قراءة في 'رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي

منذر خدام

 

 

لقد صدر أخيرا ما يسمى بـ 'رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي'، بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع انتفاضة الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته، مبديا شجاعة قل نظيرها في مواجهة آلة قمعية غاشمة لطالما أذاقت الشعب السوري صنوف العذاب والقهر. ومنذ البداية لم يكن متوقعاً غير الذي حدث، فالنظام البعثي الذي حكم سورية بقبضة أمنية حديدية، بعد أن فرغ المجتمع من السياسية بقضائه على الروح السياسية والحزبية في حزبه أولاً، وفي الأحزاب المتحالفة معه ثانياً، ليتفرغ لاحقا لقمع الأحزاب المعارضة له ثالثاً، وبعد أن حول جميع هيئات المجتمع المدني من نقابات ومنظمات مدنية وأهلية إلى مجرد أجهزة تابعة له، لم يكن مستعداً أبدا لقبول وتقبل أن تمتد موجة الانتفاضات الشعبية العربية المنادية بالحرية والكرامة والديمقراطية... إلى سورية. لذلك، ومنذ اللحظة الأولى رفع قبضته الأمنية مباشرة في وجه الشعب، متوهما أنه بذلك سوف يرغمه على العودة إلى الشرنقة التي بناها حوله بالخوف والفساد والإفقار والديماغوجيا. غير أن شعبنا السوري البطل خيب ظنه وأثبت له أن قبضته الأمنية الحديدية صدئت، ولم تعد تنفع في مواجهة إرادة الإصرار الفولاذية للشعب على نيل الحقوق مهما بلغت التضحيات.
إن انتفاضة الشعب السوري في مواجهة نظام الاستبداد الفاسد، وفي سبيل الفوز بالحرية، واستعادة الكرامة، وبناء نظام ديمقراطي مدني، والبطولات التي يسطرها في شوارع المدن والبلدات والقرى السورية، هي سؤال كبير في التاريخ، جوابه الوحيد هو التحول من الاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية وبناء الدولة المدنية، وليس مؤامرة كما يروج لذلك النظام. وكما هو حال جميع الأسئلة الكبرى في التاريخ، لا يغير من طبيعته أبدا بعض العوارض السلبية التي تظهر هنا وهناك، والتي، في الحالة السورية، يقف وراء أغلبها النظام السوري وأجهزته، من دون أن نعفي بعض القوى ذات الأغراض المختلفة من المسؤولية عن بعض هذه العوارض. فعندما يحاول البعض إخراج الاحتجاجات الشعبية عن مسارها السلمي، أو ممارسة التخريب والانتقام الشخصي او الجماعي، أو الترويج لخطاب طائفي وممارسته... كل ذلك يلحق ضرراً بانتفاضة الشعب، ويجعل فئات واسعة منه تحجم عن المشاركة في الاحتجاجات، وهذا يصب في المحصلة في مصلحة النظام. في ذات الإطار يمكن تصنيف بعض العوارض السلبية التي تظهر في الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي المصاحب للانتفاضة. يحضرنا في هذا المجال بعض ما ورد في رؤية التنسيقيات المحلية لمستقبل سورية السياسي، أو ما صدر عن مؤتمر بعض المعارضين السوريين في أنطاليا التركية، الذي سوف نناقشه في هذه المقالة. قبل ذلك نود أن نؤكد أن التاريخ لا يعرض ثورات شعبية نقية، ولا يهتم بالتفاصيل، من هذا المنطلق فإننا نتفهم الكثير من هذه العوارض التي نراها سلبية من وجهة نظرنا في الخطاب الثقافي والسياسي والإعلامي المصاحب لانتفاضة الشعب السوري، من دون أن يعني ذلك أنه لا يمكن نقدها وتصويبها. وفي الاتجاه ذاته تأتي دعوة الدكتور برهان غليون إلى 'الالتفاف حول المبادرة من أجل تطويرها..' بما يسمح بتكوين جبهة 'معارضة موحدة' تقود عملية التغيير باتجاه نظام سياسي ديمقراطي يؤسس لبناء دولة مدنية على قاعدة المواطنة والمساواة والعدالة.
