دولة الأمن القومي وصناعة القرار الأميركي: تفسيرات ومفاهيم ( 3 / 3 )
د. منذر سليمان
( كلنا شركاء ) 11:/3/2006
ثامناً : صناعة القرار..
القوى الكامنة
لدى معالجتنا لكيفية صياغة وصناعة القرار الأميركي فيما
يتعلق بالأمن القومي والسياسة الخارجية عموماً علينا التمييز بين ثلاثة أمور
مترابطة ومتشابكة لتحديد القوى والمصالح الأساسية المحركة وتتمثل بـ:
1. المثلث الحديدي للمصالح (المجمّع الصناعي العسكري، المجمّع النفطي والمجمّع
المالي) ولكل من الاضلاع شبكته وتفرعاته،
2. المجمّع الفكري الذي يصوغ هذه المصالح وينظِّر لها لدى قدوم كل إدارة،
3. الأداة المتابعة والمنفذة والمروجة لهذه المصالح والتي تتقاطع بين الجهاز
التنفيذي والإعلام والاستشارات.
وختاما أود أن ألقي بعض الأضواء على مسألة في غاية الأهمية تتعلق بدور مراكز
الأبحاث أو خزانات الفكر في صناعة القرار الرسمي الأميركي.
تاسعاً : صناعة القرار
ودور مراكز الأبحاث
على الرغم من عدم تعليق الأضواء بصورة كافية على مصانع
الأفكار التي تعد نتاجاً أميركياً خالصاً بامتياز، فهي تؤثر في صناعة القرار
الأميركي حول السياسة الخارجية عبر وسائل رئيسية خمسة حسب وجهة نظر ريتشارد هاس
المدير السابق للسياسة والتخطيط في وزارة الخارجية الأميركية وهي:
• انتاج أفكار خلاقة وجديدة واقتراح خيارات للسياسة الأميركية،
• توفير مخزون جاهز من الخبراء ليتبوؤوا مناصب رئيسية لدى كل إدارة،
• تقديم صيغ جدية للحوارات حول القضايا الجوهرية،
• تزويد المواطنين الأميركيين بمعلومات وتحليلات عن الشؤون العالمية،
• مساندة المساعي الرسمية في مجالات تعنى بالتفاوض وحل النزاعات الاقليمية،
تم تنظيم وانشاء هذه المؤسسات الفكرية لتقديم أبحاث مستقلة تقدم خيارات وتوجهات
سياسية معينة تسد الفراغ الحالي القائم بين ما ينتجه الإطار الأكاديمي والإطار
الحكومي الرسمي.
فالجامعات تنتج غالباً أبحاثاً أكاديمية تركز على النظريات والمفاهيم والأساليب في
معالجة القضايا، وبشكل لا يمس مباشرة الاشكاليات السياسية الحقيقية، والمسؤولون
داخل الأجهزة الحكومية يعنون بمعالجة المتطلبات الآنية واتخاذ القرارات التي لا
تحتمل التأجيل التي تفرضها التطورات السياسية اليومية، ما يعني أن الفرصة أو الوقت
اللازم للتأمل وإعادة النظر لا يتوافق لدى المسؤولين بصورة تسمح لهم بتكوين رؤية
استراتيجية متكاملة لكيفية توفير خيارات سياسية استجابة للأحداث الجارية.
اذاً مهمة خزانات الفكر أو مصانع الفكر هي جسر الهوة بين الأبحاث الأكاديمية
والممارسة العملية.
ويبدو أن صعود الدور المعاصر لخزانات الفكر تلازم مع بروز وصعود الولايات المتحدة
كقوة قائدة على المستوى الكوني.
لقد برزت هذه المؤسسات كجزء من حركة تحديث أميركية تهدف الى تعزيز الأداء المهني
للأجهزة الحكومية الأميركية وتركزت نشاطاتها أساساً على تقديم المشورة السياسية
للإدارات المتعاقبة، وكان الاعتقاد السائد بأن الاعتماد على هذه المؤسسات يحقق
تعزيزاً للمصلحة العامة بتقديم المشورة والنصح للمسؤولين من قبل مختصين وخبراء
يتمتعون بمهنية عالية ونزاهة وحيادية بعيداً عن الاعتبارات الضيقة للقوى السياسية
المتنافسة. أحد الأمثلة المبكرة على ذلك إنشاء معهد الأبحاث الحكومية في عام 1916
الذي سبق بريادته تشكيل معهد بروكينز في عام 1927 ويمكن اعتبار أول "خزان فكر" أنشئ
في الولايات المتحدة الأميركية معهد "منحة أو وقفية" كارناجي (Carnegie
Endowment)
للسلام العالمي في عام 1910،
وذلك لهدف اجراء الأبحاث في أسباب نشوب الحروب والدعوة الى حل النزاعات بالطرق
السلمية، واحتل انشاء هذا المعهد أهمية حيوية خاصة مع نشوب الحرب العالمية الأولى
التي أفرزت جدلاً حامياً داخل أميركا حول الدور المطلوب والمناسب لها على المسرح
الدولي.
