إلى أين يسير اقتصادنا؟ ( 1 / 2 )
(إلى أين يقودنا فريقنا الاقتصادي؟)
د. عمر شابسيغ
( كلنا شركاء ) 19/10/2006
أفادتنا الصحافة الرسمية عن جلسة مجلس الوزراء التي ترأسها السيد رئيس الجمهورية في يوم 12/9/2006 بتوجيه السيد رئيس الجمهورية للحكومة بتفعيل العلاقة مع المواطن ولم تكن تلك المرة الأولى لمثل هذا التوجيه ولكن مع الأسف فإن عدد من الوزراء في واد وعلاقته مع المواطن في واد آخر ولا يستمعون إلى هذه التوجيهات. عدد لا يستهان به من الوزراء مغلق بابه أمام الناس ولا يستقبل إلا..... وإن استقبل فهو يجلس مع ضيفه مجلس المعلم مع التلميذ بدل أن يجلس مجلس المستمع لهذا المواطن وإن جاءه صوت من الصحافة أهمله في أغلب الأحوال وقليلا ما يأتي رد وإن حصل لا يكون شافيا فأين العلاقة مع المواطن. وكمثال عندما نشرت مقالة لي حول تعامل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مع الجمعيات في 16/8/2006 وطالبت بإجراء تحقيقات في أمور جرت تحت سمع وبصر ومعرفة الوزارة وطالبت بإجراء خطوات محددة لإزالة الخطأ فلم يتم شيء. وعندما طالبت وخلال سنوات بإصلاح التعليم العالي كانت ردود الفعل على الأغلب الصمت وقليلا ما كان يتم عمل شيء والآن ونحن نتعرض لما نتعرض له من ضغوط من الخارج وبحاجة للتفاعل مع المواطن وهناك حاجة قوية للإصلاح نرى الأمور تسير كما هي.
انتظرت طويلا حتى أكتب هذه المقالة وخصوصا أنني كنت قد قررت منذ صيف العام الماضي الإقلال من الكتابة وإن كانت قد أفادت أحيانا. انتظاري كان لسببين: الأول هو أن أكثر من يقرأ مقالاتي ويحبذها من عامة الجمهور هم مسرورون لقراءاتهم نقدا للحكومة وهذا ليس غرضي. وإذا قلت لهم تعالوا ساهموا بالرد علي وانتقادي أو دعم أفكاري تجدهم قد هربوا. أما السبب الثاني فهو أن أكثر مسؤولي الحكومة لا يحبون النقد ويأخذون مواقف حادة ممن ينتقدهم.
سابقا قلت أنني لست اقتصاديا ولكنني أعرف الخطأ من الصواب من نتيجة العمل أو باستقراء النتيجة مسبقا استنادا لأعمال سابقة مشابهة. ما أقوله هنا يدور حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المتردي والذي سيزداد سوءا مع تنفيذ بعض الأعمال التي تنوي أن تقوم بها الحكومة والسبب بسيط هو عدم وضوح الحكومات في السنوات الأخيرة فيما تريده وسنرى.
_بعد تخبط حكومي اقتصادي استمر خمس سنوات ظهر فجأة تعبير (اقتصاد سوق اجتماعي)._ لقد عشت في دول غربية وفي دول شيوعية فلم أسمع مثل هذا التعبير سابقا. سمعت تعبير (اقتصاد سوق) ولكن صفة (اجتماعي) غير موجودة في العالم كله وأن تبين أن ألمانيا استخدمت هذا التعبير في مرحلة من المراحل. فهل هو عقلنا السوري الذي يريد أن يخلق شعارات وتسميات. سألت العديد من الأخصائيين فقالوا أنهم لم يسمعوا بمثل هذا التعبير. إذن فهو اختراع سوري. وليعذرني المسؤولون. وإنني أشكر السيد الرئيس بشار الأسد على وضعه النقاط على الحروف في لقائه مع الإعلاميين عندما قالها صراحة حسب ما ذكرته الصحف أن هناك من يعمل الآن على تحديد مفهوم (إقتصاد السوق الإجتماعي). إذن فهو كما قلت إختراع سوري. ولننظر ما قاله وزير الإقتصاد حسب صحف23/5/2006 بأن ( دور الدولة في اقتصاد السوق الإجتماعي هو التدخل لتوظيف النتائج الإيجابية للعرض والطلب لصالح المجتمع) أنا لم أفهم شيئا من هذا الكلام وعرضته على اقتصاديين فلم يفهموا شيئا. كفانا تجارب في البلد منذ عقود فكلما فشلت تجربة تبدأ تجربة جديدة فأصبحت البلد حقل تجارب فقط لا غير.
