة، او ان التعاون السوري الذي تتحدث عنه اللجنة يحتاج الى الوصول الى أعلى مستوى.
في اي حال فإن برامرتز ابقى سيف التحقيق مصلتاً بقوة على الرقبة السورية مذكراً في الفقرة 93 من تقريره انه: <<وفقا للقرارين 1595 و1636، فإن على سوريا ان تؤمن للجنة وصولا كاملا الى الوثائق والمعلومات التوثيقية والحسية والأدلة التي تملكها والتي تفترض اللجنة ان لها علاقة وثيقة بالموضوع. يطلب القراران من سوريا ايضا ان تؤمن للجنة الوصول الكامل للمواقع والمنشآت على الحدود السورية>>. ولعل في هذا الأمر شيئاً من التذكير بفرق الأمم المتحدة للتفتيش عن الأسلحة في العراق.
الاغتيالات الأخرى
والجديد الآخر في تقرير برامرتز هو العرض المسهب لعمليات الاغتيال الأخرى التي تعرض لها سياسيون وإعلاميون بارزون وعمليات التفجير التي شهدتها المناطق الشرقية بعد 14 شباط وتظهير اوجه الشبه بينها لكنه اعتبر ان <<من المبكر الاستنتاج او حتى الافتراض ان أياً من القضايا ال14 (التفجيرات والاغتيالات) مرتبطة بعضها ببعض او بقضية الحريري>>. وإن كان قد لفت الى ان المستهدفين من سياسيين وإعلاميين <<كانوا معروفين في مواقفهم المنتقدة للوجود السوري في لبنان وكانوا صعدوا وكثفوا من انتقاداتهم تلك بعد اغتيال الحريري ان في مقالاتهم، او في برامج تلفزيونية، او في تصريحات عامة>>.
المشتبه فيهم والموقوفون
أما في ما يتعلق بالاشخاص ال10 الموقوفين لدى السلطات اللبنانية كمشتبه فيهم ومن بينهم الضباط الأربعة الموقوفون: اللواء جميل السيد واللواء علي الحاج والعميد مصطفى حمدان والعميد ريمون عازار، فإن تقرير برامرتز لم يسمّهم بالاسم لكنه قال <<ان كل هؤلاء مشتبه في ارتكابهم جرائم بموجب قانون العقوبات والاسلحة والذخائر وقانون 11 كانون الثاني 1958>>. وقسم هؤلاء الى ثلاث فئات:
اشخاص يشتبه في أنهم حرضوا وشاركوا في تخطيط الجريمة وتنفيذها، أشخاص يشتبه في إخفائهم معلومات تتعلق بجريمة ضد امن الدولة او في تورطهم في تزوير وثائق شخصية او التحايل في استعمالها، اشخاص يشتبه في إدلائهم بشهادات مزورة>>.
فوق الأرض أو تحته
وبالنسبة الى انفجار 14 شباط ذاته والذي كان مدار جدل واسع بين اللبنانيين إذا كان حدث فوق الأرض او تحتها وما يطرحه ذلك من احتمالات ان يكون التفجير بواسطة ا نتحاري او بواسطة آليات التحكم عن بعد، كذلك ما يمكن ان يطرحه من احتمالات عن الجهة التي امرت بأعمال الحفر، فإن تقرير برامرتز لم يحسم هذا الجدل وأضاف احتمال المزيج من تفجيرين بفارق ثانية في التوقيت.
وفي المقابل فإن التقرير الأول لميليس كان اكد في خلاصة الفقرات من 153 الى 161 ان الانفجار <<حدث فوق سطح الأرض، ولهذا الغرض استخدم ما لا يقل عن ألف كيلوغرام من المتفجرات العسكرية>>.
كذلك لم يحسم فريق برامرتز مسألة دور شاحنة الميتسوبيشي في التفجير. وقال <<ان هناك حاجة لإجراء تحقيقات اضافية حول المزاعم التي تتعلق بمشاهدة شاحنة ميتسوبيشي في مخيم الزبداني (سوريا)>>.
