الاحتلال الامريكي للعراق والصراع الامريكي الايراني

 

 عصام نعمان

القدس العربي



مع الإحتلال الأمريكي للعراق، إنحسرت حقبة وبزغت أخري من الصراع في المنطقة. إنحسرت أو كادت حقبة الصراع العربي ـ الإسرائيلي وبزغت حقبة الصراع الإيراني ـ الأمريكي... الإنحسار لا يعني الإنتهاء بل يعني التراجـع والإنكفاء... فمنذ وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين العام 1917 إلي إحتلال العراق العام 2003، كانت الصهيونية هي الخطر الأول في وعي أحرار الأمة. بعد قيام إسرائيل العام 1948 وهجمة الغرب الأوروبي علي مصر العام 1956 أضحت فلسطين القضية المركزية لدي الأمة كلها، أو هذا ما حاولت منظمات المقاومة الفلسطينية والعربية إرساءه في وعـي أحرارها. مع الإحتلال الأمريكي أُخرج العراق، كما مصر قبل ذلك بنحـو عقدين، من حلبة الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي أضحي مشهداً جانبيا من صـراع اكبر وأوسع هو الصراع الإيراني ـ الأمريكي... ولن يمضي وقت طويل قبل أن تتداخل حقبة هذا الصراع الأخير مع حقبة صراعٍ أوسع وأشمل. إنه الصراع الإسلامي ـ الغربي أو صراع الإسلام، شعوبا ودولا ومصالح وإيديولوجيا، مع الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي علي مدي العالم برمته.
مردّ هذه الصراعات إلي أسباب سياسية ومصالح إقتصادية، لكنها تتأثر دائما بعواملٍ ثقافية لتأخذ في نهاية المطاف طابعاً حضارياً غالباً.
اليوم إذ تبزغ بقوة حقبة الصراع الإيراني ـ الأمريكي تتضح حقائق خمس رئيسية:
الحقيقة الأولي، تمسك الغرب الأمريكي، وقبله الغرب الأوروبي، بعقيدة إستراتيجية ثابتة هي الحؤول بكل الوسائل المتاحة دون قيام قوة إقليمية مركزية في البرزخ الممتد بين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والساحل الشرقي للخليج العربي ـ الفارسي. إنه منطقة إستراتيجية شكّلت في الماضي طريق التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا، وتشكّل في الحاضر والمستقبل مستودع اكبر إحتياطات النفط والغاز في العالم... لهذين السببين حرصت دول أوروبا في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين علي تفكيك الإمبراطورية العثمانية وعلي منع والي مصر محمد علي باشا من بناء قوة إقليمية مركزية مستقلة تمتد من وادي النيل إلي بلاد الشام... كما تعاون الغرب الأوروبي والأمريكي علي منع جمال عبد الناصر من تكرار المحاولة نفسها في النصف الثاني من القرن العشرين... وها هما يتعاونان مرةً أخري في مطلع القرن الحادي والعشرين علي منع إيران من تحقيق الهدف نفسه بذريعة الخطورة الناجمة عن قدراتها النووية المتنامية.
الحقيقة الثانية، تطور الصراع الإيراني ـ الأمريكي بالضرورة إلي صراع إسلامي ـ غربي شامل لأسباب عدّة أبرزها إنخراط دول أوروبا في الصراع إلي جانب أمريكا الساعية إلي تعطيل بناء قدرات إيران النووية من جهة وإنقسام الدول الإسلامية بين مساند لإيران أو داعم لأمريكا من جهة أخري... هذا فضلا عن سبب إضافي ذي دلالة وأهمية هو قيام أمريكا بتسليم بعض المعتقلين المسلمين وغير المسلمين المشتبه بهم في إطار ما سمي الحرب علي الإرهاب إلي دول عربية عدة لتعذيبهم بغية إنتزاع معلومات منهم، كما ذكرت مجلة نيوزويك الأمريكية، ثم إعادتهم إلي الولايات المتحدة... ذلك كله بالإضافة إلي مساندة الولايات المتحدة لأنظمةِ حكمٍ إسلامية إستبدادية في سياستها القمعية ضد شعوبها أدي ويؤدي إلي توسيع رقعة الصراع وإتخاذه طابع الإشتباك الشامل مع الغرب.
