بين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية...جوانب مقارنة (2)

فايز رشيد

معرفة العدو ومجابهته
منذ هنيبال، الذي قال جملته المشهورة (اعرف عدوك)، وحتى هذه اللحظة، فإن معرفة العدو الذي تجابهه حركة المقاومة، هي أحد الشروط الرئيسية للانتصار عليه. والمقصود بالمعرفة: طبيعة الأهداف الاستراتيجية التي يسعى لتحقيقها في البلد المعني، وإدراك المعاني الحقيقية لما يتبعه من سياسات. ومن أجل التأثير عليه يتوجب معرفة التفاصيل الكاملة عنه.
لبنانياً، فإن المقاومة بقيت منسجمة مع اطروحاتها الاستراتيجية بالنسبة لموقفها من العدو الصهيوني ولا تزال، وهي تجهد تماماً في إدراك تفاصيل هذا العدو وفي مختلف المجالات، وأعلامها وأدبياتها متوائمة مع ما تعتقده. أما من حيث مجابهته فهي تؤمن إيماناً قطعياً بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة المقاومة بالسلاح، مع عدم إنكارها للنضال السياسي شريطة عدم الالتقاء بالعدو.
فلسطينياً، فقد حدد البرنامج السياسي في الدورات الأولى لمنظمة التحرير، أن إسرائيل هي طليعة للحركة الصهيونية، الحركة النازية والفاشية، وأن بقاء دولتها يعتبر عدواناً استعمارياً صهيونياً مستمراً ويشكل خطراً مستمراً على الوطن العربي والسلام العالمي.
اللافت للنظر، أنه في الوقت الذي ابتدأ فيه العالم من الاقتراب من الرؤية الفلسطينية للحركة الصهيونية، والذي تمثل في قرارات دولية عديدة، أبرزها قرار الأمم المتحدة باعتبار هذه الحركة شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.... ابتدأت فيه القيادة المتنفذة في <م. ت. ف>انحدارها في الأهداف الاستراتيجية الفلسطينية (وكان ذلك ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية) وأبدت استعدادها للمساومة على الحقوق الفلسطينية فيما سمي ب(المساومة التاريخية).
أما من حيث الاتصال واللقاء مع العدو، فمرا بمراحل متعددة: المنع، ومن ثم الاتصال عبر وسيط ثالث، إلى اللقاء بحضور الوسطاء، وصولاً إلى اللقاء المباشر السرّي وثم المعلن، وإلى تسمية رابين (برفيق السلام) أو (شهيد السلام) على حد تعبير أحد القادة العرب.
ومن حيث مقاومة العدو، فإن الفريق المتنفذ في <م. ت>قد تدرج في أشكالها، من الكفاح المسلح كطريقة وحيدة للمجابهة، مروراً بكافة أشكال النضال، وصولاً إلى تعديل الميثاق وإلغاء كل البنود التي تجيز للمقاومة الحق في استعماله، وتحديد الإطار السياسي كمجال وحيد للتسوية مع إسرائيل. هذا لا ينفي أن لفصيل هذا التيار تنظيمه العسكري، الذي قام بعمليات عسكرية موجعة ضد إسرائيل، ولكن القيادة الفلسطينية للسلطة كانت غالباً ما تدين هذه العمليات لفصيلها أو للفصائل الأخرى.
هذا كان يتم في ظل استمرار إسرائيل في عدوانها ومذابحها على شعبنا في كل المناطق الفلسطينية.
المسألة الثانية، أنه في فترات مختلفة من مرحلة التحرر الوطني، قد يجري تغليب هذا الشكل النضالي أو ذاك، كالانتفاضة ذات الطابع الجماهيري على سبيل المثال، أو غيرها من الطرق، لكنها يجب أن لا تلغي الشكل النضالي الرئيسي وهو الكفاح الوطني المسلح، وبذلك (فإن الخط العسكري السليم) باعتباره المنطلق الرئيسي لمطلق حركة مقاومة قد تعرض لذبذبات كثيرة وتراجعات وصولاً إلى إلغائه في في عرف البعض، والإبقاء عليه من قبل غالبية التنظيمات الفلسطينية.