وفي شتاء 1917- 1918 أوعز الرئيس الأميركي ويلسون لأحد مساعديه العقيد ادوارد هاوس
للبدء بصورة سرية في تشكيل مجموعة من الأكاديميين والخبراء البارزين لدراسة وتقديم
الخيارات لإدارته للتعامل مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وأطلق عليها اسم
مجموعة الاستعلام أو التحقيق (The
Inquiry).
ولعبت هذه المجموعة دوراً استشارياً للوفد الأميركي الى محادثات مؤتمر باريس
للسلام، وفي عام 1921 تم إضافة بعض كبار الأكاديميين والمحامين وأصحاب البنوك من
مدينة نيويورك اليها وتشكيل مؤسسة جديدة اطلق عليها مجلس العلاقات الخارجية، ولعب
المجلس دوراً رئيسياً في الترويج الى أهمية الانخراط الأميركي في الشؤون الدولية في
ظل سيادة الدعوات لاعتماد سياسة منعزلة دولياً للولايات المتحدة في السنوات التي
شهدت معارضة وتخلياً عن الاهتمام بعصبة الأمم ونشوب الحرب العالمية الثانية.
وبرزت موجة جديدة ثانية من "خزانات الفكر" بعد نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عام
1945 عندما تبوأت الولايات المتحدة موقع الدولة العظمى - وبداية مرحلة الحرب
الباردة - الساعية الى الدفاع عما أسمته العالم الحر.. وبدأت العديد من هذه
المؤسسات بتلقي الدعم المالي من الحكومة الأميركية التي خصصت مصادر مالية كبيرة
للعلماء والباحثين في إنتاج أنظمة الأسلحة وبرامجها، وتأسست شركة راند التي باشرت
عملها كمؤسسة مستقلة لا تنشد الربح بتمويل من سلاح الجو الأميركي في عام 1948
وتحولت خلال عقد من الزمن الى أبرز وأهم معهد لتقديم أبحاث ودراسات في شؤون الدفاع
من جوانب عديدة أهمها العقيدة والاستراتيجية العسكرية وتحليل البرامج والأنظمة
العسكرية والسياسات الدفاعية ومفاهيم الردع.. الخ.
وشهدت العقود الثلاثة الماضية انشاء موجة جديدة ثالثة من "خزانات الفكر" ركزت في
نشاطها ليس على تقديم الأبحاث فقط، بل على تقديم المشورة السياسية الهادفة للتأثير
الموجه على القرارات السياسية الأميركية لخدمة أغراض خاصة بقطاعات محددة، ودخلت في
منافسة حادة في سوق الأفكار الرائجة، أحد أبرز هذه النماذج كانت ولا تزال مؤسسة
التراث (Heritage
Foundation)
المحافظة التي انشئت عام 1973 والمعهد الليبرالي للدراسات السياسية.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين يشهد المسرح السياسي الأميركي وجود أكثر من 1200
مؤسسة متنوعة الاتجاهات يمكن تصنيفها في دائرة مخازن الفكر، مثل معهد الاقتصاديات
الدولية (IIE)
معهد الحوار الأميركي الداخلي، أو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى - المعروف بأنه
الذراع الفكري والسياسي الضارب للمصالح الإسرائيلية في واشنطن - تركز على حقل معين
أو على منطقة جغرافية محددة.