وكان تقرير ميليس نقل عن الشاهد الموقوف زهير الصديق انه <<رأى شاحنة الميتسوبيشي في معسكر الزبداني حيث كان الميكانيكيون يعملون عليها ويفرغون جوانبها. نزعت الجوانب وكذلك الأبواب حيث تم توسيعها وحشو المتفجرات وكذلك تحت مقعد السائق (الفقرة 110)>>.
كما ترك برامرتز خيط التحقيق مفتوحا في ما يتعلق بصور كاميرات مصرف <<ايتش اس بي سي>> قرب مكان الانفجار. وأشار الى ان لجنته لا تزال تجري مسحا جنائيا لموقع الجريمة على رغم انه بات يعتبر <<نظيفا>>. وأكد ضرورة إجراء المزيد من المعاينة الجنائية والتدقيق الاعلامي والتقني في شريط الفيديو الخاص بأحمد أبو عدس الذي تناوله ميليس بإسهاب في الفقرات 77 81 من تقريره الأول والفقرة 59 من تقريره الثاني. كما دعا الى مزيد من التحليل لتحديد الوقت للتفجير حيث هناك فارق دقيقة و21 ثانية بين الوقت الذي حدده المركز الوطني للجيوفيزياء والوقت الذي حدده تقرير ميليس.
بنك المدينة
وعلى غرار التقريرين السابقين فإن التقرير الثالث ابقى قضية بنك المدينة قيد البحث واعتبر انها <<مسألة تبقى مهمة جدا في اطار التحقيقات المستقبلية (الفقرة 38)>>. كذلك شدد على ما ذكره التقرير الثاني في ما يتعلق بالصندوق الذي أداره المدير العام للأمن العام جميل السيد ورأى ايضا انه يبقى <<عنصرا يؤخذ في الاعتبار في التحقيق عندما يكون ذلك ملائما>>.
وفي ما يتعلق بدور جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية <<الاحباش>> قال التقرير الجديد انه <<لا يزال خيطا قائما في التحقيق>>. وكذلك مسألة الاطلاع على ارشيف الاستخبارات العسكرية السورية.
وإذا كان التقرير الأول اكتفى بوصف عملية الاغتيال بأنها عمل قامت به <<مجموعة منظمة بشكل جيد، فضلا عن موارد مهمة وامكانات>>، فإن التقرير الثالث وصف الذين شاركوا في تنفيذها ب<<حرفية شديدة في اسلوبهم اذ خططوا لضمان نسبة عالية لنجاحها وأجروا العملية بمستويات عالية من الانضباط الشخصي والجماعي>>. وافترض ان بعضهم على الاقل لهم <<خبرة في هذا النوع من النشاط الإرهابي>>. وربما فتح هذا التوصيف الدقيق الباب لاتهام جهات جديدة اخرى متورطة في الاغتيال غير تلك التي ذكرت سابقا من دون ان يرفع التهمة عن المتهمين الأول.
الأجهزة اللبنانية
ومثل التقرير الاول اشار التقرير الثالث الى النواقص وأوجه الخلل في عمل الاجهزة الجنائية والشرعية اللبنانية والى القلق الذي لا يزال ينتاب بعض <<المصادر الحساسة والشهود المحتملين>> من تقديم المعلومات حيث <<يشترطون أحيانا للتعاون مع اللجنة عدم اطلاع السلطات اللبنانية على المعلومات التي سيدلون بها>>.
على العموم فإن التقرير الجديد لم يخرج عن المسار العام للتقريرين وإن كان اكثر تحفظا وحذرا في إطلاق الاتهامات السياسية.
وعلى رغم انه لم يؤكد تلك الاتهامات فإنه لم ينفها كذلك ولم يسقط أياً من الادلة الاساسية التي أسس عليها ميليس تقريريه.
وفي اي حال فإن النتيجة النهائية للتحقيق تبقى مرتبطة بما سيؤول إليه سير هذه العملية في سوريا لا سيما وكما يبدو انها ستصل الى مفصل حساس بعد اجتماع برامرتز الى الرئيس الأسد

تقرير برامريتس أطفأ زوابع ميليس ...