_ويسأل أعضاء مجلس الشعب وسألت عن معنى (اقتصاد السوق الاجتماعي) فلم يحظ أحد بجواب شاف. وحسب ما كتبت الصحافة الحكومية حول الخطة الخمسية العاشرة فإنها لم تكن واضحة فيما سيتم خلالها وكلامها حسب ما قيل كان عاما وتوصيفيا كما هو الحال في أكثر التصريحات الحكومية: _سيتم رفع مستوى المعيشة – سوف نقوم بتحسين ظروف معيشة المواطنين – سوف....والسين. ولكن لا أحد منهم يقول كيف ومتى. فأين خطة الحكومة؟ إن ما قامت به الحكومات في السنوات الأخيرة وما تقوم به أدى بنا إلى انخفاض كبير في مستويات معيشة عامة الناس وزيادة الغلاء وارتفاع أسعار البيوت والأراضي وانفجار الفساد حتى عم كل شيء في وقت نحن أحوج ما نكون للصمود الاجتماعي تحت الضغط الخارجي على الوطن، في الوقت الذي يجب أن تتحفز به كل الجهود في الحكومة (والآن دخل مع الحكومة من يسمى برجال الأعمال غير الموجودين أساسا في قطرنا) لتحسين ظروف المعيشة حفاظا على السلم الأهلي. فانخفاض مستوى المعيشة لا يأتي إلا بالخراب.
إن كانوا قد قصدوا من صفة الاجتماعي مع اقتصاد السوق أنهم مع اتجاههم إلى الاقتصاد الرأسمالي أو الاقتصاد الليبرالي أن يدعموا اقتصاديا الشرائح الأفقر في المجتمع (وهي أكثر من نصف السكان) فقد جانبهم الصواب وتكرارهم لصفة (الاجتماعي) التي اخترعوها لتمرير الاقتصاد الليبرالي بأسوأ صوره لم يخدع أحدا. أنا لست ضد أي نوع من الاقتصاد ولكننا نرى أن كل هذه الأسماء لا تعني شيئا إذ أن المهم هو النتائج.
_ولننظر بعد حوالي سبع أو ثماني سنوات وربما أكثر من الزحف على خدمات الناس من قبل الحكومات ولصالح أصحاب المال!!!_
1- بدأوا بتجربة إبطال باصات النقل الداخلي للسماح للميكرويات بالعمل بحجة أن تلك الباصات لم تعد صالحة للعمل وإذ بنا نراها قد عادت إلى الشوارع (وعين الله حولها).
2- منذ العام 1990 بدأ تراجع القطاع العام الصناعي ومؤسسات الخدمات بحجج غير مقبولة وغير معقولة وكان التراجع يتم بمعرفة بعض الموظفين صغارا وكبارا وذلك لصالح إعطاء هذه الخدمات أو المنتجات لبعض المتنفذين من أصحاب المال. وقد كان ولا أريد أن أدخل في التفاصيل.