والبعض الآخر مثل معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)
متخصص بشؤون السياسة الخارجية، وهناك معاهد أخرى كمعهد بروكينز الذي تتوافر له
وقفية كبيرة ويقبل مساعدات مالية حكومية محددة، أما معهد راند فيعتمد في تمويله
بصورة رئيسية على عقود حكومية أو من القطاع الخاص، بينما يعتمد المعهد الأميركي
للسلام (USIP)
على تمويل حكومي خالص، وهناك مجموعة الأزمات الدولية (The
International
Crisis Group)
تعمل على نشر شبكة من المحللين والخبراء في المناطق الساخنة من العالم لمراقبة
الحالات المتفجرة وتقديم نصائح وخيارات مستقلة من أجل الضغط والتأثير على المواقف
الحكومية للتوصل الى حلول سلمية للنزاعات.
و لجلب الأنظار الى نشاطات مراكز البحث أو خزانات الفكر تستغل هذه المراكز أقنية
متنوعة لترويج أفكارها ومواقفها وتسويقها عبر نشر مقالات الرأي وإصدار الكتب
والمجلات الفصلية والدراسات والتقارير الموسمية وتحرص على تكريس الحضور الإعلامي
لأبرز خبرائها ومحلليها عبر المقابلات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية كما تركز على
أن تستعين لجان الكونغرس المختلفة بخبرائها في جلسات الاستماع والشهادات التي تجري
دورياً للتأثير على الخيارات السياسية.
وتعقد المؤتمرات والحلقات الدراسية للتركيز على القضايا الساخنة والتأثير على صناع
القرار في الإدارة الأميركية، كما تلعب مواقع الانترنت التي ترعاها دوراً بارزاً في
تسويق أفكارها ومواقفها، بصورة واسعة، وفي كل نشاطاتها تنشد الى التأثير في صياغة
الرأي العام الداخلي والخارجي تجاه القضايا التي تقدمها كأولويات.
وفي المنعطفات التاريخية الحادة تلعب مراكز الأبحاث دوراً بارزاً ومؤثراً في تقديم
أفكار ومفاهيم وخيارات سياسية جديدة للتأثير في توجهات السياسة الأميركية الخارجية،
وعلى سبيل المثال قام مجلس العلاقات الخارجية بحملة مكثفة لتقديم أكثر من 682 دراسة
على شكل مذكرات لوزارة الخارجية الأميركية بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، تناولت
موضوعات مهمة من الدعوة لاحتلال ألمانيا الى الدعوة لإنشاء الأمم المتحدة.
أبرز الأمثلة على بعض الدراسات التي روجتها مراكز الدراسات ما نشر في المجلة
الفصلية لمجلس العلاقات الخارجية حول مبررات اعتماد سياسة الاحتواء ضد الاتحاد
السوفياتي والتي أعدها الدبلوماسي الأميركي المشهور جورج كينان والتي أضحت القاعدة
الفكرية للسياسة الأميركية التي اعتمدتها الولايات المتحدة لأربعة عقود. مثال آخر
مقالة في عام 1993 لاستاذ العلوم السياسية صموئيل هنتينغتون "صراع الحضارات" نشرت
في مجلة الشؤون الخارجية والتي أضحت مرجعاً فكرياً للمساهمة في تكوين توجهات
السياسة الخارجية الأميركية بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة.
ومنذ هجمات 11 أيلول عام 2001 أصدرت معاهد بروكينز والتراث ومركز الدراسات
الاستراتيجية والدولية عدة دراسات لعبت دوراً فاعلاً في النقاشات الدائرة داخل
الأجهزة الحكومية الأميركية حول التوجهات الاستراتيجية والهيكلية التنظيمية
الضرورية لمواجهة خطر ما يسمى "الإرهاب الدولي" ضد الولايات المتحدة على الصعيد
الداخلي والخارجي. كما تشكل حملات الانتخابات الرئاسية والفترة الانتقالية بين
إدارتين، منا سبة نموذجية لمراكز الأبحاث للعب دور حاسم في صياغة أجندة السياسة
الخارجية لمرشحي الرئاسة. ويقول مارتن اندرسون التابع لمعهد هوفر، "في هذه المرحلة
الانتخابية يلجأ المرشحون للرئاسة لاستدراج أفكار ومقترحات من "مخازن الفكر" لصياغة
برنامجهم الانتخابي في العديد من القضايا الجوهرية الداخلية والخارجية واختبارها في
ميدان المنافسة التي تسبق الانتخابات."
وأحد أبرز الأمثلة على ذلك هو إقدام الرئيس الجمهوري المنتخب رونالد ريغان عام 1980
على اعتماد دراسة صادرة عن معهد التراث تحت عنوان "تفويض من أجل التغيير" كمخطط
أساسي لإدارته.