الحقيقة الثالثة، إعتماد الولايـات المتحدة استراتيجيا الفوضي الخلاقة لشلّ دول إسلامية تعتبرها معادية لها ولإسرائيل... فالعراق جري تدمير بنيته التحتية في حرب العام 1991 في إطار إخراجه من الكويت، ثم جري الإجهاز علي مؤسساته وأجهزته الإدارية والاجتماعية والعسكرية وحتي علي موروثه الثقافي في حرب العام 2003، بعدما أنهك شعبه واقتصاده حصار صارم وعقوبات اقتصادية جائرة دامت 13 عاما وأهلكت ما يزيد عن مليون ونصف المليون من رجاله ونسائه وأطفاله. وها هي أمريكا تحاول الآن الضغط علي سورية لحملها علي تغيير سلوكيتها بما يضمن إندراجها في المخطط الرامي إلي ضرب المقاومة في كل من العراق وفلسطين ولبنان. وإذا ما رفضت سورية الإذعان لهذا المخطط الراعب فإن سياسة تغيير السلوكية ستتطور، علي ما رَشَح من زيارة مسؤوليّ الخارجية والأمن القومي الأمريكيين ديفيد ولش وأليوت ابرامز لبيروت، إلي سياسة تغيير النظام برمته.
الحقيقة الرابعة، تخوّف متزايد لدي حكومتي مصر والسعودية من تداعيات السياسة الأمريكية في العراق وسورية ولبنان... وكان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود فيصل قد أبدي مخاوف واضحة في حديثه لأعضاء مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك قبل أسابيع عدة من أن تؤدي سياسة واشنطن المنحازة للقوي السياسية الشيعية الممالئة لإيران في العراق إلي سقوطه في براثن إيران في نهاية المطاف. وقد عززت نتائج الإنتخابات النيابية العراقية الأخيرة مخاوف المسؤولين في القاهرة والرياض وكذلك في عمان من مفاعيل وصول حلفاء إيران إلي السلطة في بغداد وانعكاسها علي الدول المجاورة... ثم ان القاهرة والرياض تخوفتا أيضا من ان تؤدي ضغوط واشنطن المتزايدة علي دمشق في إطار دعوتها إلي التعاون مع لجنة التحقيق الدولية في جريمة إغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري إلي تحويل تفاهم سورية الاستراتيجي مع إيران تحالفاً سياسياً ودفاعياً. وفي هذه الحال، فإن إحتمال إعتماد الولايات المتحدة خيار إسقاط النظام السوري يصبح وارداً ما يؤدي إلي زلزال عسكري وامني في المنطقة ويخلّف إرتدادات مؤذية في دول مجاورة عدّة... لتفادي هذا الزلزال وإرتداداته سارع الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك إلي إطلاق مبادرة لدعم سورية بشخص رئيسها بشار الأسد، والسعي إلي تطبيع العلاقات اللبنانية ـ السورية، والتوفيق بين القوي السياسية اللبنانية المتصارعة... غير ان تدخل واشنطن وباريس عبر حلفائهما اللبنانيين أحبط مساعي العاهل السعودي والرئيس المصري وترك لبنان في مهب إضطرابات داخلية ورياح إقليمية.
الحقيقة الخامسة، تصاعد نشاط القوي الإسلامية بجناحيها السياسي والجهادي ضد الولايات المتحدة والأنظمة الموالية لها في المنطقة... ففي العراق تتواصل عمليات المقاومة ضد القـوات الأمريكية وقوي الأمن الداخلي العراقية وتحقق نجاحات ملحوظة... غير ان القوي المعادية للإحتلال مهددة بإنشقاق وشيك سببه خلاف حول إدارة الصراع اذ يركّز الزرقاوي والفصائل المتحالفة معه علي ضرب أجهزة الأمن العراقية، متسبّباً غالب الأحيان في إهلاك عدد كبير من المدنيين الأبرياء. ويبدو أن القيادة الأمريكية إستغلت هذا الخلاف بدعوة قيادات سياسية إسلامية إلي حث أهل السنّة علي الإنتساب إلي قوات الشرطة والجيش مع ضمانات بأن يخدم المنتسبون الجدد في محـافظات الأنبار وصلاح الدين وديالـــي ونينوي (الموصل) حيث الغلبة العددية لأهل السنّة... وسيكون من شأن هذا التدبير، إذا ما نجح، تعميق الفرقة بين مكوّنات العراق الثلاثة