العالم يتمرد

د. ثائر دوري


 

من فرنسا إلى الأرجنتين إلى فلسطين والعراق وأفغانستان العالم يتمرد.

في باريس يأخذ التمرد طابعاً احتجاجياً عنيفاً يقترب من الشكل الجنائي، فالأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين الذين عمل آباءهم بتعمير فرنسا بعد دمارها في الحرب العالمية الثانية فتحوا عيونهم على الدنيا وهم فرنسيون. يحملون الجنسية الفرنسية ويتكلمون اللغة الفرنسية وأغلبهم لا يعرف الجزائر أو المغرب او السنغال إلا من خلال ذكريات والده أو جده. قالوا لهم إنهم فرنسيون لكن كل شاهدته عيونهم وأدركته حواسهم قال لهم عكس ذلك، فهم لا يتمتعون بالرخاء كفرنسيين إذ ولدوا ونشأوا في ضواح فقيرة معدمة ولم تتح لهم فرصة الترقي الاجتماعي، فلا ثروة لدى آبائهم وليس هناك فرصة للتعليم في عالم تتراجع فيه المدرسة الرسمية ويصبح التعليم الجامعي باهظ التكاليف، وأما فرص العمل المعروضة فهي عبارة عن أعمال هامشية قليلة الأجر لأن الأعمال المحترمة التي تجلب النقود تحتاج إلى تأهيل وتعليم والتعليم بدوره يحتاج إلى المال وهم لا يملكون المال، أي أنهم أصبحوا أسرى معادلة مجتمعية فحواها، كي تحصل على المال يجب أن تكون مالكا للمال.

وينتمي أغلب هؤلاء المهاجرين إلى ديانة أخرى هي الديانة الإسلامية التي تتعرض لهجوم شرس في أوربا وأمريكا حيث صار كل شخص منهم بنظر الإعلام المسيطر هو مشروع ((إرهابي))، كما أن لون بشرتهم كاف لقرع ناقوس خطر أمني، وقد رأينا كيف أعدمت الشرطة الإنكليزية الشاب البرازيلي بدم بارد بسبب لون بشرته. وهكذا يتعرض الشباب المهاجر إلى تمييز على أكثر من صعيد، فالتمييز الاقتصادي يمتزج بالتمييز بسبب لون البشرة والتمييز بسبب الدين، ويصبح هذا المزيج كبرميل البارود قابلاً للاشتعال في أية لحظة خاصة إذا جاء الفتيل من سياسات ليبرالية تحاول أن تلقي بمسؤولية الفقر على الفقراء وأن تسحب الدولة من أي دور اجتماعي تؤديه في قطاعات الصحة والتعليم والعمل. في لحظات انعدام الأمل هذه يكفي حادث بسيط، كما في الحدث الباريسي، لتفجير ثورة.........

دق المجتمع الفرنسي لحكومته جرس إنذار واضح حين رفض الدستور الأوربي المعولم، الذي لا يقيم اعتبارا سوى لمصالح رأس المال ويجرد السلطات الوطنية المنتخبة من سلطاتها لصالح مؤسسات بيروقراطية غامضة لا سلطة للمجتمع عليها. صحيح أن هناك مكونات أخرى للرفض الفرنسي للدستور لكن المكون الرافض للعولمة الليبرالية في ((اللا)) كان واضحاً لكن لم يكن هناك من يريد رؤيته. فتواصل صعود ساركوزي صاحب النهج الاقتصادي النيو - الليبرالي المؤمرك الذي يرى مشكلة الفقراء تكمن في أنهم فقراء متخلفون، همج، حثالة، كما وصف المنتفضين، وبالتالي لا حاجة لتقديم أية مساعدة لهم، فليدبروا تعليمهم وطبابتهم وأمنهم ومعيشتهم. صحيح أن صعود ساركوزي الشخصي عرقله قليلاً دوفيلبان، لكن الخلاف بينهما بدا أقرب إلى الخلاف الشخصي منه إلى خلاف على مباديء لأن الديغولية كانت قد تعرضت لحمام ليبرالي جديد جعل الفروق بين ساركوزي ودو فيلبان فروقاً كمية وليست نوعية. كل ذلك أوصل الرسالة لمجتمعات الضواحي واضحة وهو أنه يعد للقفز من وزارة الداخلية على الإليزية ليطبق سياسته الليبرالية ويستكمل تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي ليتمكن رأس المال الفرنسي والأوربي من مواجهة متطلبات العولمة واستكمال تحالفه مع رأس المال الأمريكي بعد أن يتجردا، كلاهما، من الأوطان ولو اقتضى ذلك تدمير البنية الاجتماعية التي يرتكز عليها رأس المال نفسه، وبالتالي فبرنامجه الوحيد للضواحي هو البرنامج الأمني ضد هؤلاء المجرمين والحثالة كما ينظر لهم. فكان أن تمردت الضواحي وأعلنت أن لها رأياً آخر، فهي تقول، وإن كان ذلك بلغة غير مفهومة أحياناً وبأشكال مشوشة، تقول إن النموذج الرأسمالي الذي يتم تسويقه على أنه الخيار الوحيد للبشرية ليس خياراً بل هو بمثابة انتحار جماعي لأنه يقدم أغلبية المجتمع كأضاحي قرباناً لأقلية ثرية يزداد ثرائها بدون توقف، وكأننا أمام إعادة تاريخية لسيناريو ثورة الطلاب في باريس عام 1968 مع تغير الظروف والشعارات، يومها تمرد الطلاب في ذروة ازدهار النظام الرأسمالي ليعلنوا رسالة مفادها ان الرأسمالية لم تعد تستوعب الحاجات الروحية للبشر،أما تمرد اليوم في ظروف انحدار تاريخي للرأسمالية فهو يعلن أن الرأسمالية المعولمة لم تعد قادرة على إشباع الحاجات المادية إضافة إلى الروحية التي تنبه لها الطلاب قبل سبع وثلاثين سنة.