أيمن ياغي : الوطن القطرية 17/3/2006
كان من الطبيعي أن تعبر سوريا عن ارتياحها وإعجابها بالطريقة الهادئة والسلسة التي عمل بها المحقق الدولي الجديد سيرج برامريتس بعد أن قدم للأسرة الدولية التقرير الثالث حول ظروف اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، بعد تقريرين مثيرين للجدل ساهما في توتير الشارعين اللبناني والسوري قدمهما سلفه ديتليف ميليس
فالتقرير الجديد ليس كسابقيه، والأجواء التي عمل فيها برامريتس لا تشبه قطعا تلك الطريقة الاستفزازية البعيدة عن المنهج المهني الصحيح التي اتبعها ميليس والتي قادت باستنتاجاتها الأولية غير المستندة إلى وثائق إلى إثارة زوابع من الاتهامات وضعت المنطقة برمتها على حافة التدهور، بينما القاضي الجديد برامريتس عمل بهدوء، وواقعية وخلف الأضواء وأقر بأن دمشق تتجاوب وتتعاون مع لجنته، وأن لديها النية للتعاون أكثر في المرحلة القادمة.
التقريران السابقان للقاضي ميليس جاء ا في سياق ضغوط أميركية قاسية على الأمم المتحدة لإحكام الحصار على دمشق وإجبارها على الخضوع لمشيئتها ولمشروعها الجديد في المنطقة، ولذلك فإن القاضي ميليس كان يبدو مجبرا على القول دائما ان دمشق لم تتعاون، وانها متورطة في عملية اغتيال الحريري ورافضا لقبول أي صيغة تطرحها عليه للتعاون.
ولأن الطريقة اختلفت بتغير الأشخاص والظروف المحيطة بهم فإن سوريا التي تأذت كثيرا من مزاجية المحقق السابق وتقاريره الفضائحية التي كانت تتسرب إلى وسائل الإعلام لتبني عليها هي الأخرى أحكاما، يحق لها أن تشيد بمهنية برامريتس وطريقة عمله، عله يتابع في هذا الاتجاه بعيدا عن سيف الضغوط المسلط على المنظمة الدولية من جانب الأميركيين، فالواقعية والمهنية أمران مهمان للوصول إلى معرفة حقيقة اغتيال الحريري وإنهاء المبررات لمحاصرة سوريا سياسيا واقتصاديا، على هذه الخلفية وفي هذه الإشادة هدف سوري واضح وهو تشجيع برامريتس على المضي بهذه الطريقة المعقولة والسير وفقها في المستقبل.
بالتأكيد لن يعجب تقرير برامريتس الكثيرين في لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، لأنهم لا يبحثون أصلا عن حقيقة اغتيال الحريري بقدر ما يسعون إلى تجريم سوريا وإلباسها هذه القضية «زورا وبهتانا» وبالتالي استهدافها وتمرير كل الخطط والمشاريع المرسومة في دوائر البيت الأبيض، وقصر الإليزيه، حيث أن الأخير أصدر بيانا عبر وزارة الخارجية تباهى فيه بما سماه بـ «الحزم الدولي» الذي أجبر سوريا على التعاون مع لجنة التحقيق، في حين أن هذا «الحزم» لم يكن دوليا وإنما كان بمثابة ضغوط أميركية ـ فرنسية لا غير، لم تستطع حسبما يبدو تغيير اتجاه القاضي برامريتس وحرفه عن مساره المهني في هذه القضية بكل الأحوال، التقرير الدولي الجديد يوحي بالاطمئنان أكثر من سابقيه ويؤشر إذا استمر في هذه الطريقة إلى مرحلة مختلفة من التعاون السوري ـ الدولي نحو كشف حقيقة جريمة الاغتيال، التي قلبت الموازين في المنطقة وأسهمت في إحداث زلزال كبير ضرب دمشق وبيروت وفصم عرى العلاقة التاريخية بينهما.
ويبدو أن من مصلحة الجميع في المنطقة وخارجها أن يجرى التحقيق الدولي في مساره الصحيح بعيدا عن الضغوط الخارجية، ولابد أن يقرأوا جيدا أن سوريا «تعاونت» ولديها الرغبة للتعاون أكثر لإنهاء هذه القضية لأن القراءات المعاكسة ستعود بالأجواء لمربعها الأول الذي لن يستفيد منه أحد.