الإيمان النظري الأيديولوجي
للحركة المقاومة
هي المبادئ والأسس العقائدية الفكرية المعتنقة للحركة المقاومة، التي تستند إليها البرامج النضالية في تواؤم كبير من حيث الارتباط بين المسألتين، فالنضال العفوي الذي يستند إلى شعارات كبيرة تلامس النبض والرغبة الجماهيرية، يظل ناقصاً إن لم يرتبط بتلك المبادئ والأسس العقائدية، التي تشكل عاملاً موحداً وأساسياً للمنتمين إلى هذه الحركة، ومدخلاً مهماً إليها للانطلاق نحو الجماهير، مادتها الرئيسية في النضال من جهة، ومنطلقاً واضحاً ولزومياً ليس لمسيرة النضال فحسب وإنما تصوراً بخطوط للمرحلة التي تليها (ما بعد الاستقلال الوطني) على ضوء واقع هذه الحركة المقاومة والظروف الموضوعية لجماهيرها وبلدها من جهة أخرى.
ورغم تعدد المنطلقات النظرية لحركات المقاومة في التاريخ الحديث، فإنها تنحصر في اتجاهات ثلاثة: دينية، وطنية قومية، ويسارية.
لكن أيّاً كان الانتماء العقائدي للحركة المقاومة، فمن أجل أن يفعل فعله المرجو، يتوجب أن يشكل إيماناً حقيقياً (وليس شكلياً) للمنتمين إلى هذه الحركة: أعضاءً وقيادةً، فمن دون ذلك، وإلى جانب الخلل الذي يحدثه الإيمان الشكلي في مجمل المسيرة النضالية، إن من حيث عدم اقتناع العضو ذاته في صحة ما يدّعيه من منطلقات نظرية وبالتالي في ما يقول، أو في انعكاس هذا الأمر على توجهه نحو الجماهير، فلا يمكن لغير مقتنع أن يقنع أناساً عاديين بصحة منطلقاته النظرية.
من جانب آخر، فإن ميزة كبيرة تجنيها الحركة المقاومة وتنعكس في التفاف الجماهير الشعبية من حولها، واحتضانها والإيمان بأهدافها، إن تواءَمَ منطلقها العقائدي مع أهدافها الاستراتيجية، وفي حالة انسجام هذين العاملين المهمين مع ما تؤمن به الجماهير عفوياً وبالفطرة من شعارات ومعتقدات مترسخة في أذهان أفرادها.
لا نقول ذلك للمفاضلة بين بُعد إيديولوجي وآخر، وإنما من حقيقة موضوعية أفرزتها تجارب الكثير من الحركات المقاومة.
لبنانياً، فإن المقاومة تنطلق من بعد إيماني ديني معزز بالانتماء الوطني القومي في النظرة إلى الأعداء ووجود دولتهم، وبذلك تحققت أعلى درجات الانسجام بين هذا الإيمان والمعتقدات الإستراتيجية، إن بالنسبة لما تريد تحقيقه من أهداف في لبنان في صراعه مع العدو، أو بالنسبة لوجود دولة هذا العدو في المنطقة العربية، رغم أنها لم تضع هذا الوجود ومهمات إزالته في أجندتها الاستراتيجية المباشرة، بل ترى دورها في دعم المقاومة الفلسطينية في تحقيق تلك المهمة.