3- فجأة أصبحت كل خدمات مستشفيات الدولة التي كانت فيها أجنحة خاصة مدفوعة والباقي مجاني، أصبحت الآن كلها مدفوعة. وكان ذلك مفاجأة لي. إنما المفاجأة الكئيبة التي صدمتني كانت في رؤية يافطة على مدخل الإسعاف في مستشفى الأسد الجامعي مكتوب عليها (الإسعاف مدفوع). في أغنى الدول رأسمالية أو ليبرالية لا يمكن أن يحدث فيها هذا الأمر. (الإسعاف مدفوع؟) هل من ليس معه نقود ويحتاج إلى إسعاف يُرمى في الطريق؟ ألم تعد هناك إنسانية أو رحمة؟ أأصبح المال والمال والمال فقط هو ديدن هذه الحكومات الأخيرة؟ فهل تتفضل الحكومة بطاقمها الاقتصادي والخدمي أن تقول لنا ما الذي يجري وأين تقودوننا؟
4- في السنة الأخيرة ودون دراسات وافية اجتاحت بعض المسؤولين الحكوميين هواجس الاستثمار العقاري دون الأخذ بعين الاعتبار لأية نواحي تنظيمية أو بيئية وأصبح كل من يأتي لإنشاء ضاحية سكنية فخمة في مكان ما يعطى الموافقة دون وجود مخطط تنظيمي ويبدأ الاستملاك. ولا أدري لماذا الاستملاك؟ هل هو لمصلحة الشعب؟ لا. لماذا لا تترك الشركات تتفاوض مع المالكين؟ وهنا نعود إلى قصة ضرورة إلغاء قانون الإستملاك. وأنا لا أستطيع أن أفهم ان يقوم وزير أو أكثر من ذلك بترأس اجتماعات مزادات عقارية أو عقد مؤتمرات صحفية مع شركات استثمار. وهو أمر ليس من صلب عمله بل هو أمر تنظيمي تقوم به المؤسسات المختصة ولا يليق بعمل وزير أو أكثر من ذلك. فهؤلاء ليسوا أصحاب مكاتب عقارية أو تجار عقارات. نريد لوزرائنا أن تكون لهم هيبة الوزراء.
5- قبل بيع هذه العقارات كما يحصل الآن في قطنا – يعفور – الصبورة – حوالي صيدنايا – وادي بردى، كان يجب أن تصدر مخططات تنظيمية لإقليم دمشق الكبير هذا. وكان يجب النظر فيما إن كان يمكن لهذا الإقليم أن يستوعب كل هذه المشاريع العقارية. هل وقف أحد هؤلاء الوزراء ليسأل نفسه هذه الأسئلة الحضارية جدا أم كان تخصيص العقارات لهذه المشاريع العملاقة بالكبشة؟ عفوا على هذا التعبير ولكن لم أجد ما أصف به ذلك إلا هذا والأكثر عيبا هو اهتمام الحكومة بهذه المشاريع العقارية ذات الخمس نجوم وكان أحدهم انتقدهم على ذلك مؤخرا فبدأ الكلام عن التفكير (لاحظوا كلمة التفكير) في إقامة مشاريع عقارية لذوي الدخل المحدود. وهنا يحضرني كلام كتبه الدكتور سمير صارم في الاقتصادية حول هذا الموضوع وأنقل عنه (لقد كان بالإمكان التخفيف كثيرا من هذه الأزمة, وعدم إدخال العقار في سوق المضاربات لو تم القيام بإجراءات غير مكلفة, لكن هذه الاجراءات ظلت غائبة حتى يومنا هذا, ومنها:
توفير الأراضي, والحكومات المتعاقبة لم تسع بهذا الاتجاه وكثير من المدن والمناطق بحاجة الى مخططات تنظيمية لم تنجز منذ عقود, ويمكن في حال وضع هذه المخططات أن يتم توفير الأراضي للسكن, فخلقنا إضافة الى أزمة السكن أزمة السكن العشوائي, وما نجم عنه من أزمة اقتصادية واجتماعية وخدمية وبيئية وغيرها!.
- بل إن الاهتمام باستقدام شركات للاستثمار العقاري ساهم برأيي بتفاقم أزمة السكن من خلال شراء هذه الشركات للأراضي المحيطة بالمدن, ما ساهم برفع الأسعار أضعافا مضاعفة يستحيل معها حتى لقطاع خاص يعمل في العقارات أن ينافس شراء الأراضي لمشاريع عمرانية صغيرة أو متوسطة.!