لقد صدرت 'رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية' في صفحتين من القياس الكبير بإيحاء واضح ظهر في عنوانها بأنها تمثل رؤية جميع التنسيقيات في المدن والبلدات السورية، وهي تنسيقيات مجهولة الكيان والتمثيل حتى الوقت الراهن. أقول حتى الوقت الراهن تحوطا من خشية تنتابني، كما تنتاب كثيرين ممن تحاورت معهم حول الموضوع، من أن يكون ما ينسب إلى التنسيقيات من رؤى ومواقف لا يعدو كونه مواقف بعض الأشخاص المشاركين في الحراك، أو بعض المثقفين، أو الكتاب المعارضين، يجري تحميله للتنسيقيات، التي نعلم كما يعلم كثيرون غيرنا صعوبة تشكيلها وقيادتها للحراك الجماهيري في الشارع، ومدى تعقيد الظروف التي تعمل خلالها، عداك عن إمكانية تواصلها لإنضاج موقف سياسي تجاه مستقبل سورية كما ينبغي أن يكون. نشير هنا إلى المسؤولية العالية التي تترتب على مثل هذه المواقف السياسية، ولنؤكد على أن مستقبل سورية السياسي يتحدد فقط من خلال الحوار الشامل بين مختلف فئات الشعب السوري وأشكال وجوده الاجتماعي، عبر صيغ وأشكال يمكن الاتفاق عليها، قد تكون صيغة مؤتمر وطني تحضره جميع الأطراف، من بينها، الصيغة الأكثر واقعية في الظروف الراهنة. هذا بالتأكيد لا يصادر حق أية جهة معارضة أو غير معارضة (شخصا أو حزبا أو جماعة..) أن تقدم رؤيتها للخروج من الأزمة البنيوية العميقة التي تعاني منها سورية بسبب الاستبداد. هذا ما قمنا به كحق لنا في 'بمثابة مبادرة وطنية للانتقال السلمي والآمن والمتدرج من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي'، أو في 'وجهة نظر لوضع سورية على طريق التحول الديمقراطي'، أو ما تقدمت به لجنة العمل الوطني الديمقراطي في محافظة اللاذقية من مشروع رؤية للحل، أو خارطة الطريق التي تقدمت بها لجنة العمل الوطني في دمشق، أو ما صدر عن مؤتمر أنطاليا أو بروكسل لمعارضين سوريين في الخارج، وحتى تلك المبادرات التي تصدر عن النظام والقوى الحليفة معه، أو القريبة منه تندرج في هذا الإطار.
في سورية اليوم 'فوضى' من المبادرات للخروج من الأزمة البنيوية العميقة التي تعاني منها سورية، لكنها فوضى جميلة، 'فوضى من الزهر' على حد قول الشاعر الكبير بدوي الجبل، تصدر عن مواطنين عاديين، وعن مثقفين معارضين أو موالين وعن قوى وأحزاب من الجهتين... ومنها بطبيعة الحال مبادرة لجان التنسيق المحلية، وهي تتفق جميعها، كل على طريقته، على أنه لا حلول وسط بين الاستبداد والديمقراطية، بين الحرية والعبودية... لكنها تختلف من حيث الطريق الموصل إلى ذلك، ومن حيث شكل الانتقال، وربما من حيث جدية قوة الدفع باتجاه التغيير ومثابرتها. في ما يخص رؤية لجان التنسيق فإنها تبدو الأكثر حسماً لأنها تستند إلى قوة دفع قوية في الشارع، لكنها في الوقت ذاته تعطي انطباعا بأنها أقرب إلى خطاب المنتصر الذي يملي على خصمه شروط الاستسلام، وفي ذلك تكمن نقطة ضعفها. وقد تجلى ذلك بوضوح في تصورها للمرحلة الانتقالية، وخصوصا في مقترح تشكيل 'مجلس انتقالي' من 'مدنيين وعسكريين' يتولى مهمة إدارة البلاد خلال هذه المرحلة، يشارك فيه 'سياسيون من طرف النظام، لم تلوث أيديهم مباشرة بدماء السوريين ولا بسرقة أموالهم'. في الاتجاه ذاته جاء مقترح لقاء انطاليا لمعارضين سوريين، القاضي بتنحي الرئيس وتسليم مهامه لنائبه.