من المزايا التي تحققت للمقاومة اللبنانية من خلال هذا التبني المعتقدي أن غالبية الجماهير اللبنانية في الجنوب اللبناني تتبنى هذه المعتقدات، وتسكن الأرض التي تعتبر منطلقاً جغرافياً للنضال، وبذلك تحققت وحدة الجغرافيا والإيديولوجيا والسياسة (وذلك نادراً ما يتحقق لحركة المقاومة) ما كان لها أثرٌ كبير في مدى الاحتضان الجماهيري لهذه المقاومة، وبذلك تحققت أيضاً الوحدة الكاملة بين المقاومة وجماهيرها، (وهذه أيضاً وبهذه المستويات من النادر أن تتحقق)، ما صنع في نهاية الأمر تعزيزاً وقوة إضافية للمقاومة اللبنانية، التي استغلت هذا الأمر أحسن استغلال.
فلسطينياً، فقد تبلورت المعتقدات النظرية لدى الكثير من الفصائل الفلسطينية بعد مضي فترة عام إلى عامين على انطلاقة النضال المسلح مباشرة بعد حرب عام 1967 كرد على الهزيمة. الفترة حرص بعض الأنظمة العربية، وتحديداً ذات الاتجاه الحزبي القومي، على أن تشكل الأفرع الفلسطينية التابعة لأحزابها، تنظيمات مسلحة مقاومة في الساحة الفلسطينية.
يمكن حصر المعتقدات النظرية للفصائل الفلسطينية في الاتجاهات التالية:
الاتجاه الوطني العام كان عرضة للآراء المتعددة في داخل التنظيم الواحد بالنسبة لقضية ما سياسية. كان من الصعب في مثل هذا الاتجاه تغليب مبدأ تنظيمي في غاية الأهمية بالنسبة للثورة في مرحلة التحرر الوطني، ألا وهو (احتكام الأقلية لوجهة نظر الأغلبية) في المسائل والقضايا السياسية.
قد يكون هذا الانحكام يجري في انتخابات الهيئات وفي تقرير أمور تنظيمية، لكن في بلورة رؤية سياسية واضحة ومحددة وموحدة... فهذا شيء لم يحدث إلاّ في حالات نادرة من المسيرة النضالية... وبالتأكيد فإن له تداعياته الأخرى، من حيث سهولة ارتباط فئات معينة في تنظيمات هذا الاتجاه في هذا النظام الرسمي أو ذاك عربياً كان أم دولياً، ما يعني انعكاساً وتأثيراً مباشراً على تقليل الوحدة السياسية في التنظيم الواحد، وهو ما سيؤثر بالضرورة على مجمل الأداء النضالي للتنظيم.
أما في ما يتعلق بالتنظيمات ذات الاتجاه القومي، فأقل ما يمكن أن يقال فيها: أنها امتداد للتنظيمات الأم الحاكمة في بلدانها، سياسياً وتنظيمياً، استراتيجياً وأداءً! فالسياسة الفلسطينية لهذه التنظيمات كانت دوماً عرضةً للتدخل من قبل النظام للحزب القومي الحاكم، والذي تقلص في دوره تدريجياً ليصبح فئة حاكمة، وفيما بعد تطور الأمر إلى الزعيم الحاكم.
في كثير من المراحل كان لبعض تنظيمات هذا الاتجاه رؤيته المغايرة لمجموع التنظيمات الفلسطينية الأخرى، ليس بالمعنى السياسي فحسب، وإنما بالمعنى الميداني العسكري أيضاً، وتحديداً في الانزلاق إلى الاقتتال الداخلي الفلسطيني الفلسطيني!
بالنسبة للاتجاه اليساري في الساحة الفلسطينية... فباستثناء الحزب الشيوعي (الفلسطيني) في ما بعد المتبني للماركسية اللينينية، والذي لم يكن على جدول أعماله نهج الكفاح المسلح، بل اقتصر نضاله على الساحة السياسية تحت شعار (دولتين لشعبين)، وفي ما بعد تعرض لانشقاقات حادة، بعض أطرافها انتهج شعار (الثورة المسلحة)... فإن تنظيمات اليسار الفلسطيني تبلورت رؤاها الأيديولوجية خلال سنوات قليلة ما بعد هزيمة حزيران مباشرة.
