دولة الأمن القومي وصناعة القرار الأميركي: تفسيرات ومفاهيم ( 2 / 3 )
 

( كلنا شركاء ) 10/3/2006
د. منذر سليمان
 


ثالثاً : فتشوا عن الأمن الاقتصادي
قدّم هنتينغتون مقولته "تصادم الحضارات" على أساس أنها توفر التفسير الأفضل لما يجري في العالم ولكن التفسير الأفضل والأدق هو الأمن الاقتصادي (
Economic Security) . إن المحرك الأساسي الذي يكمن وراء محاولة صياغة النظام الدولي الجديد هو السعي الدؤوب والمحموم وبوسائل متعددة بقصد تحقيق الأمن الاقتصادي للدول الفاعلة على المستوى الدولي، وهو الهاجس الكامن وراء استراتيجية التدخل الاستباقي والتدخلات العسكرية في الخارج من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي "المفاجئ" للإدارة الأميركية رغم الادعاءات اللاحقة بأنها كانت ترقب ذلك وتتوقعه، تنفرد الولايات المتحدة "بفائض قوة عسكري" كانت تبرر دائما السعي المحموم لحيازته بالخطر الشيوعي وخاصة في المسرح الأوروبي. وتدرك القوى المتنفذة داخل الولايات المتحدة التي يرمز إليها أحيانا بالمثلث الحديدي الذي تتكامل أضلاعه بتقاطع مصالح المجمعات الرئيسية الثلاث (المجمّع الصناعي الحربي وشبكته، المجمّع النفطي ومشتقاته، والمجمّع الاستشاري-المالي وتفرعاته)، بأنها تحتاج إلى ما يبرر استدامة الانفاق العسكري باستحضار بدائل للخطر الشيوعي البائد. وما الحرب على "الإرهاب" وعلى الدول "العاصية" على طاعة الولايات المتحدة إلا شواهد على تكريس دولة "الحرب والأمن القومي" التي تستخدم فائض القوة العسكري في الخارج وتقوّض الحريات المدنية المكفولة دستوريا في الداخل.
ويبدو أن فائض القوة العسكري الذي تملكه الولايات المتحدة وتستمر في صيانته وتعزيزه يشكل الأداة الرئيسية لها في محاولة صياغة نظام دولي يضمن تربعها على قمته إلى أقصى فترة ممكنة. وفي منظور القوى المتنفذة داخل الولايات المتحدة فإنها تتمتع بتفوق عسكري وثقني أساسا لا يعكس نفسه في تفوق اقتصادي أو معنوي/أخلاقي. ولكن ضمان تحقيق أمن الولايات المتحدة الاقتصادي مرتبط بتوظيف "فائض القوة العسكري والتقني" للتحكم بمفاصل الدورة الاقتصادية العالمية وخاصة العجلة المحركة لها (النفط). وما الحرب على أفغانستان والعراق إلا خطوات في اتجاه أحكام السيطرة على مصا در الطاقة مخزونا وانتاجا وتسويقا وتسعيرا وإبقاءا للدولار عملة للتبادل خاصة في ظل المعلومات التي يتداولها الخبراء المتخصصين بأن ذروة الطاقة الانتاجية
Peak Oil قد تم تجاوزها عمليا ولا يوجد بدائل رخيصة جاهزة يمكن التعويل عليها في الربع القرن القادم.
إن استدامة الهيمنة والحيلولة دون بروز منافس أو تكتل مواز للولايات المتحدة في المدى المنظور يدخل في صلب توجهات السياسة الأميركية الراهنة.
رابعاً : في ضبط مصطلح القومي وخلفياته
يطغى في الخطاب السياسي والإعلامي والعسكري المتداول استخدام عبارة "الأمن القومي" بمبرر أو بدونه ما يجعلها الأكثر عرضة - مع كلمة أخرى أكثر طغياناً منها " الارهاب" لسوء الفهم والاستخدام.