ماذا كان رد النظام؟

هنا حدث العجب العجاب فقد سمعنا كلمات، انتبهوا جيداً، قانون طواريء وأحكام عرفية، منع تجول، إنزال الجيش إلى الشوارع، إطلاق النار على أي شيء يتحرك. فاختلط الأمر علينا هل هذه المفردات يتم تداولها في فرنسا أم في سوريا أم في موزامبيق!!! ثم تأكدنا من الأمر فإذا هي مفردات فرنسية لنكتشف أن الديمقراطية الليبرالية في ظل العولمة الرأسمالية تمتلك أنياباً، كما كان يردد المرحوم الرئيس السادات، ولنكتشف أن الديمقراطية في العرف الرأسمالي تعني المحافظة على الأوضاع القائمة بواسطة صندوق الانتخاب، فإذا تمرد المجتمع فالطواريء والجيش والأحكام العرفية بانتظاره، وبالطبع في هذه الحالة لن يجتمع مجلس الأمن ليدين تدخل الجيش ويطالب بعدم قمع المتظاهرين أو ليرسل قوات دولية لحماية المتمردين !!

 ومن باريس إلى الأرجنتين نلاحظ أن التمرد ينتقل إلى شكل أنضج وأكثر تبلوراً، فإذا كان شباب الضواحي يحرقون ويدمرون احتجاجاً على أوضاعهم دون أن يملكوا برنامجا بديلاً يعلنونه على الملأ، وهذا أمر يفسح المجال لأمثال ساركوزي لوصفهم بالحثالة والمجرمين ومعاملتهم بالمنطق الجنائي البحت، فإن التمرد الأمريكي اللاتيني أكثر نضجاً وأكثر تبلورا ويدافع عن قضية محددة  واضحة، فهو تمرد سياسي على الهيمنة الأمريكية وعلى النمط الاقتصادي الليبرالي المعولم، حتى وإن تجلى بشكل اقتصادي عبر رفض دول القارة الرئيسية مشروع اتفاق التجارة الحرة بين الأمريكيتين الذي يريد فتح أسواق القارة لرأس المال الأمريكي المعولم، وتحديداً يريد تدمير فلاحيها بعد أن دمر خلال عقد التسعينات صناعييها وطبقتها الوسطى.

كانت القارة الأمريكية الجنوبية ترزخ تحت حكم أنظمة دكتاتورية بعضها فاشي كحال النظام العسكري في الأرجنتين. لكن مع تبدل الرياح الدولية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تم استبدال هذه الأنظمة العسكرية بأنظمة مدنية منتخبة بواسطة صناديق الاقتراع، وتحت شعارات من النمط الذي نسمعه اليوم في وطننا العربي، افتحوا أسواقكم تأتيكم الديمقراطية والرخاء والازدهار، الديمقراطية تعني مزيداً من الاندماج بالنظام الاقتصادي المعولم، وحرية حركة رأس المال، وقليل من تدخل الدولة التي صارت بعقيدة الليبراليين الجدد سبب كل الشرور، وكما يحدث في وطننا العربي مسخت الديمقراطية إلى صندوق اقتراع فقط. فماذا كانت النتيجة ؟