اليسار الفلسطيني هو امتداد لإرهاصات نظرية كانت تجري في حركة القوميين العرب، وبخاصة في السنوات الأخيرة ما قبل عام .67
إن تبني أحد تنظيمات المقاومة الفلسطينية للنهج اليساري الماركسي بعد الهزيمة، يُعَدّ خطوة كبيرة ورائدة وشجاعة في آنٍ معاً، ففي الوسطين الفلسطيني والعربي عموماً ارتبط هذا النهج بالكفر والإلحاد والابتعاد عن الدين والتراث!
وبغض النظر عن هذه الصورة، استطاع هذا التنظيم الرائد أن يكون أحد أكبر تنظيمين في الساحة الفلسطينية.
ذلك لا يعني عدم وجود إشكالات نظرية في هذا التنظيم، والتي تبلورت في ما بعد في انشقاق تنظيمي لفئة شكلّت تنظيمياً يسارياً جديداً إلى جانب التنظيم الأم.
ومع صعوبة الجمع بين فصائل اليسار الفلسطيني من حيث الإشكالات النظرية التي كانت تعتمل في دواخلها... لكن وبسمة عامة يمكن إجمالها بما يلي:
إن تبني فصائل اليسار الفلسطيني للإيديولوجيا الماركسية، لم يكن استجابة لتطور موضوعي في الساحة الفلسطينية اقتضى هذا الاعتناق العقائدي... وإنما امتداد لإرهاصات سابقة (مثلما قلنا) سارعت في حسمها هزيمة 67 بمعناها النظري التحليلي العريض... ما يعني أن التبني في بعض عوامله كان يميل إلى التبني القسري، الأمر الذي كان يحمل في أحشائه (وبخاصة في السنوات الأولى) انفصاماً ما بين الإيمان النظري والتطبيق وقد كانت له أسبابه ومنها: ان الكوادر التي تربّت لسنوات طويلة بالثقافة القومية، كان عليها أن تنتقل بسرعة فائقة إلى نمط جديد من الخطاب النظري للتعبئة الذاتية والأخرى التحريضية، إن في أوساط التنظيم نفسه أو في علاقته بالجماهير...
الاتجاه الديني ينطلق من إيمان عقائدي بالإسلام وتعاليمه في ما يتعلق بالصراع مع الأعداء وبخاصة مع اليهود... ولذلك فإن الخطاب السياسي لأصحاب هذا الاتجاه حتى فترة زمنية قريبة كان يقرن بين اليهود والقردة والخنازير، من خلال التصريحات حتى على وسائل الإعلام الأجنبية، بعيداً عن الفهم العلمي بأن يهوداً كثيرين كانوا تاريخياً وراهناً ضد الحركة الصهيونية... كإيديولوجيا تحويلية لليهودية من ديانة إلى حركة قومية، استيطانية، استعمارية، عنصرية.
فصائل الاتجاه الديني، أولت الجوانب الحياتية الخدماتية والاجتماعية للفلسطينيين أهمية أساسية، في ظل وجود قدرات مالية كبيرة، واعتبرت هذا المدخل الخدماتي مجالاً للعمل على توسيع نفوذها وتغلغلها بين أوساط الجماهير.
لقد لوحظ أن التنظيم الأقوى بين الحركات الدينية على الساحة الفلسطينية، عندما تسلّم الحكومة بعد الانتخابات التشريعية، أخذ في الميل إلى النهج البراغماتي في السياسة، إن من حيث طرحه لهدنه مع إسرائيل لمدة 15 عاماً، أو من حيث شبه إيقاف لعملياته العسكرية ضد إسرائيل، باستثناء ما يقوم به من بعض العمليات في المناطق الفلسطينية المحتلة، ومن حيث نمطية الخطاب السياسي أيضاً، فالفرق كبير بين وجود الحزب في المعارضة ووجوده في إحدى مؤسسات السلطة.
