منذر خدام
أصبح من كلاسيكيات الخطاب المعارض في سورية،
من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وما حولهما من تلوينات ثقافية ومثاقفاتية، أن يصب جام غضبه على النظام الاستبدادي، وتحميله كامل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد
والعباد، من ضعف وتخلف، وفي ذلك الكثير من الصواب. غير أن الصواب كله لا يكتمل إلا
برؤية مفاعيل السياسيات الأمريكية والغربية عموما، تجاه قضايا المنطقة، خصوصا لجهة
دعم الأنظمة الاستبدادية على مدى العقود الستة الماضية بذريعة المحافظة على استقرار
المنطقة.
إن اتفاق الخطاب المعارض على تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن الوضع
الراهن، لا يعني أن منطلقاته كانت واحدة، أو أن أغراضه واحدة، وهنا تتنوع كثيرا
أجوبة سؤال التغيير. لا يغير من هذه الواقعة كون بعض فصائل المعارضة الداخلية وبعض
الشخصيات السياسية والثقافية أصدرت في الفترة الأخيرة، وفي توقيت غير مناسب البتة،
أهم وأنضج وثيقة سياسية، بعنوان " إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي"، والتي
أخذت القوى السياسية والشخصيات الثقافية من كل لون تتسابق للإعلان عن تأييدها لها،
ولسان حال الكثيرين يردد: لا يجوز تفويت الوليمة؟!!.
من المحزن حقاً، إلى درجة
البؤس السياسي، أن ينسى البعض أو يتناسى، في خضم هذا الصخب الإعلامي الذي رافق
الإعلان، أننا كنا نقف على أبواب خطر داهم يحمله تقرير ديتلف ميلتس، المحقق المفوض
من قبل مجلس الأمن بجريمة اغتيال الراحل رفيق الحريري. بل إن ردود فعل بعض العناصر
المعارضة (قوى وأفراد)، بدت وكأنها توافق على ما توصل إليه ميلتس في تحقيقه، غير
المكتمل، من استنتاجات تجرم بعض المسؤولين الأمنيين في سورية، ربما حتى قبل أن
يقرؤوه. هنا أود أن أقول خصوصا للطيف الوطني الديمقراطي المعارض، إن الشعب السوري
ومنذ سنوات لديه ما يكفي من وقائع وأدلة لتجريم النظام الأمني في سورية، غير أن
تجريمه باغتيال الراحل رفيق الحريري يحتاج إلى أدلة قاطعة جازمة. نحن هنا أمام
تحقيق يمكن أن يضع سورية ولبنان والمنطقة عموما، في مهب الريح، في حال خرج عن نطاقه
الجنائي، وعندئذ لن يكون هناك رابح محلي، بل خاسرون.
ينبغي أن لا ننسى أن ما يهم
أمريكا وبريطانيا وفرنسا، من عملية التحقيق برمتها ليس الوصول إلى حقيقة من اغتال
الراحل رفيق الحريري، فقبل اغتيال الحريري وبعده، اغتيل كثيرون في لبنان ومنهم
رؤساء دولة، لم تحرك أمريكا ساكناً، بل مات أكثر من مليون شخص في الصراعات الأهلية
في رواندا وبوروندي، ولم تحرك أمريكا ولا الأمم المتحدة ساكناً، ولا يزال الشعب
الفلسطيني يعاني من أبشع جريمة في هذا العصر، جريمة استئصاله من أرضه، تحت أنظار
الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، ولا تحرك ساكنا سوى المماطلة والتسويف. ما
تريده أمريكا بالضبط هو استغلال جريمة الاغتيال للتضييق على النظام السوري لاستجرار
تنازلات منه، حتى ولو كان من سوف يدفع الفاتورة هو الشعب السوري، من مصالحه، ومن
سلمه الداخلي..الخ. نحن هنا لا نقلل أبدا من هول جريمة الراحل رفيق الحريري، الذي
فقد باغتياله الشعب السوري، والشعب اللبناني، والعرب عموما، شخصية وطنية وعربية
فذة، وهؤلاء هم حقيقة، من يريدون معرفة الحقيقة الكاملة، ومعاقبة مرتكبي
الجريمة.
لا يجوز، بذريعة الهروب من وضعية خدمة النظام المفترضة، الوقوع في خطأ
سياسي قاتل وهو أن لا نرى الخطر الذي يحمله لنا التحقيق الدولي بجريمة اغتيال
الراحل رفيق الحريري، وهو خطر في حال وقوعه ( وقد بدا يقع حتى قبل اكتمال التحقيق)
سوف يتجاوز في شموله العناصر الإجرامية في حال ثبت وجودها، ليطال الشعب السوري
والكيان السياسي السوري.
نحن ندرك جيداً أن الكثير يتوقف على سلوك النظام
السوري، لدرء الكارثة المحتملة، خصوصا لجهة التعاون الجدي والحقيقي مع لجنة
التحقيق، وعدم التستر على المتورطين بالجريمة في حال وجودهم، مهما علت مراتبهم، لأن
الوطن والدولة والشعب أكبر منهم جميعاً، وينبغي تفويت الفرصة على من يستهدفنا في
وجودنا بعدم تقديم الذرائع له.
في مثل هذه الظروف، ومن منظور المصالح الوطنية
العليا، ينبغي الاشتغال على السيناريو الأسوأ، هذا يعني أن على السلطة أولا أن
تسارع إلى إعادة إحياء الداخل السياسي الوطني الذي حاولت القضاء عليه لعقود خلت،
ويكون ذلك بالمبادرة إلى فتح حوار جدي وشفاف ومسؤول مع القوى الوطنية الديمقراطية
في الداخل، خصوصا وقد أصبح لديها ما تقوله للنظام من خلال وثيقتها " إعلان دمشق
للتغيير الوطني الديمقراطي"، من أجل التوصل إلى عقد مؤتمر وطني شامل، يتمخض عنه
برنامج وطني للتغيير المتدرج والسلمي والآمن، من طراز السلطة الأمنية إلى طراز
السلطة السياسية الديمقراطية. ومما له أهمية استثنائية في هذا المجال إطلاق سراح
السجناء السياسيين، والعفو الشامل عمن غادروا الوطن كرها أو طوعا وتامين عودتهم إلى
الوطن، والبدء بتسوية أوضاع المواطنين السوريين الكرد، وبرد المظالم إلى
أهلها.
من جهة أخرى على قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية أن تظل أمينة لرؤيتها
المعلنة للتغيير المتدرج والسلمي والآمن، ولرفضها لأي تغيير يأتي محمولا من الخارج،
وان توحد كلمتها في رفض أي تسييس للتحقيق الدولي بجريمة اغتيال الراحل رفيق
الحريري، لإلحاق الأذى بالشعب السوري وبمصالحه، أو بمصالح سورية.