وقعت القارة في براثن سياسيين واقتصاديين فاسدين وازداد بؤس جماهيرها فانهارت دول القارة تباعاً من المكسيك إلى البرازيل إلى الأرجنتين. لقد انفجرت فقاعة الصابون الليبرالية لتترك هذه البلدان حطاماً فانتفضت شعوب القارة بأشكال مختلفة، من الهبات الشعبية التي أسقطت عدة رؤساء في الأرجنتين إلى الثورات الانتخابية التي أتت بلولا وشافيز....الخ. ويبقى أنضج شكل للتغيير عرفته القارة هو في فنزويلا شافيز، الذي كان يعرف ماذا يريد بالضبط، فتمرد على واشنطن متبنياً سياسة نفط وطنية، كما اعتمد برنامجاً للنهوض بالطبقات الفقيرة على كافة الأصعدة،السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من الطبابة المجانية إلى التعليم المجاني إلى رفع الأجور وصولاً أو بدءاً بسياسة دولية مستقلة، فكسر الحصار الأمريكي على العراق وأدان السياسات العدوانية الأمريكية في العراق وأفغانستان متحدثاً بلهجة نقية افتقدها العالم منذ عقود مما جعله العدو رقم واحد الذي يجب تصفيته في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الزخم الشعبي كان وراء فشل الإنقلاب الأمريكي عليه، وتغلب على كل محاولات تدمير اقتصاد البلد وتعطيل الصناعة النفطية وعاد بقوة عبر نجاحه في استفتاء على رئاسته، أما لولا البرازيل فقد كانت خطواته أكثر ترددا ولم يقطع مع الليبرالية التي دمرت البرازيل، وهو أمر جلب الخيبة لجزء كبير من قاعدته الشعبية لكن هذا لا ينفي عدم ارتياح واشنطن لسياسته الدولية المستقلة( القمة العربية – اللاتينية كمثال ) ومعارضته لاستباحة رأس المال المعولم للبرازيل.

خلال حوالي قرنين من السيطرة الأمريكية على أمريكا اللاتينية كان يتناوب حكم العسكر مع الحكم الديمقراطي بشكل دوري، فما إن يتعب المجتمع من الدكتاتورية العسكرية حتى تهيأ واشنطن السبيل لديمقراطية فاسدة سرعان ما يتعب المجتمع منها، فيطلب حكم العسكر الجاهز دوماً للانقضاض على السلطة بأوامر واشنطن ( لاحظوا هي نفس الدائرة الجهنمية التي تخطط واشنطن لإيقاع العرب بها ). لكن هذه المرة لم تكتمل الدورة بل إن هناك بوادر تغيير جذري، فالشعوب الأمريكية اللاتينية تتمرد على واشنطن وعلى الاقتصاد المعولم الذي يعتبر مصالح رأس المال أهم من البشر وحيواتهم وأهم من البيئة والمناخ...

أما المكان الثالث للتمرد على النظام العالمي القائم فهو في العراق وفلسطين أفغانستان، وهنا يأخذ التمرد طابع المقاومة العسكرية وهذا أمر يعد أرقى أشكال المقاومة وأنضجها وأكثرها فعالية، فالإمبريالية نزلت بجيوشها في الميدان تقاتل الشعوب في معركة كسر عظم لا نتيجة لها إلا غالب أو مغلوب. وهنا يمكننا ملاحظة مفارقة تاريخية وهي أن الصراع بأنضج أشكاله هو في المناطق التي كان توصف بأنها الأكثر تخلفا والأكثر تهميشاً في النظام العالمي السائد، ونعني منطقتنا العربية ومحيطها الإسلامي، فهنا الصراع بدون رتوش أو أقنعة بل يخاض بالوجوه العارية: الإمبريالية ضد الشعب العراقي والفلسطيني والأفغاني. وبدون وسائط محلية كما اعتادت الإمبريالية أن تدير صراعها. أما في أمريكا اللاتينية فما زال للصراع شكله الاقتصادي المخاتل كما أنه ما زال يمتلك بعض الأدوات المحلية، وفي فرنسا يظهر الشكل الجنيني البدائي للصراع وهو أمر قد يخدع العين غير الخبيرة أو الخبيثة فلا تراه على حقيقته، وهذا يعني أن امتنا العربية ورديفها الإسلامي يتقدمان الصراع ضد النظام الرأسمالي المعولم المتوحش.

إن المدقق فيما يجري في المناطق الثلاث، آسيا وأمريكا وأوربا، يرى أنها حبات مسبحة ينظمها خيط واحد، وهذا يشير لأمر واحد، وهو أن العالم لم يعد يحتمل الرأسمالية المعولمة ولم يعد يحتمل اقتصاد السوق النيو ليبرالي والهيمنة الأمريكية.........

إن البشرية تتمرد، فهي تحارب في فلسطين والعراق وأفغانستان، وتتظاهر وتنتخب رؤوسا وطنيين في أمريكا الجنوبية، وتحرق السيارات في ضواحي باريس.