الجوانب المسلكية في العلاقة الداخلية
ومع الجماهير أيضاً
لعل من أهم جوانب كل الحركات المقاومة على مدار التاريخ، الجوانب المسلكية لقادتها وأعضائها، إن في العلاقة الداخلية في ما بينهم، أو الأهم وهي العلاقة مع الجماهير.
لبنانياً، كان لافتاً للنظر الانضباط المسلكي الصارم والحديدي لأعضاء المقاومة اللبنانية لسنوات ما قبل العدوان الإسرائيلي الأخير في عام ,2006 وأثناء هذا العدوان وما بعده، فالمقاتلون مجهولون، لا يعرفهم أو يراهم أحد، ولا يتجولون بين الناس بلباسهم وأسلحتهم، ولا يختالون تيهاً في الأرض، والآخرون من ذوي المهمات المتعددة، يعرفون واجباتهم ويقومون بها، كل في موقعه، ويقوم بالمهمة المحددة له خير قيام.
كذلك فإن المقاومة اللبنانية شكّلت جسماً صلباً عصيّاً على الاختراق(باعتراف العدو).
فلسطينياً، بداية نود التوضيح، بأنه وفقاً للتنوع التنظيمي في الساحة الفلسطينية، ووفقاً للانتماء النظري العقائدي لها، فإنه برغم الإجماع من كافة التنظيمات على نسج أفضل العلاقات مع الجماهير الفلسطينية... إلاّ أن بعض هذه التنظيمات وخاصّة المتنفذة منها تعاني انفصاماً ما بين الإيمان النظري بأهمية العلاقة مع الناس وبين حقيقة المسلكية على هذا الصعيد، فالبعض من أفراد هذه التنظيمات يرى نفسه فوق الناس والجماهير، حتى أنّ انغلاقه التنظيمي، ودفاعه عن تنظيمه مصيباً كان أم خاطئاً بالنسبة لهذه القضية أو تلك، يُعميان عينيه عن رؤية الحقيقة، حيث إن انشداده لتنظيمه يقع فوق انتمائه للقضية، التي هي أكبر من كل التنظيمات!
في الساحة الفلسطينية توجد تنظيمات أحرص ما تكون على العلاقة مع جماهيرها، وفيها أيضاً من لا تضع أي حسابات للعمل الجماهيري.
المرحلة الأولى في النضال، كنا نستطيع فهم ذلك، لو أن المقاومة استفادت من أخطائها في الأردن، في الساحة اللبنانية الجديدة، التي جرى ترحيلها لها... لكن نفس الأخطاء مورست وبشكل أوسع.
هذا لا يعني التقليل من التضحيات التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في لبنان أو في سبيل قضيتها الوطنية، أو التقليل من حجم المؤامرات والاستهدافات التي تعرضت لها.
في لبنان، فإن بعض القوى الفلسطينية رأت في تنظيماتها بديلاً للحركة الوطنية اللبنانية، وأنشأت على هامشها تنظيمات صغيرة ملحقة بالتنظيم الفلسطيني.
إساءات كثيرة كانت توجه إلى الناس، روفقت بمسلكيات مثل: الفساد والإفساد والثراء غير المشروع والزعرنة والاستبداد، وللأسف لم تجر محاسبة مقترفي ذلك.
الخلل المسلكي في التعامل مع الجماهير انتقل أيضاً إلى المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة مع الدخول بعد اتفاقيات اوسلو، وبدلاً من أن يشكل هذا الدخول رافعةً لأوضاع الجماهير الفلسطينية في كافة المناحي، والتي عانت طويلاً من مرارة وعذابات الاحتلال... فهم البعض أن الاحتلال قد انتهى! وابتدأ الإثراء والفساد والمحسوبيات، وإقامة المؤسسات الاقتصادية: استيرادية وتصديرية بالشراكة مع إسرائيليين، وابتدأت مظاهر الانفلات الأمني وفرض الخوّات والغرامات والشراكة على الشركات الاستثمارية. وللأسف تفاقمت الأوضاع إلى الحد، الذي جعل قسماً كبيراً من جماهيرنا يترّحم على أيّام الاحتلال!