إن أي تحليل رصين لواقع المجتمع السوري، وموازين القوى الفاعلة فيه، واتجاهات تغيرها، وبصورة خاصة تحليل وضعية النظام، وما يمتلك من عوامل القوة والضعف، خصوصا لجهة خلفياته الاجتماعية، وعلاقاته الدولية، وتوظيفه لموقع سورية الجيوسياسي في خدمة أغراضه، ينبغي أن يشكل أرضية تتأسس عليه أي رؤية للحل تتصف بالموضوعية، والمصداقية، وقابلية التنفيذ. أقول بالموضوعية لأنها ينبغي أن تستجيب لسؤال التاريخ المعبر عنه بمطالب الشعب بالتغيير، أي الانتقال من النظام السياسي الاستبدادي، إلى نظام سياسي ديمقراطي هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعطي فرصة للشعب كي ينظم نفسه في أحزاب ومنظمات مدنية ونقابية. ليس من حل وسط، كما ذكرنا، بين الاستبداد والديمقراطية، وعليه فإن النظام والقوى الاجتماعية المتحالفة معه أو الواقفة إلى جانبه هي التي ينبغي أن تتحرك من موقعها الاستبدادي، إلى موقع القوى المطالبة بالتغيير (القوى الديمقراطية)، وليس العكس. حتى الملاقاة في منتصف الطريق كما يحاول بعض أطراف النظام الترويج لها تعد أمرا غير مقبول. الحل الوسط الوحيد الذي يمكن أن تقبل به قوى التغيير هو إتاحة الفرصة لجميع القوى والأحزاب السياسية، والأفراد، الموالين والمعارضين، المنافسة في انتخابات ديمقراطية للفوز عبر صناديق الاقتراع بأصوات الناخبين. وحتى في هذه الحالة ولكي تكون المساواة حقيقية وعادلة، لا بد من تطبيق القانون وحكم العدالة على من ارتكبوا جرائم بحق الشعب.
في تحقيق هذا المبدأ الديمقراطي فإن المعارضة (قوى التغيير) تكون قد قبلت بالمساواة مع قوى النظام، لكنها في الوقت ذاته تكون قد سجلت فارقاً أخلاقيا مهما تجلى في تجاوزها عن نفي قوى النظام لها وقمعه لها في ظل حكم الاستبداد، لتتيح لهذه القوى المنافسة بحرية على قدم المساواة معها. بعبارة أخرى عندما تطالب قوى التغيير بالحرية والديمقراطية، فإنها لا تحرر ذاتها فقط بل تحرر خصومها في الآن ذاته.
أما توصيفها بالمصداقية فتعني أن تكون مقنعة وجاذبة لأغلب السوريين. من حيث المبدأ لا يمكن للأقلية مهما كانت قوية، ومهما كانت رؤيتها واضحة وصائبة أن تفرض إرادتها على الأغلبية، لأنها عندئذ لا تسجل أي فارق عن خصومها. في هذا المجال ينبغي ألا نتجاهل أن الحركات الاحتجاجية لقوى التغيير في الشارع السوري لم تكتسب بعد الطابع الجماهيري سوى في حالات قليلة (درعا وحماة مثلا). بطبيعة الحال الأسباب كثيرة، يجري التركيز على واحد منها أكثر من غيره بحسب وجهة النظر إلى تلك الأسباب، مثلا الخوف من النظام، أو من المجهول، أو التمادي في القمع. لذلك فإن المعارضة محقة عندما تطالب بإيقاف القمع وإطلاق سراح الموقوفين، والسماح بالتظاهر السلمي للمعارضين والموالين، لكي تبرز موازين القوى على حقيقتها، وبالتالي للبحث في ضوء ذلك عن المخارج الممكنة، من حيث الشكل لا الجوهر، من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي.
