العرب بين اندفاعة السلاح وأوهام المثقفين

 طيب تيزيني


 

تجيء الحرب الحالية بين إسرائيل ولبنان بمثابة التأكيد على أن العرب إن لم يكتشفوا الضرورة القصوى لتأسيس مشروعهم النهضوي التنويري، فإنهم ماضون صوب تحوّلهم إلى "رهائن" في أيدي من لديه القوة والهيمنة والغَلبة، إضافة إلى مطامح التوسع والسيطرة.

وهذا الأمر ليس وليد المرحلة الراهنة المعيشة، بل يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، أي إلى المرحلة التي اتضح فيها انكسار المشاريع والتوجهات العربية النهضوية على أيدي مَنْ راح مِن الغربيين يسوّق مقولة "المجال الحيوي". ولن يصحّ أبداً الاعتقاد بأن العرب بوغِتوا بذلك كله، ولم تكن لهم أدنى مبادرة في مواجهة التدفق الغربي الاستعماري، ولكنهم مع تعرفهم إلى الغرب، بدأوا يكتشفون أن مبادراتهم النهضوية لن يكتب لها النجاح، إن لم يجيبوا عملياً على السؤال الشهير: لماذا تقدم الغرب، وتأخرنا؟ غير أنهم عجزوا عن تحويل الإجابة على السؤال إلى مشروع يحقق آمالهم في الحرية والتقدم الاجتماعي ضمن دولة أو دول وطنية.

لم تتكوّن قيادات سياسية عربية تمتلك رؤى استراتيجية مشخّصة تُجيب عن مشكلات أقطارها إجابات واقعية، بدلاً من الاحتماء الزائف بأفكار وحدةٍ عربية اندماجية شاملة. وكان ذلك بمثابة استعداء للغرب الاستعماري، مما أسس لحالة "جعجعة بلا طحين" في الفكرالعربي القومي الذي زاد على ذلك بأنه إذ استلم السلطة السياسية في بلدان عربية معينة، فإنه كان يرى في الديمقراطية لغْماً سياسياً أو خيانة وطنية. وكان من شأن ذلك أن أنتج مشروعاً وطنياً تحت الأرض، ومشروعاً أصولياً تحت الأرض وفوق السماء، وجموعاً هائلة من المهمّشين والمُفقرين والمذلّين والمُلاحقين من نُظم أمنية نسيجُها الفساد، وديدنها الإفساد وتحويل التخلّف إلى تخليف دائم. ولم تكن تلك الجموع الهائلة لتقنع بما كتب عليها من قِبل تلك النظم، بل كانت حريصة على كرامتها الاجتماعية والوطنية، التي ظهرت في مناسبات عديدة أتت كأنها من خارج السياق العربي الرسمي. فكان لتلك الجموع مواقفها، التي ارتقى بعضها إلى مستوى الفعل المسلح. وبقدر ما ظهر هذا الأخير كتعبير عميق عن رفض الشعوب العربية للهزائم والانكسارات، فقد نما مُحاصراً تارة ومخترقاً تارة أخرى وملاحقاً مُداناً تارة ثالثة. لكن أكبر خطر على هذا الفعل المسلح كونه أتى خارج عملية تأسيسية لمشروع عربي نهضوي ديمقراطي، مما أفقده الحماية الاستراتيجية اللازمة، إضافة إلى ظهوره كقوة خوارجية وربما طائفية. لهذا حدث عربيا أن تمت رسميا إدانة المقاومة المسلحة، والتي بدت، من المنظور الرسمي، بوصفها عملية طائشة غير مسؤولة!

لقد طرأت تحولات عميقة،ووظيفية، على مفهوم "المشروع الوطني النهضوي"، بعد أن دخل العالم في محور النظام العولمي. والفكر السياسي في العالم العربي أصبح مدعواً إلى القيام بقراءة نقدية لِما حدث من تحولات، ولما بقي من احتمالات التحرك على الصعيد العربي. وإذا صح القول بأن هذا الاستحقاق الذي يواجهه أصحاب الفكر والمثقفون والباحثون في مراكز البحث الاستراتيجي خصوصاً، يقف في مقدمة ما ينبغي إنجازه- في حدّه الأولي القابل للتحول إلى فعل عملي- فإن ما يمكن ملاحظته ها هنا، يُفصح عن نفسه في صيغتين اثنتين:

الأولى تتمثل في هُزال معظم مراكز الدراسات والبحوث العربية الراهنة، خصوصاً منها ما يرتبط بحزب حاكم أو سلطة سياسية تستفرد الحقيقة كما السلطة والإعلام. إذ نواجه هنا أشباح باحثين جلُّ توجههم ينصب نحو إرضاء ذوي القرار في البلد المعني، ولذلك فهم باحثون زائفون ومرتبطون بأجهزة الأمن خصوصاً، إضافة إلى كونهم معزولين عن العلماء والباحثين والمفكرين في بلدهم.

أما الصيغة الثانية فتفصح عن نفسها في أن فئات من المثقفين العرب الموزّعين في بلدانهم العربية، يتّسمون بالقصور المعرفي أو بالكرنفالية الثقافية وغيرهما.

أما النموذج المجسّد للحالة الأولى فيقدمه مثقف صحفي يُقرأ اسمه في كثير من الدوريات، ويرى أننا بحاجة إلى عمل سريع قد يُفضي إلى الانقضاض على "الباستيل" ضمن الدعوة إلى المجتمع المدني، في حين أن التفكير بـ"مشروع نهوض وطني ديمقراطي"، في سوريا مثلاً، إنما هو أمر لا حاجة لنا به "راهناً". لكن نموذج الحالة الثانية، أيضاً في سوريا مثلاً، يظهر في تعميم القول إننا لا نحتاج إلى تأسيس مشروع من ذلك النمط، لأن فكرة المشروع "سخيفة"! والناتج هنا يدور بين قصور معرفي وكرنفالية ثقافية، ماذا إذن؟

الاتحاد