- دعم التعاون السكني.. علما أن الدولة لم توزع الأراضي على الجمعيات السكنية منذ عقود, ولم تدعم التعاون السكني, حتى إنه لا يتم تنفيذ مضمون قانون صادر منذ عام 1958 يحدد فوائد القروض الممنوحة للجمعيات السكنية ب- 3% لكن لا أحد يعمل به وألغته تعليمات وقرارات..! - وهذا يقودنا الى الدور الغائب أو المغيب للمصرف العقاري, _وهنا أتوقف لأتساءل: _
) لماذا لا تعتبر الحكومة السكن وظيفة اجتماعية لها الأولوية, فتعمد لدعم القروض الممنوحة لأجله بفوائد ميسرة جدا , لا تتجاوز المصاريف الإدارية؟!.
- إقامة معامل اسمنت ومواد بناء.. ولسنا ندري متى يمكن أن تقلع المعامل الجديدة التي تأخرنا بإقامتها كثيرا بقصد أو من غير قصد, وكيف ستكون أسعارها؟!.
بعد هذا العرض السريع لما كان يجب أن تهتم به الدولة, أصل الى السؤال الأساسي وهو:
-أليس هناك حل؟!
والحل ليس من عندي, ولا هو من ابتكاري, بل هو حل معمول به في دول عربية ودول أوروبية وأميركية, وقد أثبتت الوقائع أنه الحل الأكثر نجاعة, هذا الحل هو التمويل العقاري باستخدام نظام الرهن أو الضمان العقاري, وهنا أجد مهما وضع تشريع لإحداث شركات تقوم بمهمة التمويل العقاري لتمكين من يريد مسكنا من الحصول على التمويل اللازم لشرائه, ويمكن لهذه الشركات أن تعتمد نظام الشركات المساهمة, بحيث تقوم بإقراض الأفراد الراغبين في الحصول على قروض لشراء مساكن وتوافرت عندهم الشروط اللازمة للحصول على هذه القروض!.
وطبعا لن تكون أنظمة هذه الشركات معقدة وتحتاج الى كفلاء ومعاملات ورقية معقدة كالتي تعتمدها المصارف الحكومية والعقاري تحديدا , باعتبارها تعتمد على الرهن العقاري, أو بعبارة أخرى فالبيت يبقى مرهونا للمصرف ولا ينقل إلى اسم صاحب القرض إلا بعد تسديد القرض الممنوح له, ويمكن للمصرف العقاري أن يدخل هذا المجال من خلال المساهمة بهذه الشركات, أو حتى بمنح قروض بفوائد قليلة لأجل السكن, اذا كان السكن وظيفة اجتماعية للدولة بالفعل لا بالأقوال..!
رجال ساهموا في كفاح سورية الوطني
فارس الخوري : عمر من الجهاد في سبيل الاستقلال
نشأت الخانجي
نشرة أصدقاء دمشق
كانت جمعية أصدقاء دمشق قد دعت إلى ندوة ثقافية تكريماً للمناضل الوطني الكبير المغفور له الراحل فارس الخوري، في مكتبة الأسد بدمشق بحضور حشد من المجاهدين والمناضلين الوطنيين، وشارك في الندوة كل من الأديبة كوليت خوري حفيدة الزعيم الراحل والأستاذ عبد الله الخاني، والسيد الأتاسي، حيث قدّموا شهادات صادقة في مسيرة الرجل الكبير، وكفاحه الدائب لتحقيق استقلال سوريا.. وهنا نقدم عرضاً لسيرة الراحل الكبير تخليداً لذكراه.
وفي تاريخنا الوطني، تتربع شخصيات وطنية على قمة المجد، وتفرض وجودها على صفحات التاريخ.. وفارس الخوري كان واحداً من هؤلاء الرجال الذين يكبرون بوطنهم.
فارس الخوري من أبرز الزعماء الوطنيين غيرة ووفاء وتضحية. عرفته سوريا مجاهداً كريماً وزعيماً مناضلاتً وعرفه العالم في أروقة الأمم المتحدة وهو يهتف ضد المحتلين: أخرجوا من بلادنا..!!