شاع استخدام مصطلح "الأمن القومي" بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن جذوره تعود الى القرن السابع عشر وخاصة بعد معاهدة وستفاليـا عـام 1648 التي أسست لولادة الدولة القومية أو الدولـة- الأمـة (
Nation- State) وشكلت الحقبة الموصوفة بالحرب الباردة الإطار والمناخ الذي تحركت فيه محاولات صياغة مقاربات نظرية وأطر مؤسساتية وصولاً إلى استخدام تعبير "استراتيجية الأمن القومي" منذ تسعينيات القرن المنصرم وبدمغة أميركية خالصة يتم استنساخها عالمياً، وسادت مصطلحات حقبة الحرب الباردة مثل الاحتواء، الردع، التوازن، التعايش السلمي كعناوين بارزة في هذه المقاربات بهدف تحقيق الأمن والسلم وتجنب الحروب المدمرة التي طبعت النصف الأول من القرن العشرين.
واذا كان عام 1947 تحديداً المحطة أو المنصة لانطلاق مصطلح الأمن القومي بالدمغة الأميركية وبداية التشكيل التنظيمي المؤسساتي له بصدور قانون الأمن القومي لعام 1947 عن الكونغرس الأميركي، فإن بقية العالم باشر بوضع لافتة أخرى أو عنوان "الدراسات الاستراتيجية" على الأدبيات التي عالجته بوصفها اجتهادات في التخطيط السياسي النشط حول المستقبل بدلاً من اجتهادات تعني ضمنياً محاولة لصياغة أجوبة أو ردود فعل بقصد حماية السيادة. كأي مصطلح أو مفهوم لا يمكن التوصل الى تحديد دقيق له خارج نطاق المكان والزمان الذي يتحرك في مداره، متنبهين لخضوعه الدائم للتعديل والتطوير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي أثرت وتؤثر في بروزه الى مسرح التداول.
لو راجعنا تعريف "الأمن" في القواميس لوجدنا تقاطعاً يشير عموماً الى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجس دي محلها، والشعور بالأمان قيمة انسانية كونية مرغوبة لا تقتصر على فئة اجتماعية معينة أو مرتبطة بمستوى الدخل. فالفقير مثل الغني يحتاج الى الشعور بالأمان ويسعى لتحقيقه وإن اختلفت درجات المتمتع به، ويبدو أن هناك قناعة تامة بأننا نعيش في عالم مضطرب لا يمكن أن يتحقق الأمان الكامل فيه ما يجعله مسألة نسبية مرهونة بالسعي لتعزيز أفضل الشروط لتوافره.
كما أننا لا نزال أسرى لمنطق مرحلة الحرب الباردة لدى التعامل مع مصطلح أو مفهوم الأمن القومي بسبب التركيز الذي ساد حينها على اعتبارات استخدام القوة العسكرية أو التوازن العسكري أو توازن الرعب، وإدراكنا لهذه الحقيقة لا يؤدي الى تحررنا من أثقال الحرب الباردة في توصيفنا لوضعية النظام الدولي الراهن الذي يرمز اليه نظام القطب الأميركي الواحد أو نظام اللاتوازن.
ذكر باري بوزان (
Barry Buzan ) ، وهو أكاديمي مهتم بشؤون الأمن القومي، "يبقى هذا المفهوم عصياً على الصياغة الدقيقة غامض التعريف، ولكنه يبقى مفهوماً بالغ الدلالة، لأن غياب التحديد الدقيق يوفر للنخبة السياسية والعسكرية هامشاً واسعاً للتنظير الاستراتيجي واستخدام القوة"(1).
بينما يجد كولد زيدج (
Kolodzeij) أنه يجب توسيع مفهوم الأمن القومي للتعامل مع التحديات المتنوعة للعالم اليوم، "مؤيدو هذا الموقف، إما يدخلونه في حقل دراسات العلوم الاجتماعية في ميدان الأمن القومي لتشمل الاقتصاد، علم النفس، علم الاجتماع والانثروبولوجيا «علم دراسة أصول الانسان» أو يدخلونه رزمة واسعة من المشكلات عالمية الطابع تحت عنوان الدراسات الأمنية بما فيها العنف الداخلي- المحلي، المخاطر، والصراعات الداخلية، والعابرة للدول، مرض نقص المناعة، تهريب المخدرات، الديون العالمية، الكساد الاقتصادي، الانفجار السكاني، التلوث البيئي واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء"(2).
