الهوية الوطنية والبعد القومي

أكرم البني

كثرت في الآونة الأخيرة الأحاديث عن سوريا أولاً أو لبنان أولاً أو الأردن أو فلسطين أو العراق حتى بدا الأمر كأن ثمة موجة جديدة من الشعارات تنجرف باتجاه المحلية أو الوطنية تتصدر المشهد السياسي والثقافي مبشرة بطريق خلاصي جديد عساه ينقذ مجتمعاتنا مما وصلت إليه، وكاشفة عمق أزمة الفكر القومي العربي، خصوصاً في بلدان المشرق حيث منبته ومرتع تطوره، وأيضا مدى انحسار القواسم المشتركة بين المجتمعات العربية وشدة التفاوت في توصيف أسباب أزماتها وسبل معالجتها وتجاوزها.

والحقيقة أن شيوع الميل للتضحية بالفكر القومي لصالح الوطنية والتوجه صوب مزيد من تبلور المحلي على حساب الروابط العربية لم يهطل بشكل فجائي من سماء صافية، بل له سياقاته وحيثياته ويمكن ربطه أساسا بعاملين.

عامل ذاتي يتعلق بطبيعة الوعي الجديد الذي اكتسبته النخب التي تقود التيارات السياسية والثقافية في ضوء ما حصل من مستجدات عالمية وإقليمية، وعامل موضوعي يتعلق بما صارت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية من تبلور وتميز في كل بلد على حدة، تأثرا بالنتائج الهزيلة والآثار السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها تجربة سنوات طويلة من تغليب النضال القومي على ما عداه وفشل تجاربه المختلفة.

مثال الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وعجز الفكر القومي عن التقدم خطوات ملموسة صوب التعاضد والتكامل وعن معالجة آثار هزيمة يونيو/حزيران عام 1967وأيضاً التدخل في مواجهة ما آلت إليه الأوضاع في فلسطين والعراق.

إن تنامي الهوية الوطنية اليوم هو أمر مفسر ويبدو أنه صار من المشروع والمبرر لكل مجتمع عربي أن يحرر نفسه من أعباء الالتزامات القومية طالما لا تساعد على معالجة أزمته الداخلية بل ربما تفاقمها، وتاليا لم يعد من المسوغ حرمان أي بلد مهما كان صغيرا ومحدود الإمكانيات، من حقه في السيطرة على أوضاعه الخاصة وإدارة شؤونه الداخلية بذريعة أولوية الالتزام القومي والذي بفضله تحول أكثر من بلد ضعيف إلى ريشة في مهب الريح تتضاربها مصالح الأقوى.

لكن بالمقابل لا تسوغ هذه المشروعية أبدا دعوات القطع وفك الارتباط بين الأوضاع المحلية وأحوال المنطقة وصراعاتها الملتهبة، ولا يبرر للذين آمنوا بالفكر القومي واكتووا بنار الهم العربي هذا الانتقال السهل والسريع من عارضة توازن إلى أخرى ومن تطرف إلى تطرف.

ونسأل هل ثمة من يملك جرأة على القول مثلاً بأن مصير أبناء المشرق العربي ومستقبلهم لا يرتبط عميقاً بنجاح العملية السياسية في العراق وتمكن الدولة الجديدة من إحياء مبدأ المواطنة على حساب الخيارات الطائفية وفرض جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال من أرضه، أو بفشل اللبنانيين في بناء اجتماع ديمقراطي ووحدة وطنية تحتضن تنوعهم الفريد، أو نجاح السلطة الفلسطينية في تكريس العمل السياسي وقواعد التعددية واحترام حقوق الإنسان كطريق رئيسة لوأد الفتنة وانتزاع حقوق الشعب المغتصبة، أو حصول تغيير ديمقراطي في سوريا، وقس على ذلك الكثير من الأمثلة والحيثيات.

لعل من المعروف أن القومية كرؤية فكرية للمثقفين العرب ولدت في مواجهة فكرة الخلافة العثمانية ثم تبلورت أكثر بنشوء وتبلور الفكرة القومية التركية مطلع القرن العشرين ولم تحملها قوى وطبقات لها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها الداخلي والاستقلال به وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي.

وتاليا فإن أحد أهم مثالب الفكر القومي في المشرق العربي أنه عفوي أكثر مما هو موضوعي وأنه يقوم على الإيمان أكثر مما يملك أساس في البنية التحتية، وأنه لم يحظ بالفعل بقوى اجتماعية لها مصلحة حقيقية في مقاومة التمزق وإزالة الحدود القائمة.