_ولادته ونشأته_
ولد فارس بن يعقوب الخوري في قرية "الكفير". التابعة لقضاء "حاصبيا" عام 1877م، وكانت تابعة لسورية أيام الحكم العثماني، حيث تلقى فيها علومه الابتدائية، وتابع دراسته بالمدرسة الأمريكية في صيدا عام 1890م، ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت تسمى "الكلية الإنجيلية السورية". وتخرّج منها عام 1897م، وعمل "مُعبداً في القسم الاستعدادي في الجامعة الأمريكية لمدة عامين. عاد فارس الخوري بعد ذلك لدمشق. وتسلّم إدارة المدارس الأرثوذكسية. ثم ترجماناً في القنصلية البريطانية، ووكيلاً لشركة جراشام للتأمين على الحياة. وبقي فارس الخوري في القنصلية البريطانية حتى إعلان الدستور العثماني عام 1908م.
وفي عام 1908م تزوج فارس الخوري من السيدة "أسماء جبرائيل عيد". وهي سيدة فلسطينية من مدينة "عكا"، أنجبت له ابنه الوحيد "سهيل" عام 1912م ـ والد الأديبة السورية المتميزة "كوليت خوري".
_مسيرة حافلة بالعمل والكفاح_
وخلال انهماك فارس الخوري في حياته العملية، أخذ يطالع الحقوق لنفسه، ويدرس اللغة الفرنسية والتركيبة في أوقات الفراغ القليلة. ثم أنتُخب فارس الخوري نائباً عن دمشق في "مجلس المبعوثان" عام 1914. وتابع دروس الحقوق في معهد اسطنبول. إلا أنَّ الأتراك اتهموه بالعمل ضدّهم، فاعتُقل صيف عام 1916م. ولم يحصل فارس الخوري على شهادة رسمية في الحقوق، لكنه أصبح فيما بعد، أستاذاً في معهد الحقوق في دمشق، ونقيباً للمحامين.!!
سيق فارس الخوري للمحاكمة في الديوان العُرفي في "عاليه". ونُفي مع سائر الأحرار العرب. متهماً بالتآمر على الدولة العثمانية. وخرج من السجن الذي أقامه جمال السفّاح وكاد يودي بحياته. لكنه استطاع بدفاعه القانوني تبرئة نفسه... وأختار النفي الطوعي إلى الأستانة عام 1917م، لكنه عاد مع دخول الجيش الفيصلي لدمشق عام 1918م، ليُشارك في أول حكومة وطنية بعد رحيل الأتراك..
وكان فارس الخوري قد عُيّن في مجلس الشورى عام 1918م، وعضواً في المجمع العلمي العربي عام 1919م، ووزيراً للمالية في الوزارات الثلاث "الركابي والأتاسي والدروبي"، التي شكّلت إبَّان الحكم الفيصلي عام 1920م.
بعد معركة ميسلون التي وقعت في الرابع والعشرين من تموز 1920م، ورحيل فيصل، عاد فارس الخوري إلى مزاولة مهنة المحاماة، ولم يقبل رئاسة ولا وزارة في ظلّ الانتداب والاحتلال.
ثم عُيّن مستشاراً قانونياً في بلدية دمشق عام 1921م، ووضع مشروع جرّ مياه "عين الفيجة" إلى العاصمة، وعلى أساس تمليك الماء للمباني فقط وليس للأشخاص. لكن الفرنسيين ما لبثوا أن قبضوا عليه ـ لنشاطه السياسي ـ بعد إعلان الثورة السورية الكبرى، ونفوه إلى "جزيرة أرواد" عام 1925م.
تنادى الوطنيون لتنظيم صفوفهم، وتوحيد كلمتهم لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وفي مطلع عام 1925م، جرى تأليف "حزب الشعب" برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وعضوية فارس الخوري نائباً للرئيس، وحسن الحكيم. وفوزي الغزي، وسعيد حيدر.
ثم أعيد فارس الخوري من أرواد لتولي وزارة المعارف في نيسان/أبريل عام 1926م، في وزارة "الداما أحمد نامي"، لكن الوزارة لم تعمّر طويلاً إذ استقال فارس الخوري في حزيران مع زميليه "لطفي الحفار" الذي كان وزيراً للزراعة، و"حسني البرازي" الذي كان وزيراً للداخلية. بعد أن قام الفرنسيون بالهجوم على "حيّ الميدان" وإحراقه وترويع أهله.