وبينما يعتقد تراجر (
Trager) أن "أهداف الأمن القومي ترمي إلى إيجاد الشروط السياسية المحلية والدولية الملائمة لحماية وتوسيع القيم الحيوية الوطنية" (3) ، فإن وولفرز (Wolfers) يرى أن "الأمن القومي من ناحية موضوعية هو انعدام التهديد ضد القيم المكتسبة، ومن ناحية ذاتية هو انعدام الخوف من امكانية تعرض هذه القيم للتهديد أو الخطر"(4).
ويعتمد كل من بيترسون (
Peterson) وسيبينيوس على التعريف المعتمد من قبل مجلس الأمن القومي الأميركي وهو "الحفاظ التام على المؤسسات والقيم الجوهرية للمجتمع"(5).
تجدر ال إشارة الى أنه على الرغم من اتساع الاهتمام وحداثة الأدبيات حول الأمن القومي في الولايات المتحدة لم نشهد بعد الوصول الى مستوى تدريسه كحقل واختصاص مستقل بذاته حيث لا يزال يدرج عموماً في ميدان الدراسات العسكرية أو العلاقات الدولية والدبلوماسية رغم أن بعض الجامعات الأميركية تفرد في اختصاصات الدراسات العليا حيزاً متنامياً لحصص دراسية حول الأمن القومي الأميركي وبالطبع هناك معاهد أو كليات عسكرية خاصة تعالج موضوع الأمن القومي ولكن دون اعتماده كحقل اختصاص قائم بذاته.
والمفارقة اننا نسمع يومياً تقريباً من كبار المسؤولين أو الخبراء والمحللين في معاهد الدراسات الأميركية المنتشرة عما يمكن اعتباره اقحاماً تعسفياً لاعتبارات الأمن القومي لتبرير أي موقف مهما كان بسيطاً ومن دون تفسير لصلته بالأمن القومي، فالحجة جاهزة من مستوى شن الحروب التدخلية في الخارج الى مستوى اجراءات منع دخول شخص غير مرغوب فيه الى أراضي الولايات المتحدة، والمؤسف أن الأكثر شيوعاً في التداول الإعلامي والسياسي هو الأمن القومي الأميركي، الأوروبي، الإسرائيلي، الروسي...الخ، بينما لا نسمع عن الأمن القومي العربي مثلاً إلا في المناسبات أو في معرض التمنيات.
خامساً : مساهمة في التعريف
تفيد دائرة المعارف البريطانية بأن تعريف الأمن هو "حماية الدولة- الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية"، بينما يقدم هنري كسينجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق والمستشار الأسبق للأمن القومي تعريفه بأنه "أي اجراءات يسعى المجتمع عن طريقها الى حفظ حقه في البقاء". أما روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، فيقول: «إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة.. والأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة بالمصادر التي تهدد مختلف قدراتها، ومواجهتها لمنح الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في مختلف المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل".
ولعل أدق مفهوم للأمن هو ما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"(6) ، وفي قوله تعالى تأكيد على أن الأمن هو نقيض للخوف ونرى في لسان العرب المرادف نفسه أيضاً.
أعتقد أن التعريف الممكن للأمن القومي لأي دولة أو أمة أو مجموعة ينطوي على السعي الدؤوب لتحقيق الأمن النفسي والجسدي لمواطنيها عبر استخدام جميع عناصر ومصادر القوة المتنوعة التي تملكها للحيلولة دون تعرضها لمخاطر خارجية أو داخلية تهدد وجودها وحياة مواطنيها ونمط عيشها، وكلمة السعي مختارة بعناية هنا بدلاً من كلمة التوصل، لأن النظرة الواقعية في الظروف الدولية الراهنة تفيدنا بأنه من الصعب الحديث عن أمان خالص وكامل مهما كانت القوة التي تتمتع بها أي دولة أو أمة.