صحيح أن السياسة التي وسمت النخب القومية التي وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد عربي هي سياسة الهروب إلى الأمام، وبدل حل المشاكل والهموم المحلية وإيلاء التنمية الوطنية حظا أوفر من الاهتمام تفشت الدعوة لقضية عربية تأجلت من أجلها الكثير من المسائل القطرية حتى الملحة منها، خاصة استحقاق التغيير الديمقراطي، فكانت الوحدة العربية وقضية فلسطين في الأمس هما محور الاهتمامات، ثم فلسطين والعراق ولبنان اليوم ولا نعرف غدا من هو البلد المرشح للانضمام إلى القائمة.

وصحيح أيضا أن حافز الإيمان بالفكر القومي قد تراجع عند المواطنين العرب وقد لمسوا لمس اليد كيف استخدمت غالبية الأنظمة العقيدة القومية وشعاراتها لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات والمغانم!!.

لكن الصحيح أيضا أن التنمية الاقتصادية والسياسية وتحديدا وجهها الديمقراطي تبقى موضوعيا عملية مترابطة في البلدان العربية وفي مجتمعات المشرق العربي بصورة خاصة، ولا يمكن لأي كان أن يتجاهل ذلك أو يغفله.

فالديمقراطية هي الضمانة الرئيسية لفتح أوسع الأفاق أمام الفكر القومي، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية بإبراز جوانب المعاناة المشتركة للإنسان العربي، وليس لأن الديمقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة البشر هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين الحاكم والشعب فحسب، وإنما أيضا لأن الديمقراطية هي ضمانة الوحدة الوطنية المهددة داخل عدد من بلدان هذا المشرق.

كما هي الطريق إلى تحقيق التشارك والتضامن وربما الوحدة بين بعضها البعض باعتبارها الوحيدة التي تفسح المجال لإرادة الأغلبية الشعبية التي يغيبها القمع والاستبداد كي تقول كلمتها بحرية وتظهر حقيقة ما يعتمل في صدرها من مواقف وأحاسيس وحدوية.

بين الهوية الوطنية والنضال القومي حلقة ترابط يجب التنبه لها والتعامل معها بمنتهى الدقة والوضوح على قاعدة الشراكة الندية وتكامل المصالح، فاعتبار الوطنية أولا، ليس خطأ أو ضررا طالما ثمة ثانيا له بعد قومي، وبالتالي فالوطنية لا تعني أبدا التخلي عن الهوية القومية أو تذويبها.

فمشروع الشراكة بين المجتمعات العربية له أساس موضوعي قوي لا يعود فقط إلى التاريخ المشترك وروابط اللغة والأرض، وإنما أيضا إلى التحديات المتماثلة في ظل الشروط الجديدة التي وسمت المناخات الراهنة.

فما يشهده العالم من بناء التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى يؤكد استحالة نمو وبقاء الكيانات الصغيرة، الأمر الذي يتطلب بداهة تجميع كل الموارد والطاقات الاستثمارية العربية وتقاسم أعباء النمو، وتاليا تجاوز النظرة والحلول القطرية الضيقة نحو تكامل كل الإمكانات والكفاءات لتحسين قدرة الجميع على المنافسة كفرصة لا غنى عنها لضمان الارتقاء بالمجتمعات العربية عموما وبكل مجتمع على حدة.

وهنا يتحتم الإشارة إلى أهمية تجديد الفكر القومي كضرورة ملحة في وقتنا الراهن لمواجهة هذا الانقلاب الدائر في الكون، ولا عيب أو ضرر من تمثل المسار الوحدوي الأوروبي وكيف تقدم على الأرض من خلال اندماج الأوطان والمجتمعات الديمقراطية المستقلة.

ويمكن اعتبار هذه التجربة الناجحة طريقا عربية ناجعة نحو بناء اتحادات مستقبلية قوية وقابلة للحياة، اتحادات مبنية على المصالح المشتركة وحاجة الجميع إلى التنمية الديمقراطية، مثلما يصح اعتبارها الطريق التي توفر مناخا صحيا لتلاقي وتفاهم القوميات في الوطن الواحد على أساس مجتمع المواطنة والحرية واحترام التعددية وحقوق الإنسان.

في الخصوصية السورية تجدر الإشارة إلى أن الارتباط القوي بين مفهوم الوطنية والقيمة القومية كان تاريخيا لصالح هذه الأخيرة، وصار من السهولة بمكان اعتبار الوطن في الخيال الجمعي السوري ملحقا بالانتماء القومي، ما أدى إلى حالة من التطور تميزت بتعلق الداخل بالعروبة كمرجعية وكقيمة إنسانية للمجتمع ككل وتشكل المفاهيم السياسية وصياغة المهام وفقا للقواعد والاعتقادات المكونة للمنهج القومي، ما دفع إلى الوراء ولفترة زمنية طويلة مفهوم سوريا كوطن خاص ومميز بمفردها وبمعزل عن ارتباطاتها بالهم العربي.