وهكذا قبضت السلطات الفرنسية عليهم ثانية، ونفتهم مع: فوزي الغزي، والمحامي بدر الدين الصفدي، والصحفي أديب الصفدي إلى "الحسكة"... ثم إلى "أميون" في لبنان قضاء "الكورة" مع الإقامة الجبرية، ثم عاد فارس الخوري بعد ذلك إلى دمشق في نهاية شباط/1928م.
شارك في تأسيس "الكتلة الوطنية" التي انبثقت عن حزب الشعب. في حزيران/1928م، وكان من مؤسسيها هاشم الأتاسي، وفارس الخوري، وإبراهيم هنانو، وجميل مردم بك، ولطفي الحفّار، وسعد الله الجابري، وحسني البرازي، وتوفيق الشيشكلي. وقد قادت "الكتلة الوطنية" حركة المعارضة، والمقاومة السلبية ضد الفرنسيين، وكانت نقطة ارتكاز في نيل سورية استقلالها..
_المعاهدة_
في أواخر شباط/1936م، جرى الاتفاق مع المفوّض السامي "دي مارتيل" على اعتراف فرنسا باستقلال سورية ووحدتها، وعقد معاهدة بهذا الهدف بعد إجراء مفاوضات بين الجانبين. وعلى إثر هذا الاتفاق انتهى الإضراب العام الذي أعلنه الشعب السوري في ذلك العام!.. وتقرير سفر الوفد المفاوض السوري إلى باريس والمؤلف من السادة هاشم الأتاسي، وفارس الخوري، وجميل مردم بك، وسعد الله الجابري، ونُشرت نصوص المعاهدة السورية ـ الفرنسية في 22 تشرين الأول 1936م.
جرت انتخابات نيابية. فاز فارس الخوري بموجبها برئاسة المجلس. لكن في أوائل كانون الثاني، استدعت فرنسا المفوض السامي "دي مارتيل" وعيّنت مكانه "غابرييل بيو" للعودة إلى سياسة الانتداب ودفن المعاهدة..!! وأقام المحتلون الحواجز العسكرية فاستقالت الحكومة "المردمية" في نهاية شهر شباط، وشكّل لطفي الحفّار وزارة جديدة، ثم ما لبث أن قدّم استقالته في 17آذار/1939م، وكلّف نصوحي البخاري بتشكيل الوزارة، لكن الوزارة تُشكّل في ظل الظروف العسكرية القمعية، فأصدر المفوّض السامي "بيو" أمره بحلّ المجلس النيابي وتعليق الدستور.!! وطعن فارس الخوري بقرار المفوّض السامي... واستقال هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهورية في الثامن من تموز/1939م.
_فارس الخوري.. المناضل والسياسي الوطني_
وجرت انتخابات في 26تموز/1943م، وانتُخب فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي، كما انتُخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 19 آب/1943م، وكُلّف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة في 19آب/1943م.
في الثاني عشر من تشرين الأول/1944م، كُلّف فارس الخوري بتشكيل الوزارة بعد استقالة الجابري. وتشكلت الوزارة في 14 تشرين الأول/1944م، على الوجه التالي: فارس الخوري (للرئاسة والداخلية والمعارف)، وجميل مردم بك (للخارجية والدفاع والاقتصاد الوطني)، وخالد العظم (للمالية والإعاشة والتموين)، والدكتور عبد الرحمن الكيالي (للعدلية والأشغال العامة).
شكل فارس الخوري الوزارة ثلاث مرات متتابعة ـ رغم بلوغه الثانية والسبعين ـ ودامت حكوماته الثلاث سنة تقريباً... (في 14 تشرين الأول/1944م، وفي 6نيسان/1944م، وفي 23 آب/1944م)، فاز برئاسة المجلس النيابي سعد الله الجابري.