ويبقى أن نشير هنا الى أنه يوجد أبعاد مختلفة للأمن:
• أمن عسكري
• أمن معنوي- ثقافي
• أمن اقتصادي
• أمن غذائي
• أمن بيئي- صحي
• أمن اجتماعي.
وهناك مستويات للأمن:
• فردي
• وطني
• قومي
• اقليمي
• عالمي.
سادساً : حول بروز دولة الأمن القومي الأميركية
على الرغم من الانطباع الشائع - والذي لا يجوز انكاره في جوانب كثيرة - بوصف الولايات المتحدة بدولة القانون والدستور والمؤسسات الراسخة، فإن المعاينة في ضوء الممارسة العملية تكشف لنا قدراً وافياً من الشقوق والتصدعات والثغرات في النظام السياسي الأميركي جعلته يتحول تدريجياً الى نظام رئاسي مركزي يتربع على عرشه ما يمكن وصفه بالامبراطور أو الملك مع فارق أنه ينتخب كل أربع سنوات. فالتجربة تثبت لنا أن الرئيس الأميركي أضحى أكثر قدرة على استغلال السلطة وتركيزها في البيت الأبيض عبر تضخيم جهاز الموظفين في إدارته بالتعيينات السياسية لطاقمه دون خضوع لأي رقابة أو تصديق من السلطة التشريعية، وأفضل مثال على هذا المنحى تنامي دور ونفوذ مستشار الأمن القومي الذي تحول فيه سكرتير تنفيذي أو منسق لما تنتجه البيروقراطية الحاكمة بكل فروعها إلى لاعب ومخطط رئيسي.. لا بل منفذ أو مشرف على التنفيذ لمصلحة الرئيس، بما يتجاوز سلطة ودور وزيري الدفاع والخارجية اللذين يخضعان لرقابة الكونغرس ووصايته، وبدلاً من أن يكون مجلس الأمن القومي الأداة المعبرة عن تداول الخيارات ومناقشتها من خلال صيغة جماعية وصولاً إلى اتخاذ القرارات، تحول إلى ديكور وأداة طيعة بيد الرئيس يستخدمها بصورة انتقائية ويستعيض عنها غالباً بصيغة «حكومة المطبخ الرئاسي الخاص» لنخبة مختارة من كبار مساعديه.
وقد شكل قانون الأمن القومي عام 1947 ركيزة مهمة في إعادة صياغة وتنظيم أدوات السياسة الخارجية والدفاع والاستخبارات في تاريخ النظام السياسي الأميركي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هذا القانون رغم التعديلات الطفيفة التي طرأت عليه المرجعية القانونية والعملية لمجمل نشاط الولايات المتحدة في مجال الأمن القومي.
ويشمل مجلس الأمن القومي بموجب قرار تشكيله الأصلي، الرئيس ونائب الرئيس، ووزيري الدفاع والخارجية، وقد تم إضافة مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي إيه» وأعضاء آخرين حسب رغبة وحاجة الرئيس مثل وزير العدل والطاقة والخزانة والأمن الداخلي ورئيس هيئة الأركان الذي حدده القرار بوصفه المستشار العسكري للرئيس.
وعبر السنوات وتغير وتبدل الإدارات تم ادخال تعديلات على أساليب عمل المجلس ونوعية الأشخاص المشاركين في اجتماعاته، وشكلت شخصية الرئيس ودرجة خبرته في الشؤون الخارجية والدفاع وكذلك اسلوبه في الإدارة، عوامل حاسمة في كيفية استخدام هذه الأداة التي انشئت أصلاً لمساعدة الرئيس ترومان الذي كانت تعوزه الخبرة في الشؤون الخارجية والدفاع آنذاك في اتخاذ القرارات المصيرية استناداً الى المشورة التي يمكن أن يوفرها له أعضاء بارزون في حكومته، وكان هذا الاتجاه يعبر عن رغبة الكونغرس في الحيلولة دون تكرار أخطاء شهدتها مرحلة الحرب العالمية الثانية.