لا زلت مقتنعا في ضوء رؤيتي لظروف سورية، ولخصوصية موقعها الجيوسياسي، ولطبيعة موازين القوى السياسية والمجتمعية والأمنية في الداخل السوري، أن القول بتنحي الرئيس، أو تشكيل مجلس انتقالي يقصي قوى النظام مهما كان ملطفاً (عداك عن كونه متشددا كما هو حال المجلس الانتقالي المقترح من التنسيقيات المحلية) يبدو غير واقعي، وبالتالي لا يشكل مخرجا للحل، بل ربما يفتح أبواباً جديدة للكارثة من دون قصد. لذلك فإن مطالبة الرئيس بأن يقود التغيير (الإصلاحات حسب خطاب السلطة والخارج)، وإتاحة زمن كاف لذلك (مثلا حتى الانتخابات الرئاسية القادمة) يبدو لي أكثر واقعية، ويمتلك فرصاً اكبر للنجاح. أقول ذلك رغم أنني أتوقع أن تثار أسئلة كثيرة في وجهي، بعضها من طبيعة أخلاقية، وبعضها من طبيعة سياسية، وأغلبها سوف يكون محقاً، نظرا لفقدان قوى التغيير الثقة بالنظام، لكن لا خيار أمام الجميع إلا واحد من اثنين على حد قول التنسيقيات: فإما خيار 'تفاوضي يفضي إلى التحول نحو النظام الديمقراطي'، فيه إنقاذ البلاد والشعب، إنقاذ للموالين والمعارضين وما بينهما من حياديين ومستقلين وصامتين، والدخول في الحضارة المعاصرة بفاعلية، وإما دفع 'البلاد في نفق المجهول'، حيث الدمار ينتظر الجميع، وقد لا يبقى عندئذ بلد موحد أرضاً وشعباً اسمه 'سورية'، بل بقايا أشلاء لا تقبل التركيب عداك عن التــــوحيد، ولا تنفع الملامة عندئذ.
أما القول بقابلية الرؤية للتنفيذ، فتعني امتلاك الآليات الضرورية لتحقيق الرؤية في الواقع وتأمينها ماديا، وإداريا، وقانونيا، وتوزيعها الزمني المناسب. هنا يكمن البحث في التفاصيل حيث ' يمكث الشيطان' كما يقال، مع ذلك ينبغي أن تمتلك قوى التغيير إرادة أقوى للمرونة والمناورة، إلى جانب الصلابة المبدئية في مواجهة قوى النظام التي جمدت خلال عقود من تعودها على نمط واحد في التفكير والسلوك. المهم في النهاية كما يقول المثل الشعبي 'الحصول على العنب وليس قتل الناطور'.
في رؤية التنسيقيات المحلية لمستقبل سورية السياسي مسائل كثيرة مهمة لا خلاف عليها، سواء في مقدمتها، أو في باب المطالب، أو في باب المبادئ، رغم انه يمكن إضافة الكثير إليها. وقد أحسنت التنسيقيات في تأكيدها في مجال معالجة الخصومات بتأكيدها على 'العدالة والتسامح'، لا 'الثأر ولا الانتقام'، وعلى لا 'حصانة لأحد فوق القانون' كمبادئ عامة في سورية الغد، سورية الحرة الديمقراطية.

' كاتب سوري