لكن يصح القول مع استمرار العجز في تحقيق أية نتائج على الصعيد القومي وأي خطوة ذات معنى توقف مسارات التبلور القطري، وأيضا مع تطور مفهوم الوطن في العالم المعاصر في ظل الثورة المعلوماتية وحضور العولمة وتقدم معناه إلى حد كبير ربطا بالشرائع والقيم الإنسانية العالمية يمكن القول إن سوريا الوطن بدأت تغزو العقول وتتغذى وتترسخ من معنى الدولة المعترف بكيانها وحدودها وشعبها كما هو مقرر بالاتفاقيات الموقعة بينها وبين جيرانها من العرب والأجانب وأكدتها مواثيق جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.

وقد تجلت بشائر هذا الجديد بتنامي وانتشار الموقف الذي يرفض اختزال وجه الوطنية في الانتماء وشعارات تحرير الأرض والسيادة، دون أن يقرنها بقيم المواطنة المتساوية والحرية ودولة المؤسسات والقانون، وبعبارة أخرى يمكن القول إن الوعي الوطني في سوريا شهد نقلة مهمة وصار مقياس الوطنية يعني أكثر فأكثر وحدة وانتماء مواطنين أحرار ومدى تحصيلهم لحقوقهم وكرامتهم.

من هنا لا يعد موقفا متجنيا بالمعنى القومي أو لاعقلانيا انحياز قطاع مهم من المعارضة السورية إلى المصلحة الوطنية أولا باعتبارها مصلحة الشعب السوري في الحرية والكرامة، وباعتبار الدفاع عنها يعني الحفاظ على ثروات الوطن بناسه وأرضه وخيراته، بما في ذلك تجاوز تلك المفاهيم العتيقة التي اختزلت الوطن في سلطة وحكم يحاول فرض الوصاية على كل شيء تحت عنوان الاستقلال ومواجهة الخطر الخارجي.

فثمة مسافة صارت تتضح أكثر بين الوطنية ومصلحة النظام الحاكم أيا كان، وصار بالإمكان القول إن مصلحة الوطن لم تعد تتعلق بسياسات السلطة إلا في حال حققت هذه الأخيرة الشروط الديمقراطية التي تضمن وصولها إلى سدة الحكم وكانت راعية أمينة وعادلة لمصالح الأفراد والجماعات وفقا لدستور ديمقراطي.

إن ما آل إليه التنازع على الهيمنة الإقليمية والحالة الراهنة المتأزمة يعطي كل المبررات النظرية والعملية لتطوير مفهومي الوطنية والقومية وإعادة إنتاجهما بدلالة نتائج الممارسة السياسية، وطالما لم يعد بالإمكان فصل المصلحة الوطنية السورية عن طموحات وتطلعات أبناء سوريا نحو الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة في دولة الحق والقانون دولة المواطنة، لم يعد بالإمكان تاليا اعتبار الخيار القومي هو المهم أولا وهو الذي حاز الأولوية على مدى خمسين عاما أدت إلى الفشل في تحقيق أية خطوة وحدوية أو تكاملية جدية, بينما تكرست على العكس القطرية وصارت مصالح الدول العربية مع كل يوم يمر أكثر تضاربا وتباعدا.

ما يعني أن البعد القومي الناجح للمجتمعات العربية في علاقتها مع بعضها وفي علاقتها مع القوميات الأخرى التي تشاركها العيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين، يتمثل في توحيد جهود الجميع من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان على طرق الاندماج الوطني ومن ثم القومي كاندماج اختياري ينأى عن أي شكل من أشكال القمع والقسر.

وربما لن يطول الزمن حتى نلمس برامج ونشاطات لقوى ومجموعات تنتمي إلى دول عربية أو مشرقية مختلفة تتجاوز الانغماس في خصوصية بلدانها نحو المشترك تحت عنوان واحد هو نصرة القضية الديمقراطية والعمل على تحسين ظروف الحياة لمواطنها وتجميع القدرات لجسر الهوة مع العالم المتقدم التي يهدد توسعها بالمزيد من التردي والتخلف!!.

ويبدو أن بشائر هذا الوعي الجديد تطل علينا من خلال النشاطات المشتركة التي تتواتر بين المثقفين والديمقراطيين العرب لتوحيد إيقاع ممارساتهم، ودون تكرار مثل هذه المبادرات وتوسيعها لا يمكن إنقاذ مجتمعاتنا من الغرق في الخصوصية الوطنية، وتنمية الاهتمام الموازي الضروري بالمسائل المشتركة في المنطقة وقضايا العالم المتغير.

فمستقبل الفكر العربي، بل مستقبل العمل القومي العربي برمته، ونخص بداية بلدان المشرق العربي مرهون اليوم بقدرته على منح الأولوية لعملية التغيير الوطني واحترام التعددية وحقوق الإنسان في سياق التنمية السياسية المشتركة وبما يرسخ سمات ديمقراطية لعلاقة جديدة بين الهوية الوطنية والبعد القومي.

ــــــــــــ

كاتب سوري

الجزيرة نت