في مطلع عام 1945م، اكتسحت قوات الحلفاء الأراضي الألمانية، ونزلت قواتهم في فرنسة، في الوقت الذي تلّقت سورية دعوة لحضور مؤتمر الأمم المتحدة.
وفي منتصف نيسان/1945م، قدّم فارس الخوري استقالة حكومته، وكُلّف بتشكيل الوزارة للمرة الثانية.
اقترح لطفي الحفّار ـ رئيس المجلس النيابي ـ دعوة المجلس لدورة استثنائية لتشكيل "وفد سورية" للأمم المتحدة. وشُكّل الوفد برئاسة فارس الخوري رئيس مجلس الوزراء "رئيساً"، ونعيم أنطاكي "وزير المالية" عضواً، وفريد زين الدين، ونور الدين كحالة خبيرين، وتوفيق الهندي كاتباً. وعُهد إلى جميل مردم بك وزير الخارجية القيام بأعمال رئاسة مجلس الوزراء.
أثناء غياب فارس الخوري، في 29أيار/1945م، قام الفرنسيون بعدوان همجي على سورية، ليؤكد هذا العدوان أن العقلية الاستعمارية الفرنسية لم تتغير ولم تتبدل..!! وقصفت الطائرات والمدفعية الفرنسية دمشق القلعة، ومبنى البرلمان... وقتلوا حامية المجلس النيابي ومثّلوا بأفرادها...!!
أمام هذا الوضع المأساوي عرض فارس الخوري في الأمم المتحدة قضية الجلاء عن وطنه، وأسمع صوته للعالم مطالباً برحيل القوات الفرنسية عن سورية ولبنان.
_قنديل فارس الخوري.. أضاء فجر الاستقلال_
عندما بدأت قوات الاحتلال بالتسويف والتلكؤ بالرحيل عن الوطن، وقف السيد فارس الخوري على منصة الأمم المتحدة، مطالباً برحيل قوات الاحتلال الفرنسية والبريطانية من أرض الوطن، وقال إن خروج قوات الاحتلال لا يحتاج إلى مفاوضات مضنية وترتيبات معقدة، وإنما يحتاج فقط إلى رحيل هذه القوات، وإن مماطلتها تشبه إلى حد بعيد قصة "القنديل الأحمر".. والوضع الذي نحن فيه.
فقد تقرر وضع "قنديل الأحمر" وسط أحد الشوارع فسأل أحدهم: لماذا نُصب قنديل أحمر هنا. فأجيب: إنه نُصب لكي لا يتعثر أحد من المارة بالحجارة التي نُصب عليها القنديل.
ثم سأل: لماذا وُضعت الحجارة...! فقيل له: أنها وُضعت لكي يُنصب فوقها القنديل الأحمر.
واستطاع فارس الخوري أن ينتزع تأييد مندوبي الدول في الأمم المتحدة. ليقرّروا موعد الجلاء التام عن سورية، في الخامس عشر من نيسان/1946م.
_فارس الخوري محامي القضية العربية_
انتُخب فارس الخوري رئيساً لمجلس الأمن عام 1947م-1948م، ثم انتُدب مرة أخرى ليمثّل سورية، في الدفاع عن قضية عروبة فلسطين، وناقش وجادل وأسمع العالم، أن فلسطين أرض عربية منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وعمل كل ما في بوسعه بصبر وشجاعة، ولكن العالم كان قد أصمَّ أُذنيه.
وعاد فارس الخوري لوطنه في العاشر من كانون الثاني عام تسعة وأربعين. بعد عامين ونصف العام قضاها مدافعاً عن حقوق وطنه.
_استقبال الفارس الأول_
كان يوماً مشهوداً في دمشق خرجت سورية من أدناها إلى أقصاها، لتستقبل فارسها الكبير أجمل استقبال.
خرجت دمشق كلها لتُحيّي فارسها. يتقدمهم رئيس الجمهورية شكري القوتلي، والوزراء والنواب والشخصيات الرسمية والشعبية من مختلف المحافظات السورية تقديراً. للخدمات التي قدمها دولة فارس الخوري لسورية، ولجميع قضايا العدل والإنسانية في هيئة الأمم ومجلس الأمن، وللإعراب عن التقدير والاحترام والإجلال، الذي تكنه الأمة للمدافعين عن أوطانهم.