لقد شكلّت السلطة الفلسطينية ما يزيد على اثني عشر جهازاً أمنياً، وزاد عدد الموظفين عن مئة ألف، أما الرتب العالية من الضباط (عقداء وزعماء) فربما تزيد على مثيلتها بين الجيوش الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية.
هذا العدد الكبير في الأجهزة، كان من المفترض أن يشكل عائقاً كبيراً أمام إعادة احتلال الجيش الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية... (فمثلاً في مخيم جنين استطاع بعض المقاومين من كافة التنظيمات، الذين لم يمتلكوا سوى أسلحة بسيطة منع الجيش الإسرائيلي من احتلال المخيم مدة أسبوعين في معارك ضارية أشرف عليها شارون شخصياً ووزير دفاعه وقائد أركانه، وبالرغم من ضرب مواقعهم بالطائرات الإسرائيلية... وبعد نفاد أسلحتهم واستشهادهم جميعاً، استطاع الإسرائيليون دخول المخيم بعد أن حولوه لركام)! ولكن للأسف شاهدنا على الفضائيات كثيرين من أعضاء هذه الأجهزة يسلمون قذائف (الأر. بي. جي) للإسرائيليين (مع أنها تستعمل ضد الدبابات) ويسلمون أنفسهم للإسرائيليين!
حصل الشيء نفسه، عندما هاجمت إسرائيل سجن أريحا لاختطاف أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي ورفاقهما.
اعتقد موقعو اتفاقيات اوسلو أنهم في الطريق إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وبدأت بعض فصائل اليسار الفلسطيني في التنظير لبدء مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، وهي مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي، باعتبار أننا انتهينا (بل الأدق تعبيراً انجزنا) مرحلة التحرر الوطني! هذا الخطأ الفادح في تقييم المرحلة (والانجازات) من النادر أن تقع في مطباته فصائل أساسية في مطلق حركة تحرر وطني، ولا بد له من أن ينعكس سلباً على مجمل النضال الفلسطيني. وبالفعل لم تمض سنوات طويلة على إنشاء السلطة حتى قامت إسرائيل بهدم بنيتها التحتية مرّات ومرات، وجعلت منها ووفقاً للتصورات الإسرائيلية: مسؤولة عن إدارة الشؤون الحياتية للفلسطينيين، ومن ثم أعلن شارون (وفاة) اتفاقيات أوسلو نهائياً.
على الصعيد العملي المقاوم... فإن التنظيمات الفلسطينية كانت تسجّل لأعضائها الاستشهاديين ممن يقومون بعمليات فدائية نوعية، أشرطة تسجيل مصورّة... لا تلبث أن تبثها بعد التنفيذ!
ردة فعل قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت تتمثل في القيام فوراً بهدم منزل الفدائي واعتقال أهله! للأسف لم تراع تنظيمات المقاومة الجانب الأمني للأهل في هذا السياق!
من أكبر الأخطاء التي عانت منها فصائل المقاومة في المناطق الفلسطينية: قضية العملاء، الذين لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً مهماً في التسهيل لإسرائيل للقيام باغتيالاتها للقادة والناشطين الفلسطينيين، من خلال الاستدلال بسرعة على مواقعهم وأماكن تحركاتهم. للأسف فإنه وفقاً لأحد بنود اتفاقيات اوسلو... اشترطت إسرائيل، ووافق على ذلك موقعو الاتفاقيات من الفلسطينيين بعدم جواز تعرض السلطة للعملاء! صحيح أن عملاء كثيرين جرت تصفيتهم، لكن ذلك كان يتم خارج إطار السلطة. وصحيح أن البعض من العملاء كان يُسجَن من قبل السلطة... لكن في معظم الحالات كانت إسرائيل تقوم بغاراتها على السجون واختطاف عملائها.
(?) كاتب فلسطيني