سورية: خريطتا طريق

ميشيل كيلو

2011-05-16

 

 

تتصارع في سورية اليوم خريطتا طريق: واحدة أمنية تقوم على وجود مؤامرة خارجية ضد النظام وسورية أداتها الإسلاميون السلفيون المتطرفون وقطاعات تنقاد لهم من الشعب، من المحال التصدي لها بالسياسة وحدها، والمعركة ضدها هي من بدايتها إلى نهايتها معركة قوة، بما أن النظام يواجه فيها طرفا منظما وعنيفا، فإن كان لها من وجه سياسي، فهو لن يبرز إلا بعد انتهائها، حين تكون قوة الدولة قد أخمدت الاحتجاجات، التي أخذت شكلا مضللا اختفى في الظاهر وراء شعار السلمية والوطنية السياسي الطابع.
بالمقابل، هناك خريطة طريق مضادة: سلمية، سياسية، تنطلق من وجود أزمة مزمنة في سورية تفاقمت خلال قرابة نصف قرن، لكن النظام رفض الإقرار بوجودها وامتنع بالتالي عن حلها، فطاولت جميع جوانب الحياة العامة ومكوناتها، وتركزت بصورة خاصة في الموقع الذي أنتجها: السلطة، وفي نمط علاقاتها مع المجتمع، فهي أزمة عامة لا تحل بالقوة، لان مفرداتها غير أمنية، بل هي من طبيعة تكوينية تتصل بتشوهات عميقة أصابت الدولة والنظام والمجتمع، همش استمرارها الإنسان وأبطل السياسة الحديثة وحواملها من مواطنة وحرية وعدالة اجتماعية ومساواة، وأفشل التنمية وعطل الإدارة والقضاء ... الخ. هذه الأزمة لا يحلها العنف مهما كانا مكثفا، وستتواصل حتى إن أحرز الداعون إلى 'الحل الأمني' انتصارا ساحقا يقضي على حركة الاحتجاج، أي على المحتجين الذين قد يدفعهم الرعب إلى الإقلاع عن المطالبة بحل لما يواجهونه من مشكلات، لكنه لن يزيل الأسباب التي أدت إلى هذه الحركة، علما بأن الأصل في معالجة الأزمات التخلص من أسبابها لا نتائجها. بكلام آخر: يبدو الحل الأمني وكأنه يريد القضاء على المحتجين، في حين يتجاهل أسباب احتجاجهم، بينما تريد خارطة الطريق السياسية القضاء على أسباب الاحتجاج من خلال تلبية مطالب المحتجين، بما فيها تلك التي تتصل بضرورة إجراء تغيير جدي في النظام كي يحول دون تجدد الأزمة بتجدد أسبابها، وتاليا دون تجدد الاحتجاج عليها.
ثمة، بين هاتين الخريطتين، توجهات متباينة بدرجات متفاوتة ترى نفسها بدلالتهما وتعمل على دمج مكونات منهما بعضها ببعض، تتفق جميعها على إخماد الاحتجاج وتختلف في نظرتها إلى الحل السياسي، الذي تريد له أن يكون ترجمة لانتصار أمني (استبعد شخصيا وقوعه في مدى منظور)، وأن يمهد لإصلاح تقني يطاوله، يبقي على أبنيته الجوهرية ويقتصر على تغيير بعض أشكال إعادة إنتاجه، بإضافة جديد إليها يمكنها من احتواء ودمج قوى ورموز سياسية واجتماعية مختلفة الأطياف توجد خارج النظام حاليا، يعني احتواؤها توسيع قاعدته وحرية حركته ونفوذه. يؤمن أنصار هذه الحل بأن ما يجري في سورية هو مؤامرة خارجية ويشاركون دعاة الحل الأمني في اعتبار القضاء عليها شرط أي حل سياسي لاحق، ويعتقدون مثلهم أن الحسم الأمني ضروري لتقييد الحل المطلوب وحصره في حدود ضيقة، وجعل الإصلاح التقني للنظام محدودا ومقبولا.
نحن هنا أمام موقف يقوم على حد أقصى من الحل الأمني وحد أدنى من الحل السياسي: حل أمني كامل وحل سياسي منقوص. ربما فسر هذا اعتقالات دعاة الحل السياسي السلميين المتلاحقة، بينما الحل الأمني يتصاعد، فالأصل هنا هو فصل العلاقة - القائمة أو الممكنة القيام - بين عامة المواطنين وبين دعاة الحل السياسي، بنفي أحدهما والضغط على الآخر أو بإضعافهما كليهما، فلا يجد المواطنون في دعاته ممثليهم وقادتهم، ولا يجد هؤلاء في المواطنين الدعم الذي يحتاجون إليه، ويسهل بعد إنجاز حل أمني يقوض الاحتجاج التخلص من دعاة أي حل سياسي، توافقي وهيكلي، وإجراء إصلاح يجدد ويوحد النظام، يتم تسويقه كممكن عملي وحيد في ظرف داخلي وخارجي خطير.
