بين قوة الحق وحق القوة

 

 

سليم الحص


 

 

من لم يحجّ بعد إلى واشنطن من الزعماء اللبنانيين، فهو في طريقه إليها، أو هو يحلم برحلة إليها أو يسعى. لمَ لا؟ أليست أميركا الدولة العظمى بلا منازع، الكل يخطب ودّها ويرصد مواقفها، يصغي إلى تعليماتها ويلبّي رغباتها ويستجيب إلى إيماءاتها؟
في العالم بالطبع قوى كبرى: هناك الاتحاد الأوروبي، وفيه دول كبرى مثل بريطانيا العظمى وفرنسا اللتين تشغلان مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي وتتمتعان بحق النقض لقراراته. ثمة دول كبرى مثل روسيا، التي انحدرت من عظمى أيام الاتحاد السوفياتي إلى كبرى بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وكذلك الصين. لا نكران ان ثمة حالات وقفت فيها بعض هذه الدول وقفات متمايزة في مجلس الأمن والأمم المتحدة عن تلك التي اتخذتها الدولة العظمى، فأثرت في قرارات وحالت دون أخرى. ولكن هذا لم يبدّل في واقع مشهود وهو طغيان أميركا على القرار الدولي عموماً. وكان من النماذج القرار 1559 المتعلّق ببلدنا لبنان. فالقرار صُنع في أميركا، بمشاركة من فرنسا، ولم تصوّت له روسيا والصين، ولكنهما لم تستخدما حق النقض لتعطيله. ثم بعد فترة وجيزة تمكّنت أميركا من حمل مجلس الأمن على إصدار بيان رئاسي بتحبيذ القرار فأضحى القرار يحظى عملياً بإجماع دولي.
ربما كان الزعماء اللبنانيون معذورين إذ هم يتصرفون على أساس ان مشيئة الدولة العظمى لا تقاوَم دولياً. ولكن هل هذا يعني حقاً ان إرادة أميركا قدر لا مردّ له، لها ان تصدر أوامرها وما على الدول الأصغر والأضعف إلا الطاعة؟ هذا ما لا نراه نحن.
لا بدّ لنا من أن نسجّل بدايةً اننا ما كنا لنمانع في ان تكون الدولة العظمى صاحبة الأمر والنهي دولياً لو انها كانت منصفة أو عادلة أو أقلّه حيادية في سياساتها أو مواقفها من القضايا الحيوية في العالم. فهي تظهر في مظهر المنحاز كلياً في كل ذلك إلى الصهيونية العالمية. ولا مغالاة في حكمنا هذا. فتجاربنا نحن العرب تشهد بذلك، حتى ليكاد يصحّ القول إن استراتيجيات
الدولة العظمى وسياساتها في المنطقة العربية لا تختلف في شيء، ولا حتى في التفاصيل، عن سياسات إسرائيل وممارساتها. والشواهد كثيرة.
هاك ما يجري في فلسطين. إسرائيل تعصى على كل القرارات الدولية فتتجاهلها ولا تنفذ شيئاً منها. مع ذلك فإن أميركا، المهيمنة على القرار الدولي، لا تبدي حراكاً. إسرائيل تنتهك كل القرارات والشرائع الدولية في ما ترتكب من جرائم في حق الإنسانية على أرض تحتلها في فلسطين والدولة العظمى لا تعترض ولا تضغط ولا تستنكر. إسرائيل تتحدّى، لا بل ترفض عملياً، مشاريع في الشرق الأوسط، من مثل خارطة الطريق التي تتبنّاها الرباعية الدولية (أميركا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة) فتبني الجدار الفاصل في تحدّ سافر للمشروع ولا تلقى من أميركا إلا السكوت والرضا والدعم. وما طُرح مشروع قرار يندد بإسرائيل إلا وعطّلته أميركا باستخدام حق النقض أو التلويح به.
حتى حرب الدولة العظمى على الإرهاب أضحت أشبه بالمهزلة، إذ أضحى المنطق المتحكّم بها وجهة نظر: إذا مارس العنف فلسطيني أو عراقي أو لبناني فهو إرهاب. وإذا مارسه الإسرائيلي، ولو على أرض يغتصبها، فهو دفاع عن النفس. وإذا مارسه الأميركي في العراق أو أفغانستان فهو في خدمة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.
ونحن في لبنان لمسنا الانحياز الأميركي لمس اليد في مواجهاتنا مع العدو الصهيوني. القرار الدولي 425، الذي أيّدته أميركا، لم ينفّذ إلا بعد 22 سنة من صدوره، وليس بفضل أميركا وإنما على الرغم منها، إذ تحرر الجنوب اللبناني بفضل المقاومة اللبنانية. وتمرّ اعتداءات إسرائيل شبه اليومية على أجواء لبنان، وأحياناً كثيرة على أرضه، من دون حتى كلمة احتجاج من الدولة العظمى. وكلما وقع تراشق على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ولو فوق أرض محتلة في مزارع شبعا، كان الملوم فيه لبنان.