وُرفعت الأعلام السورية على المؤسسات الرسمية، وعلى طول الطريق من القصر الجمهوري حتى مطار المزة، استعداداً لاستقبال فارس الوطن.
زحفت الجماهير منذ الصباح الباكر إلى مطار المزة، قبيل وصول الطائرة التي تقل فارس الخوري، وصل رئيس الجمهورية "شكري القوتلي" ومعه "خالد العظم" رئيس مجلس الوزراء، وكبار رجال الدولة.
وحين صافح فارس الخوري، مستقبليه سأل نجله "سهيل" عن "الطربوش" الذي أوصاه أن يأتي به إلى المطار ليضعه على رأسه. فما كان من الشيخ بهجت البيطار، إلا أن ناوله عمامته. فاعتمَّ فارس الخوري بها بين عاصفة من التصفيق المتواصل.
ذهب فارس الخوري إلى القصر الجمهوري بسيارة شكري القوتلي.
لم يكن السيد فارس الخوري مندوب سورية وحدها لدى المجالس والمؤتمرات الدولية، بل كان مندوب الأقطار العربية كلها.
كان مندوب كل أمة تنشد الحق وتكره العدوان، وتسعى إلى التحرر من الظلم والظالمين والمستعمر والمستعمرين.
وقد وجد فيه ممثلو دول العالم، مثال الرجل الأمين في تأدية رسالته الوطنية الإنسانية، فأحبه وأَجلّه المظلومون، واحترمه الخصوم الظالمون.
كان فارساً يخطب بلسان الأمة التي يمثّلها بكل الصدق والصراحة. يتكلم ويناقش عن سعة واطلاع: فهو من الحقوقيين المرموقين الذين يُشار إليهم بالبنان وقد بلغ أرفع مكانة في قلوب الناس. من التقدير والإجلال والمحبة والاحترام مما يدعو إلى الاعتزاز والفخر.
كان في أروقة الأمم المتحدة يزأر غضباً، ويهدر سخطاً على المعتدين الذين أدموا وجدان الشعب في سورية.. كما كانت كلماته تخترق جدار الزمان والمكان وتستشرق المستقبل بوعي. معبّراً عن نبض الشارع الوطني.
كُلّف فارس الخوري في عام/1954م بتشكيل الوزارة السورية، إثر أزمة وزارية حادة..!! واستمرت وزارته حتى عام 1955م. وظل فارس الخوري يمثل سورية في لجنة القانون الدولي في "جنيف" حتى عام 1960م.
_الرحيل_
رحل صوت الأمة عام 1962م، وأحسّ الشعب بفداحة المصاب. ولُفَّ جثمانه بالعلم السوري ووضع على عربة مدفع وشيّع في احتفال رسمي وشعبي مهيب.
مشى وراء نعشه الرئيس الراحل شكري القوتلي ـ رفيق درب نضاله ـ والسيد ناظم القدسي رئيس الجمهورية يومذاك. في حين كانت المآذن تصدح بترتيل آيات من الذكر الحكيم، وأجراس الكنائس تقرع تأبيناً للراحل العظيم.
كان فارس الخوري مناضلاً شجاعاً، جسّد ضمير شعبه، وآمال وأحلام أهل وطنه.
كان رمزاً من رموز الأمة المدافعين عن حريتها واستقلالها. رفع صوته عالياً مدوياً باستقلال الوطن وهو يختزن في صدره آلام أمته والقهر والعدوان الذي أصابها. ليُفجّره في وجوه الغزاة المعتدين الذين اغتصبوا استقلال بلاده وتآمروا على نهب ثرواتها.
كما كان من رجال الفكر والأدب: كاتباً وأديباً وشاعراً يهزّ المنابر ويُعبّر عن نبض الأمة بكل الصدق والعفوية.
عشق وطنه عشقاً ملأ عليه كل ذرّة ويجلّ رجاله العظماء ويسجّل أسماءهم في ذاكرته... وفي صفحاته الذهبية.