وينص القانون أصلاً على تعيين سكرتير تنفيذي تحول في الخمسينيات من القرن الماضي الى مساعد للرئيس لشؤون الأمن القومي، وفي السبعينيات من القرن الماضي الى مستشار للأمن القومي وهو ما نلحظه حالياً، والطاقم الإداري لمكتب المستشار تحول من بضعة مساعدين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة الى جسم بيروقراطي متضخم يتجاوز 200 شخص موزعين على لجان مختلفة هي عملياً بمثابة حكومات بديلة مصغرة داخل البيت الأبيض والمبنى المجاور له والذي يطلق عليه اسم المبنى التنفيذي.
وتجدر الإشارة هنا الى أن القانون أدى عملياً الى إعادة تنظيم فروع القوات المسلحة حيث تم دمج ما كان يسمى وزارة الحرب ووزارة البحرية بمسمى جديد هو وزارة الدفاع بالإضافة الى تشكيل وزارة لسلاح الطيران ووضع كل الفروع تحت إدارة وزير الدفاع بالإضافة الى تشكيل هيئة الأركان المشتركة، ولكن تم الإبقاء على حد من الاستقلال المالي والإداري لفروع القوات المسلحة مع تعيين سكرتير خاص لكل منها بالإضافة الى رئيس أركان، وما عدا رئاسة الأركان يتولى عادة منصب وزير الدفاع والسكرتارية للفروع مدنيون.
كما تم بموجب القرار ذاته تشكيل وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" تطويراً لمكتب الخدمات الاستراتيجية (
OSS) الذي كان قائماً خلال الحرب العالمية الثانية، كما تم تص نيف أجهزة الاستخبارات المختلفة المدنية والعسكرية - كانت ميزانية مكتب الخدمات الاستراتيجية تحت سيطرة وزير الخارجية - وتم تحويل معظم ميزانية الاستخبارات العسكرية والمدنية الى سيطرة وزير الدفاع وإبقاؤها سرية.
سابعاً : أميركا تنتخب امبراطوراً لا رئيساً
يقول ويليام بلوم (
William Blum) ، الكاتب والناقد للسياسة الخارجية الأميركية منذ أواخر الستينيات، عندما ترك وظيفته بوزارة الخارجية احتجاجاً على السياسة الأميركية في فيتنام، في كتابه "قتل الأمل" الذي صدر في مقدمة جديدة بطبعة حديثة: "لقد تم استبدال نظام الجمهورية الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية بدولة الأمن القومي التي لا تخضع لأي مساءلة، حكومة تتجاوز الدستور، ممعنة في النشاط السري بعيداً عن معرفة الشعب الأميركي، معفاة من رقابة السلطة التشريعية وتتصرف وكأنها فوق القانون"(7).
وبعد انشاء وزارة الأمن الداخلي تكتمل حلقة هذه الدولة التي تحدث عنها والتي تنفق نحو 600 مليار دولار على الدفاع والاستخبارات والأمن سنوياً، وعماد هذه الدولة هو التدخل العسكري في الخارج "انتقائياً واستباقياً أو سرياً" وتعزيز الاجراءات البوليسية الداخلية ومصادرة رزمة واسعة من الحقوق المكفولة دستورياً تحت ذريعة حفظ الأمن ومحاربة الإرهاب.
كما يتضخم الجهاز البيروقراطي الرئاسي في البيت الأبيض ويتعزز دور ووظيفة مستشار الرئيس للأمن القومي والجهاز الإداري التابع له ليتحول الى حكومة داخل الحكومة عبر اللجان المختلفة ويتم تجاوز أدوار المؤسسات الأخرى التابعة للسلطة التنفذية من خلال تركيز السلطة في البيت الأبيض عبر أشخاص لا يخضعون لمساءلة الكونغرس أو التصديق على شغل مناصبه.
