أتوجّه إليك في هذا اليوم الحزين لأعبّر لك بدايةً عن مدى تعاطفي معك ومع عائلتك مع إنّني أعلم بأنّك ستخالفني الرأي في ما سأقوله. لكنّني أودّ أن أؤكّد لك إنّ كلماتي لا تخفي أيّ دوافعٍ غير ما يصبّ في مصلحة لبنان، ولهذا السبّب لا أجد لقولها توقيتاً أفضل من ذكرى الاغتيال الوحشي لوالدك رحمه الله وهو الذي دفع دمه لأجل وطنه.
شاء القدر أن تدخل عالم السياسة بعد اغتيال والدك ورحيله السابق لأوانه، كما شاء أن تحصد انتصاراً واسعاً في الانتخابات النيابيّة وأن تُدخل معك أكثريّة نيابيّة إلى البرلمان في إطار موجةٍ محليّةٍ ودوليّةٍ انبثقت عن ردّ الفعل ضدّ العمل الإجرامي. ووافقتَ على مضضٍ على مسايرة قدرك وعليك أن تعرف بأنّ الحمل ثقيلٌ للغاية. جاء ذلك فيما يمرّ لبنان والمنطقة العربيّة بأحدى أكثر المراحل خطورةً والتي من شأنها أن ترسم سياسات الجيل المقبل. الآن وقد عدتَ إلى لبنان ويبدو أنّك مصمّمٌ على تأدية الدور الذي تمّ اختيارك من أجله، أودّ أن أتوجّه إليك كمواطنٍ عربيٍّ ولبناني وسنّيٍ من بيروت.
في وقتٍ تُظهر معظم الإيديولوجيّات المحليّة عجزها أمام العوائق التي تعترضها أو تتصادم في ما بينها من جهةٍ بينما نرى الأضرار التي خلّفتها قوى التحرّر الاقتصاديّ غير المنظّم والمتفجّر في الغرب من جهةٍ أخرى؛ أتمنّى أن أراك تروّج «مشروع لبنان» مع كلّ ما يحتويه من قيمٍ خالدة تسمح له باستعادة دوره في المنطقة كمنارةٍ للعظمة بدل الضعف الذي يبرزه. وتكون استعادة هذا الدور من خلال احترام حقوق الانسان بدل حقوق القلّة، والتعاضد بين الديانات بدل التسامح الزائف، والتكاتف السياسي بدل العزلة، والتعليم المتنوّر للجميع بدل الظلاميّة المستوردة، وانفتاح العقول بدل التعصّب، وحسّ بالمصلحة العامة بدل الفرديّة المفرطة، والتحديث والابتكار في تقاليد مجتمعنا بدل السير بشكلٍ أعمى وراء الرائج والمستورد. هذا هو لبنان الماضي، لبنان جبران خليل جبران وعلماء جبل عامل ورشيد رضا، وهو أيضاً لبنان الحاضر، لبنان هذا الكم الهائل من الناس الذين غادروا بلادهم قسراً مع اندلاع الحرب الأهليّة والذين على رغم كلّ الصعوبات والعراقيل أصبحوا مهندسين وأطباء ومحامين بارزين وذاع صيتهم في أنحاء العالم كافة. ومنهم أيضاً من نجحوا في إنشاء مؤسساتٍ عالميّةٍ نفتخر جميعاً بها. هذا هو لبنان الذي أودّ أن أعيش فيه وأعتقد أنّها أمنية يشاركني بها عدد كبير من المواطنين الذين لا يزالون يشكّلون مصدر ثروته الأساسيّة ويحملون هويّته ويتمنّون العودة إليه عوضاً عن الهجرة منه، ومستعدّون للموت من أجله وليس فيه والدفاع عنه عوض الدفاع عن حصّتهم فيه. وبدون هذه القيم، يكون لبنان أشبه بسفينةٍ مجرّدةٍ من العارضة: ففي أفضل الحالات يُحكَم عليها بالبقاء غير مستقرّةٍ ومن الصعب، لا بل من المستحيل أن تبحر، وفي أسوأ الحالات يُقدَّر لها أن تغرق أي أن تكون دولةً فاشلةً. فمع العارضة، أي الركيزة يصبح لبنان مستقرّاً ومتطلّعاً إلى المضيّ قدماً وتشكّل عزّة مواطنيه وتدفّق طاقاتهم مثالاً يحتذي به العرب جميعاً.
وبصفتي لبنانيّ، أودّ أن أذكّرك بأننا متى اعتمدنا ببراعةٍ سياسةً منبثقةً عن إجماعٍ عربيًّ ودوليًّ يكتسب لبنان قدراً كبيراً من الاستقرار والازدهار الاقتصادي. وفي المقابل، متى اعتمدنا سياسة المواجهة وأصبحنا طرفاً نكون أكبر الخاسرين. وما من شكّ بأنّ الموت المبكر والمأسوي لوالدك سرّع في إزاحة الستار عن فصلٍ جديدٍ في السياسة اللبنانيّة لطالما حلم هو نفسه والكثيرين معه ببلوغه يوماً ما. نعم، إننا نريد جميعاً أن نعرف حقيقة اغتياله وكشف الذين نفّذوه أيّاً كانوا وسوقهم أمام العدالة التي يجب أن تتحقّق. نعم، كان من المفترض أن يشكّل اغتياله خاتمة الاغتيالات السياسيّة لكنّه للأسف لم يكن كذلك. ولأننا نريد جميعاً أن يتحقّق كلّ ما ذُكر سابقاً، عليك ألا تسمح بتسييس التحقيق وأن تسعى الى إبقائه بعيداً عن التدخّلات الخارجيّة. فمن موقعك، تستطيع أن تجعل التحقيق يأخذ مجراه وان تحرص على منع أي كان من استعماله لترويج «أجندته» الخاصة. وهذه ليست بمسألة سياسة بل إنّها مسألة عدالة.