يطالب دعاة الحل الأمني بعمل مضاد شامل، عملا بقاعدة تقول: لا حياد تجاه المؤامرة، والمحايد متآمر يجب ضربه وسحقه. في حين يؤمن ما أود تسميته تيار الوسطية في السلطة بضرورة إرجاء العمل الواسع ضد جماعة الحل السياسي ريثما تكون المعركة ضد المتآمرين قد تكللت بالنجاح، فيمكن عندئذ إخماده أو احتواؤه بطرق سلمية: بالجزرة والعصا، علما بأن إغراءه حاليا بوعد التغيير لشامل قد يؤدي إلى فصل المحتجين عنه ، وعزلهم، وتركهم يغرقون في الأخطاء والتجارب.
لا يعني هذا أن السلطة تخلو من جهات تدرك عمق الأزمة وتريد حلا جديا لها. وربما كان هناك من لا يرى في الاحتجاج الحالي مؤامرة فقط، يجب أن تحبط بالأمن وحده، لكونه من تدبير قلة متشددة متواطئة مع الأجنبي، تسعى إلى قلب النظام والقضاء على طابعه الوطني والقومي الراهن. لكن هؤلاء قد يكونون وسيبقون أصواتا متفرقة، ما دام الحل الأمني يتسع، وسيتلاشى وجودهم بالكامل، إن قرر الطرف الآخر اعتماد العنف وسيلة لتحقيق أغراضه، وتراجع طابع الاحتجاج السلمي والوطني.
نحن في وضع معقد ويزداد تعقيدا بمرور كل يوم، فالحل الأمني ينتشر والحراك الاحتجاجي لا يتراجع، رغم ما يصدر عن السلطة من تصريحات تبشر بقرب انتهائه، وفتح باب الحوار الوطني، المغلق اليوم لأسباب تتصل أساسا بنتائج هذا الحل، مع العلم بأن استمراره سيقوض كل شيء، وسيجبر دعاة الحل السياسي على إعادة النظر في حساباتهم، سواء اتسعت دائرة العنف وتزايد احتمال الرد عليه بعنف مقابل، واقتربت البلاد من انفلات عام سيخرج أكثر فأكثر عن السيطرة، سيكون طلقة الرحمة على الدولة والمجتمع، أو نجح في تقييد وضرب الاحتجاج ومهد لتقييد وضرب القوى والتوجهات الديمقراطية. طمئن أهل النظام أنفسهم إلى نتائج الحل الأمني، مع أن بعضهم يقول إنه ليس من أنصاره.
يخاف السوريون اليوم على أنفسهم ووطنهم. ويزيد من خوفهم اعتقادهم أن النظام كان يجب أن يعالج مطالبهم التي وصفها بالشرعية وأقر بطابعها السلمي، بحل غير أمني، خاصة وأنها لا تحل أمنيا، وأن الحل الأمني حل صفري ستكون له نتائج مأساوية وإن أخمد الحراك الشعبي، بينما سيؤدي الامتناع عن حلها توافقيا إلى تفاقمها وتجددها في مستقبل غير بعيد، وقد يدفع خصوم النظام إلى اعتماد حلول أمنية ستقربنا خطوة أخرى من الهاوية، التي لم نعد بعيدين جدا عنها، وسننزلق إليها بالتأكيد، إن تلاشت فسحة السياسة والعقل السياسي والتوافقي، وسيطرت عوالم العنف والعقل الأمني والإقصائي، وانتهى الأمر إلى احتدام ما يتعرض له المواطن السوري من مشكلات، والمجتمع السوري من أزمات، والدولة السورية من معضلات وتشوهات.
ثمة احتمالات كثيرة لتطور سورية، أكثرها خطورة ما سينتج عن تكامل الحل الأمني مع رهانات توظف نتائجه لصالح حل سياسي ناقص ومحدود، من طبيعة غير هيكلية، يقوم على شطب الحراك الاحتجاجي أولا، ثم على حملة وعيه المدني والسلمي، ظنا منه بأن الأمور تعود بهذا إلى مسارها الطبيعي، الذي كانت عليه قبل انطلاق الاحتجاج، بينما يكون كمن يضع حجر الأساس لازمات أشد تعقيدا وتفجرا، لا نتيجة لها غير الهلاك الأكيد لمن قد ينجو من الأزمة الراهنة! سورية على مفترق طرق، وفي وضع عصيب. كان الله في عونها!

' كاتب وسياسي من سورية