في ظل الوضع الشاذ الذي يحوّل الرئيس عملياً إلى إمبراطور أو ملك بصلاحيات استثنائية يمارسها عبر الأدوار التنفيذية أو المذكرات الرئاسية تنامى دور مستشار الأمن القومي لدرجة تجاوزت أي مرحلة سابقة في التاريخ الحديث والتي شهدت في إدارات سابقة توتراً ومنافسة بين المستشار ووزيري الدفاع والخارجية، وخير دليل على الوضع الجديد هو الدور الهامشي والتابع لوزير الخارجية- كولن باول مثلاً رغم أن رايس الآن تتمتع بنفوذ أكبر لأسباب لا مجال لشرحها هنا - رغم ما ينص عليه الدستور الأميركي من اعتباره الرجل الرابع في التسلسل القيادي في حال تعرض الولايات المتحدة الى حدث طارئ يؤدي الى غياب الرئيس ونائبه ورئيس مجلس النواب معاً أو بص ورة زمنية متلاحقة.
إن خطورة الوضع الدولي الراهن والتحديات الجسام التي تواجهها الولايات المتحدة تفترض إعادة النظر بالطريقة التي تحكم فيها الولايات المتحدة، بما فيها طبيعة النظام الرئاسي كما تخيله الآباء المؤسسون، لقد ثبت بالتجربة أن هناك ثغرات جوهرية يعاني منها النظام السياسي الأميركي تبدأ بطبيعة النظام الانتخابي الذي يتم بموجبه انتخاب الرئيس الأميركي، وما جرى في انتخابات عام 2000 وفي انتخابات 2004 أدلة ساطع على ضرورة معالجة هذا الخلل الخطير، ولا تنتهي بضرورة تعديل قانون سلطات الحرب بما يكفل في التطبيق العملي إناطة أمر شن الحروب وإعلانها بالكونغرس كما رغب الآباء المؤسسون وليس الرئيس، وتقنين الحالات التي يمكن للرئيس استخدام القوة العسكرية خارج حدود الولايات المتحدة وتقليص الفترة الممنوحة لتصديق الكونغرس من 60 يوماً كما هو قائم حالياً الى عشرة أيام أو عدة أسابيع على الأكثر.
فعندما تم وضع هذه المهلة كان العالم يسير على وتيرة بطيئة لا تعد بأعشار الثواني كما نشهد حالياً.. فبإمكان أي رئيس أميركي أن يتورط عسكرياً في أي مكان في العالم خلال ساعات أو أيام على الأكثر ويفرض أمراً واقعاً على الشعب الأميركي وعلى الكونغرس الذي لن يكون أمامه حق الممارسة الدستورية في معالجة الأمر قبل الوصول الى حافة الهاوية - الحرب.
هوامش :
1-
Barry Buzan, People, States and Fear: An Agenda for International Security Studies in the Post- Cold War Era, 2nd ed. (Boulder, CO: L. Rienner; New York: Harvester Wheatsheaf, 1991), pp. 4, 10 and 213 >
2-
Edward Kolodzeij, «Renaissance in Security Studies? Caveat Lector!,» International Studies Quarterly, vol. 36, no. 4 (December 1992), pp. 421-438.
3-
Frank N. Trager and Philip S. Kronenberg, eds., National Security and American Society; Theory, Process, and Policy, National Security Studies Series (Lawrence, Kan.: University Press of Kansas, [1973]), pp. 35-36.
4-
Arnold Wolfers, Discord and Collaboration; Essays on International Politics (Baltimore, MD: Johns Hopkins Press, 1962), p. xiv.
5-
Peter Peterson, «The Primacy of the Domestic Agenda,» in: Graham Allison and Gregory Treverton, Rethinking America’s Security: Beyond Cold War to New World Order ( New York: Norton and Norton, 1992), p. 57
6-القرآن الكريم ( سورة قريش ) الآيتان 3-4
7-
William Blum, Killing Hope: U. S. Military and CIA Interventions sinceWorldWar II (Buffalo, NY: Black Rose Books, 1998).