في مصادرة الـشعب السوري
محمد علي الاتاسي
الشعب السوري مصادَر في إرادته
وحقه في إبداء الرأي وانتخاب ممثليه والمشاركة في
صنع القرارات المصيرية التي تخص حاضره ومستقبله،
منذ عهد سوريا مع الاستبداد. لا بل ان هذا الشعب
مصادَر حتى في وجوده الفيزيائي والمكاني.
لسنا هنا لندّعي حقاً مزعوماً
للتكلم باسم هذا الشعب، كما أننا لسنا هنا لننسب
هذا الحق إلى هذه الفئة أو تلك من أطراف السلطة أو
المعارضة. لكننا مع ذلك، وباسم حق المواطنة الذي
يشترك فيه جميع أفراد الشعب السوري، نريد أن نسجل
اعتراضنا على كل المحاولات البالية، التي لا تنفك
تطلع علينا بين الفينة والأخرى، لتمعن في إدراج
الشعب السوري في الهاوية نفسها التي وضع النظام
نفسه فيها. فإذا كان هناك من مسؤولين مشتبه في
تورطهم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري،
فباسم أي مبادئ وطنية ووفق أي منطق سيادي يريد
البعض للشعب السوري بأسره أن يتحمل وزر ما قد تكون
قلة منه قد ارتكبته في العتمة ووراء جدران الغرف
المظلمة؟! بقدر ما ينطبق هذا الكلام على كل
محاولة دولية لفرض عقوبات اقتصادية على بلد في
مجمله، يعاني منها الصغير قبل الكبير، والفقير قبل
الغني، والمواطن قبل المسؤول، فإنه في الوقت نفسه
ينطبق على محاولات بعض أطراف السلطة تصوير الشعب
السوري بأسره متماهياً معها في الضراء كما في
السراء. كيف التماهي ولماذا؟ عندما يتعلق
الأمر بجريمة سياسية من الطراز الأول، راح ضحيتها
أحد الأصدقاء التاريخيين لسوريا. كيف التماهي ولماذا؟ عندما يتعلق
الأمر بالتعاون الجنائي مع التحقيق الدولي والسماح
للشهود والمشتبه فيهم من السوريين بالمثول أمام
لجنة التحقيق الدولية بعيداً عن أعين أجهزة
المخابرات السورية وكاميراتها الخفية. كيف التماهي ولماذا؟ عندما يتعلق
الأمر بتسليم المشتبه فيهم إلى العدالة الدولية
لينالوا جزاءهم إذا كانوا مذنبين، أو ليثبتوا
براءتهم إذا كانوا حقاً قانعين بها. الكثير من أفراد الشعب السوري
ومن أطراف المعارضة السياسية، واعون تماماً أن ما
تريده الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من
سوريا يتجاوز بكثير كشف الحقيقة في قضية اغتيال
الرئيس رفيق الحريري. لكن مواجهة المخططات
الأميركية التي تستهدف البلد قبل النظام، لا
يمكنها أن تكون في رفض التعاون مع لجنة التحقيق
الدولية أو في الامتناع عن تقديم المشتبه فيهم إلى
العدالة تحت شعار السيادة الوطنية. إنه لمن العبث أن يجري تعبئة
المواطنين السوريين في مواجهة لجنة التحقيق
الدولية ومجلس الأمن الدولي، حول قضايا من مثل
التحقيق مع المشتبه فيهم أو تسليمهم إلى العدالة.
وإذا كانت سوريا تجد نفسها في أمس الحاجة، كما
تدعي السلطة، إلى أن تثبت براءتها من دماء رفيق
الحريري ورفاقه أمام أعين العالم أجمع، فإن إثبات
البراءة لا يكون في التظاهرة المفبركة واستعراضات
الشوارع، بل يكون في التعاون مع لجنة التحقيق وفي
تقديم الأدلة والبراهين التي تثبت بالملموس هذه
البراءة المنشودة. المصادرة الرسمية في هذه الأوقات العصيبة كان
لرئيس مجلس الوزراء السوري السيد ناجي العطري
تصريح الى صحيفة "البعث" بتاريخ 27102005 قال فيه
الآتي: "إن الشعب السوري وقيادته كل لا يمكن
تجزئته، وربما كانت مسيرات الأمس في دمشق وحلب
دليلاً واضحاً على ذلك". ترى، أليس في اعتبار القيادة
والشعب كلاً لا يتجزأ، ألف باء الفكر الشمولي الذي
يعمل جاهداً في خطابه وممارسته على صهر القيادة
والشعب في بوتقة واحدة تلغي كل تمايز واختلاف
ومعارضة؟ "أنا الشعب والشعب أنا"، عبارة
رددها الكثير من الحكام والقادة، لكن سنّة الحياة
فرضت نفسها في النهاية وذهب الحكام وبقيت الشعوب.