وفي عام 1992 اعتمد الرئيس المنتخب كلينتون على دراسة صادرة عن معهد الاقتصاديات
الدولية (Institute
For International Economy)
بالتعاون مع معهد كارناجي (Carnegie
Endowment)
لاجراء تعديل في الهيكلية الاقتصادية الحكومية وانشاء المجلس الاقتصادي الوطني.
ويبقى أحد أبرز مساهمة مراكز البحوث هذه تقديم الأفكار والمفاهيم الجديدة وتوفيرها
لمخزون من الخبراء والمختصين تغرف منه كل إدارة لملء الشواغر البيروقراطية في
المناصب الحكومية البارزة بالإضافة الى استعانة أعضاء الكونغرس ولجانه المختصة
بالعديد منهم لملء الشواغر من المعاونين لديهم أيضاً.
وهكذا أصبح معروفاً في الحياة السياسية الأميركية ما يطلق عليه "الباب الدوار" أي
أن هناك العديد من كبار المسؤولين ينضمون الى الإدارات المتعاقبة قادمين من مراكز
الأبحاث ومن ثم بعد انتهاء وظيفتهم ينتقلون الى مراكز الأبحاث في فترة انتظار
للعودة مجدداً الى المناصب الحكومية مع إدارة جديدة أخرى وهكذا دواليك في دورة لا
نهاية لها.. فعلى سبيل المثال استعان الرئيس كارتر عام 1976 بأعداد وافرة من
المتخصصين العاملين في معهد بروكينغز ومجلس العلاقات الخارجية، وبعد أربع سنوات جاء
الرئيس ريغان واستعان خلال حكمه الممتد الى دورتين - 8 سنوات- على توظيف أكثر من
150 مسؤولاً بارزاً في إدارته قادمين من معاهد التراث (Heritage)
وهوفر (Hoover)
وانتربرايز (Enterprise)
.
ولم تشذ إدارة الرئيس بوش الابن الحالية عن هذه القاعدة حيث يحتل مناصب رفيعة في
إدارته مسؤولين قادمين من خزانات الفكر، ففي الخارجية مثلاً هناك ريتشارد هاس الذي
سبق ذكر منصبه تنقل في مناصب رفيعة في عدة معاهد أميركية
CSIS،
بروكينغز، كارناجي، مجلس العلاقات الخارجية. ويولا دوبرينسكي نائبة وزير الخارجية
للشؤون العالمية كانت نائب رئيس ومدي رة لمجلس العلاقات الخارجية قبل انضمامها
للوزارة، وجون بولتون نائب وزير الخارجية للأمن الدولي وحظر انتشار الأسلحة سابقاً
ومندوب الأمم المتحدة حالياً، كان نائباً لرئيس معهد انتربرايز، وجيمس كيلي مساعد
وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ كان رئيساً لقسم شؤون المحيط الهادئ
في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية
CSIS،
وكيم هولمز مسؤولة شؤون المنظمات الدولية حالياً في الخارجية كانت نائب رئيس لمعهد
التراث. وفي الدفاع نجد أن نائب الوزير بول وولفوتيز رئيساً لمعهد جون هوبيكينز
الذي جاء اليه أيضاً من منصب حكومي رفيع المستوى في الدفاع سابقاً خلال عهد بوش
الأب (حالياً مدير البنك الدولي)، وبيتر رودمان الذي يحتل حالياً منصب مساعد وزير
الدفاع لشؤون الأمن الدولي كان مديراً لبرامج الأمن القومي في مركز نيكسون
Nixon
Center.
يبقى أن نشير هنا الى افتقار العالم العربي لمثل هذا التقليد أو الدور المؤثر
لمراكز الدراسات لأنها في أغلبها تخضع للتوجهات الرسمية لأنظمة الحكم التي لا تتغير
إلا بقدرة قادر، كما تبرز الحاجة الملحة لضرورة انشاء مركز عربي التوجه في واشنطن
مستقل عن الحكومات العربية للدراسات الأميركية يتولى دراسة المجتمع الأميركي بمختلف
جوانبه السياسية والفكرية والإعلامية والثقافية والعسكرية والاقتصادية وخاصة دراسة
العناصر المؤثرة في صناعة القرار لتقديم فهم أعمق للمشهد الأميركي في وطننا العربي.