وتحويل بلاد الرافدين إلي مجموعة كانتونات كما كان الوضع في لبنان أبّان الحرب الأهلية... ذلك ان أهل الشيعة سيحكمون منفردين محافظات الجنوب التسع، بينما يحكم أهل السنّة محافظات الوسط الغربي والشمال الغربي، ويستقلّ الكرد بحكم محافظات كردستان العراق الثلاث... ويبدو أن الغاية المتوخاة من هذا التدبير إقامة نوع من التوازن الهش بين مكوّنات العراق الرئيسية، يمكّن الأمريكيين من الإنسحاب التدريجي من دون أن يؤدي إلي هيمنة إيران علي مجمل الوضع العراقي. لا تقتصر مغازلة الأمريكيين علي بعض الإسلاميين العراقيين بل تمتد أيضا إلي سورية حيث رصد المراقبون تقارباً بين بعض القوي الإسلامية المعارضة للنظام ونائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام الذي تردد انه ينوي إعلان حكومة في المنفي... وإذا ثبت دعم أمريكا لهذه الحكومة المرتقبة، فإن ذلك سيفسّر تصاعد ضغوط واشنطن ضد النظام السوري عبر حلفائها اللبنانيين وحرصها علي التأكيد للجميع، لبنانيين وسوريين، انها لم تعقد أية صفقة مع النظام، وان مساعيها الرامية إلي تغييره جادة وجدّية.
في لبنان جري الإعلان أخيرا عن تبني منظمة القاعدة لعملية إطلاق الصواريخ ضد إسرائيل قبل أسابيع عدة... وإذْ حاولت الأوساط المعارضة لحزب الله الترويج لمقولة تعذّر نجاح عملية الصواريخ تلك من دون تعاون حزب الله الذي يسيطر علي جنوب لبنان، فإن الرأي الغالب في الأوساط السياسية يستبعد هذا الإحتمال نظراً لما يوّلده من إرباك سياسي للحزب المذكور.
الجديد في موقف الولايات المتحدة من سورية والقوي الإسلامية في المنطقة هو تأكيد مصدر مسؤول في مجلس الأمن القومي الأمريكي لإحدي الصحف العربية ( الحياة ) تداخل الملفين السوري والإيراني ضمن الأجندة الدولية ، مشيراً إلي ان نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بحث مع قادة مصر والسعودية أفضل الوسائل للتعامل مع التهديدات والتحديات التي يواجهها المجتمع الدولي بسبب خروج كل من دمشق وطهران عن السياق الإقليمي والدولي وتهديدهما لأمن وإستقرار المنطقة والعالم .
رافق تصريح ذلك المسؤول في مجلس الأمن القومي الأمريكي تطور ملحوظ في موقف الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي... فقد شددوا علي ضرورة البحث في عقوبات علي طهران لإحتواء طموحاتها النووية وإن أدي ذلك إلي إرتفاع أسعار النفط... فقد قال السناتور ترنت لوت: لا يمكن ترهيبنا بالتهديدات الاقتصادية من جانبهم . وعـن الخيار العسكري قال السناتور جون ماكين: هذا هو الخيار الأخير... إنما ينبغي إستنفاد كل شيء آخر قبل ذلك. لكن القول إننا لن نمارس الخيار العسكري في أية ظروف، سيكون نوعاً من الجنون . الحقيقة ان اللجوء إلي الخيار العسكري هو الجنون بعينه... ومع ذلك فإن أمريكا لن تجن قبل ان تسحب قواتها من العراق لئلا تبقي رهينة بيد إيران... كما انها ستسعي، لحماية ظهر إسرائيل التي قد تُكلف بدور في قصف المنشآت النووية الإيرانية، بتحييد حزب الله في لبنان، وإذا تعذّر ذلك ستحاول بالتعاون مع إسرائيل ضربه لإخراجه من مسرح العمليات... لكن إيران (وسورية؟) والقوي الإسلامية الجهادية، بمختلف مشاربها وتلاوينها، الساهرة علي المراقبة الدقيقة والتحسب، سترّد في الغالب علي مدي المنطقة برمتها، بقسوة وفعالية وجنون يلحق بالغ الأذي والأضرار والخسائر البشرية والمادية بورثة المجانين في البيت الأبيض والبنتاغون الذين كانوا صنعوا كارثتي هيروشيما ونغازاكي.
هل فات أوان التدخل ياإطفائيي القاهرة والرياض؟

ہ كاتب وسياسي من لبنان