أما مسيرات دمشق وحلب التي يتحدث عنها السيد
العطري فإذا دلت على شيء فعلى الإمعان في المصادرة
الفيزيائية والجسمانية للشعب السوري الذي يريدون
له أن يُختزل في كتل جرارة في الشوارع مؤلفة في
معظمها من طلاب المدارس والموظفين الذين تمت
مصادرة أجسادهم وتم إجبارهم على المشاركة في هذه
المسيرة. الطريف أن تصريحات السيد ناجي
العطري جاءت رداً على بعض القيادات السياسية
اللبنانية التي أحسنت صنعاً في تأكيدها أواصر
الصداقة والأخوة التي تربط بين الشعبين في سوريا
ولبنان، وفي إصرارها على أن الشعب السوري ليس
مسؤولاً بشيء، لا عن تدهور العلاقات بين البلدين
ولا عن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وإذا
كان السيد ناجي العطري يصف في الحديث نفسه الكلام
عن الشعب السوري كجزء منفصل عن القيادة السورية
بأنه "محاولة لئيمة لن تجدي نفعاً"، فإن ذروة ما
يرتجى من القيادات السياسية وأجهزة الإعلام
اللبنانية في مثل هذه الأوقات العصيبة أن لا تألو
جهداً في تأكيد هذه الفكرة المهمة والأساسية،
التي، وإن كان لا يستسيغها السيد ناجي العطري، فإن
فيها نزعاً لفتيل الأزمة بين الشعبيين وقطعاً
للطريق على أي نعرات عنصرية أو شوفينية يمكن
استغلالها من هذا الجانب أو ذاك. المصادرة المعكوسة استيقظت بعض القيادات وأجهزة
الإعلام السورية وتذكرت فجأة مشاعر الكراهية ضد
السوريين التي تعوّد الجهر بها أطراف معينون في
لبنان، وتذكرت متأخرة الحملات العنصرية التي طالما
تعرض لها العمال السوريون في لبنان. لكن صحوة
الضمير هذه لم تكن لا دفاعاً عن العمال السوريين
ولا إعلاء لقيم الأخوة الإنسانية في مواجهة
الكراهية العنصرية، بل هي استخدمت لإثارة مشاعر
مضادة من النوعية نفسها لدى بعض المواطنين
السوريين، واستخدمت كذلك للتقليل من أهمية تحرك 14
آذار اللبناني في أعين السوريين. وإذا كان منطق بعض الأطراف
العنصريين في لبنان يلتقي من حيث الجوهر مع منطق
البعض في سوريا ممن يحلو له الحديث عن انصهار
الشعب والنظام في بوتقة واحدة، فإن من المفيد
التذكير هنا بأن الحجة الرئيسية والمحقة التي
طالما استخدمها المدافعون الفعليون عن العلاقات
الصحيحة بين البلدين والمنتقدون الجذريون لكل
الغرائز العنصرية والشوفينية، كانت في تأكيد أهمية
عدم التعميم وضرورة التفريق بين الحاكم والمحكوم
عندما يتعلق الأمر بالشأن السوري - اللبناني
وبممارسات السلطة السورية في لبنان. المصادرة الإعلامية إذا وضعنا جانباً تصريحات
المسؤولين السوريين والدعاية التي تقوم بها أجهزة
الإعلام الرسمي، فإن إحدى الوسائل الناجعة
والشديدة الأهمية التي باتت تستخدمها السلطة
السورية أخيراً في محاولتها إظهار تماهي الشعب
السوري مع مواقفها السياسية، تتمثل في تركها هامشا
معينا من الحريات الإعلامية يسمح لبعض الصحافيين
السوريين بالعمل مراسلين محليين لبعض وسائل
الإعلام العربية التي لا يُعرف عنها محاباتها
للنظام السوري. في المقابل فإن الكثير من هؤلاء
المراسلين ونتيجة حرصهم على عدم سحب بطاقاتهم
الصحافية الممنوحة لهم من وزارة الإعلام والتي
تؤهلهم رسمياً للعمل داخل سوريا كمراسلين، يعمدون
إلى ممارسة الرقابة الذاتية الفاضحة، هذا إذا لم
يتطوع البعض منهم ليكون ناطقاً شبه رسمي باسم
السلطة السورية. ويكفي في هذا المجال أن نذكر
الريبورتاجات البائسة لكاميرا الرصيف والتي تبثها
بعض نشرات الأخبار في الفضائيات العربية على أنها
رأي "الشارع السوري" في الاستحقاقات السياسية التي
تتعرض لها بلاده. المصيبة تكمن هنا ليس فقط في
اختزال آراء الشعب السوري في رأيين أو ثلاثة
لمواطنين لا نعلم كيف اصطادهم المراسل من الشارع
ليتكلموا باسم الشعب السوري عن اغتيال الرئيس
الحريري أو عن لجنة التحقيق الدولية، ولكن في كون
هؤلاء الناس لا ينفكون يرددون أمام الكاميرا وفي
رعاية المراسل، الخطاب الرسمي السوري نفسه، وإن في
عبارة أكثر عامية. ترى، هل نأتي بجديد إذا قلنا إن
حقيقة مشاعر المواطنين السوريين من كل الأحداث
الجارية اليوم حولهم، يصعب الوصول إليها وتقديمها
في حلة إعلامية مقنعة في ظل الأوضاع القائمة. وهذا
مرتبط ليس فقط بتعدد هذه المشاعر وتنوعها، وإنما
أيضاً بامتناع الإنسان السوري العادي عن أن يقول
رأيه بصراحة أمام الإعلام أو في المجال العام،
خوفاً من أن تطاوله يد الأجهزة الأمنية المنتشرة
في كل مكان. الأكيد أن الكثير من السوريين
يخشون اليوم على بلادهم من المخططات الأميركية
والعقوبات الدولية، لكن هل من المعقول ربط مصير
بلد بأكمله بمصير قلة من المشتبه فيهم في جريمة
اغتيال الحريري؟! إن الدفاع عن الأوطان لا يكون
إلا بسواعد أبنائها، لكن بشرط أن تكون هذه السواعد
متحررة من نير الاستبداد والقمع. لذلك فإن أول
خطوة جدية في مواجهة التهديدات الخارجية، تكون في
إعادة الحرية الى الشعب السوري. أما إذا لم تُعَد
اليه، فسينتزعها في النهاية، لأن أوان المصادرة
حان
أجله.