وفي العراق حدّث ولا حرج. شنّت الدولة العظمى حرباً على البلد الشقيق واحتلته بذريعتين سرعان ما ثبت بطلانهما كلياً: اقتناء العراق مخزوناً من أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الدولة مع تنظيم القاعدة. فأخذت الإدارة الأميركية بعد ذلك تبرر احتلالها العراق بالعزم على نشر الديموقراطية فيه، وزعمت انها نجحت في تحقيق الغاية إذ أجرت انتخابات تشريعية فيه. فكان التساؤل الكبير: كيف تكون الديموقراطية من دون حرية، وأين هي الحرية في ظل الاحتلال؟ من مهازل السياسة الأميركية أنها لا ترى من الديموقراطية سوى صندوقة اقتراع. الى كل ذلك، فإن الدولة العظمى، إذ لا تتورّع عن استخدام القذائف والصواريخ في عمليات القمع في الفالوجة وسواها من المناطق العراقية، فتحصد الأبرياء والآمنين من دون تمييز، وإذ تمارس الكبائر في حق المعتقلين في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتنامو، إنما ترتكب أبشع ألوان الإرهاب الذي تزعم انها تحارب.
بعد كل هذا، هل إرادة الدولة العظمى قدر لا مردّ له؟
نحن نرى ان الواقع هو خلاف ذلك. إننا نزعم ان آخر انتصار حقيقي سجلته أميركا في العالم كان في عام 1945، بانتهاء الحرب العالمية الثانية بعد إلقاء قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان. وكان ذلك عملاً إرهابياً بامتياز، فأسلحة الدمار الشامل هي أسلحة إرهابية إذ تبيد الناس بالجملة من دون تمييز.
شنّت أميركا حروباً وقامت بهجمات ونفّذت إنزالات في شتى أرجاء الدنيا، فما حققت انتصاراً حاسماً واحداً. كان فشل في حرب كوريا، فانتهت كوريا كوريتين. وكان فشل في فييتنام، وانتهت فييتنامين، واجتاحت أميركا أفغانستان وما خرجت منها.
واحتلت العراق وغرقت في رماله المتحركة. وكانت لها إنزالات، احدها في لبنان، في جوار المطار الدولي خلال الحرب اللبنانية، فما كان منها إلا ان خرجت بعد تعرّضها لتفجير كبير استهدفها.
إنها الدولة العظمى بلا منازع في العالم، ولكن إرادتها ليست قدراً لا مرد له. فكثيراً ما تكون الغلبة لقوة الحق على حق القوة.
كان آخر مظهر من مظاهر عجز اميركا في محاولة فرض مشيئتها على بلدنا لبنان، وتحديداً في صدد القرار الدولي 1559. فالقرار من صنع اميركا. ورئيسها يؤكد شخصياً الإصرار على تنفيذه بين الفينة والأخرى. وكذلك تفعل وزيرة خارجيته ومسؤولون في الخارجية الاميركية. مع ذلك بعد اكثر من سنة ونصف السنة على صدور القرار لم ينفذ. فما هو السر؟ اميركا قوة عظمى، ولبنان دولة صغيرة، يوازي في مساحته الجغرافية وحجمه الديموغرافي حيّاً في مدينة نيويورك. مع ذلك لم تستطع اميركا فرض تنفيذ قرارها عليه؟
الواقع ان الدولة العظمى عاجزة عن تطبيق قرار في بلد صغير مثل لبنان ضد إرادة شعبه، على الرغم من التفاوت العظيم في الشأن والقوة بين البلدين. فما دام القرار موضوع نزاع بين اللبنانيين فإن الدولة العظمى عاجزة عن تطبيقه. لا بل إن القرار الدولي كان في وجه منه محل توافق ولو ظاهري بين الفئات اللبنانية حال دون تنفيذه. فقد كان هناك تلاقٍ بين اللبنانيين على ان موضوع القرار، وتحديداً نزع سلاح المقاومة، يجب ان يترك للحوار بين اللبنانيين. أمام هذا التوافق، ولو انه كان الى حد ما ظاهرياً أكثر مما كان معبراً عن إرادة حقيقية جامعة، عُلّق القرار عملياً وتعطلت مشيئة الدولة العظمى. هذا دليل على أن لا شيء يعلو فوق إرادة الشعوب مهما صغر حجمها.
وكما في لبنان كذلك في المنطقة. زعموا أنهم أدخلوا الديموقراطية الى العراق، فإذا بالانتخابات التشريعية التي أجريت تأتي بفريق ليس موالياً لهم. وزعموا أنهم حققوا الديموقراطية في فلسطين فإذا بالانتخابات تسفر عن فوز حركة <<حماس>> التي ترفض سياساتهم وتتحدى كل مشاريعهم. وبكل وقاحة ترفض اسرائيل، ومعها بالطبع اميركا، حصيلة إرادة الشعب الفلسطيني فتهددان وتتوعدان، وتقاطعان السلطة الجديدة، وتقطعان عنها مصادر التمويل. فماذا بقي من معاني الحرية والديموقراطية؟
ويبقى أكبر شاهد على غلبة <<قوة الحق>> على <<حق القوة>>، عجز الدولة العظمى، ومعها بالطبع اسرائيل، عن فرض حلول استسلامية على الشعب الفلسطيني بعد مرور أكثر من نصف القرن على تقسيم فلسطين، وتعرض المنطقة لحروب واجتياحات ومشاريع واعتداءات لا تحصى. بقي الشعب الفلسطيني صامداً حتى اليوم، وبقيت تنظيماته المقاومة تناضل تحت الاحتلال الغاشم، وعلى تخوم المستوطنات الصهيونية، لا بل وفي جوار العاصمة الاسرائيلية، هذا مع الفارق الهائل في القوة العسكرية بين الاسرائيلي والفلسطيني. فالقوة النارية وحدها لا تكفي لقهر إرادة الشعوب، وأسلحة الدمار الشامل لا قيمة لها في التصدي لتصميم الثائرين لحريتهم وكرامتهم.
لن يستتب في العالم استقرار او سلام، ولن تستقيم العلاقات بين الشعوب والدول، إلى أن يسلّم المجتمع الدولي، وفي مقدمه الولايات المتحدة الاميركية، بقدر يكاد يكون محتوماً، وهو أن لا حق للقوة أمام قوة الحق.