فوالدك، رحمه الله، نجح في استخدام علاقاته واتصالاته على أعلى المستويات لمصلحة لبنان. ونتيجةً لذلك، نَعِمَ لبنان بخمسة عشر عامٍ من الاستقرار الداخليّ نسبيّاً ، احتضنته مفاعيل اتفاقات أوسلو وتداعيات أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وغزو العراق. وأراك حالياً تزور واشنطن وباريس وتجلس مع جورج بوش وجاك شيراك فأقول في نفسي بأنّ تحركك مصدر قوّةٍ محتملٍ للبنان. لكنني أودّ أيضاً أن أراك في القاهرة والرياض وقريباً في دمشق كما آمل. نعم، دمشق لأنّ مصلحة بلدنا أكبر وأوسع وأسمى من مصلحة كلّ فردٍ فينا ولأنّ لدمشق مصالح مشروعة في لبنان والعكس صحيح وهذا ما لا يمكن التغاضي عنه. وأتجرّأ بالقول بأنّ بيروت وعدداً كبيراً من البيروتيين كانوا ولا يزالون يقيمون علاقة تاريخيّة بدمشق أوثق من علاقتهم بمدنٍ أخرى في لبنان. ويشعر الكثيرون منهم، بمن فيهم أنا، بعدم الارتياح والانزعاج من تدهور العلاقة بين البلدين، فلا يجب أن نسمح للخلاف مع النظام السوري بأن يتحوّل إلى خلافٍ مع البلد.
عندما سيُكتَب تاريخ لبنان عن الأعوام الثلاثين الماضية، سيظهر فشل كلًّ من السياسيين اللبنانيين والسوريين في تمثيل بلدهم وشعبهم. ولا شكّ في أنّ وجود سورية في لبنان كان مرهقاً وثقيلاً، وقد سعدنا لسقوط قبضة المخابرات التي ارتكبت خلال إقامتها الطويلة العديد من الأخطاء التي لا يُفهَم جزءٌ كبيرٌ منها ولا يُغتفر. وصحيحٌ أيضاً أنّ بعض ممثّلي سورية في لبنان كانوا فاسدين ومفسدين، لكن علينا أن نتذكّر أيضأ بأنّه خلال وجود سورية لثلاثين عامٍ ظهرت طبقةٌ سياسيّةً واقتصاديّةً في لبنان، يدّعي بعضها الآن التّقوى، وسمحت بارتكاب هذه الانتهاكات وشجّعتها واستفادت منها. كما سمحت هذه الطبقة للمصالح الفرديّة الضيّقة بأن تعلو فوق المصالح الوطنيّة العامة، ولعلّ والدك دفع حياته ثمناً لذلك. لقد حان الوقت لإعادة تقديم المصلحة العامة على المصالح الفرديّة من خلال ضمان قيام الصّلات الرسميّة عبر ممثّلين منتخبين عن الحكومة وعبر الاتّفاق على أنّه مهما ارتكبت سورية من أخطاءٍ في لبنان، فهي ليست العدوّ ولن تكون أبداً. وإلى حين إقرار معاهدة سلامٍ حقيقيّةٍ تمنح الفلسطينيين حقّهمّ الشرعيّ وتوقف سياسات إسرائيل العدائيّة في الاحتلال والتوسّع والاستعمار، تبقى اسرائيل عدوّنا الوحيد. وسأستمرّ باعتبارها عدوّاً الى وقتٍ طويلٍ لأنّها تدعم التمييز والممارسات العنصريّة والعرقيّة التي أدحضها بشدّةٍ مهما حاول الرؤساء والصحافة الدوليين إقناعي بعكس ذلك.
وأخيراً أودّ أن أتوجّه إليكم كسنّيٍ من بيروت مع أنني أكره اللعبة الطائفيّة في السياسة اللبنانيّة لأنّها برأيي تولّد الضعف والركود. ولكن بعد خمسة عشر عاماً من الحرب، يبدو أنّها اللعبة الوحيدة التي يعرفها السياسّيون. وشاهدت اخيّراً القيادتَين المارونيّة والشيعيّة تتقدّمان علينا نحن السنّة بخطوةٍ كبيرةٍ وأساسيّةٍ من خلال تحديد واقتراح بنيةٍ وطنيّةٍ وسياسيّةٍ مشتركة. وبصراحةٍ، كنت أودّ لو أراك تنضمّ إليهما في الجهود التي يبذلانها لأنني أُعجبت بما صدر عنهما وشعرت بأنّه يعبّر عن وجهة نظري، لكن السبب الأهمّ هو أنّه كان من شأن هذا أن يساعد في خلق مناخٍ توافقيّ سياسيّ وطنيّ حقيقيّ في لبنان للمرّة الأولى منذ سنواتٍ بعيداً عن التدخلات الأجنبيّة ولا يمكن لذلك إلا أن يعود لنا بالمنفعة. وعوضاً عن هذا، أراك تسلّم السلطة لسياسيين غير ثابتين ترتفع أصواتهم ويكثر هذيانهم ولا يمثّلوني حتّى ولا يتكلّمون باسمي. وأقول بكلّ أسفٍ إنّه طالما استمرت اللعبة السياسيّة في لبنان ضمن الإطار الطائفيّ، ففي ذلك تهميش لجماعتي ولن أوافق على ذلك.
لا شكّ في أنّ الحمل ثقيلٌ لكنّك وافقت على تحمّله والمضيّ به، وسيُظهر التاريخ مدى نجاحك في ذلك.
مع تمنياتي بالتوفيق. (14 شباط/ فبراير 2006).