ما تفتقده
المعارضة في سورية
رأفت نديم شهبا
لم يكن ممكناً في عام 2000، أي العام الذي بدأ فيه ربيع دمشق الحديث
عن معارضة سورية داخلية، كان بالإمكان الحديث عن مجرد "نشطاء". أما الآن فقد أصبح
هذا وارداً كمياً وكيفياً، والواقع أن تركيبة المعارضة في الداخل - التي تختلف
كلياً عن نظيرتها في الخارج- بحد ذاتها تشكل تحديا لها بقدر ما تشكل تنوعاً وغنى
فيها، كما أن ظروفها الصعبة جداً التي تواجهها في الداخل تجعلها مهددة باستمرار، ما
يضعف أداءها أو لنقل يحدُّ من قدرتها على الدفع باتجاه التغيير السلمي الديمقراطي،
ولا يحق لأحد لومها على ذلك، فأي معارضة بهذه الظروف لن يكون بمقدورها أن تفعل أكثر
مما تفعله المعارضة السورية الآن بكثير، لن أذكِّر بحملات الاعتقال السياسية
التعسفية التي لا تستند إلى قانون ولا نظام، وإلى الأحكام بالسجن التي تبدأ من بضع
سنوات إلى المؤبد! واعتقالات الناشطين مؤخراً والتُّهم الموجَّهة إليهم توضح جيداً
الضربية الباهظة التي يدفعها "نشطاء المعارضة" من حياتهم.
كل ذلك لا يعفي من تواصل البحث عن إمكانات جديدة للحركة الديمقراطية
السورية في سيرها لتحقيق التغيير الذي تنشده، صحيح أن المعارضة السورية في الداخل
ممزقة لأسباب ذاتية أكثر منها بسبب محاولات النظام إحداث تشققات فيها، إلا أن ثمة
توافقاً مضمراً في الجسم الرئيس للمعارضة على مبادئ الحراك السياسي على أساس
"التغيير الديمقراطي السلمي"، وعدم استبعاد أي من الأطراف الوطنية لأي من الأسباب.
لكن هذا المبادئ العامة جداً إذا كانت مفيدة في الفترة السابقة فإنها الآن لم تعد
كذلك، فقد حققت هذه التوافقات (التي تجلت بشكل واضح أيضاً في إعلان دمشق) أغراضها،
وباتت المعارضة بحاجة لخطوات أكثر للسير باتجاه التغيير.
واختصاراً فإن المعارضة حتى تخطو خطوة إلى الأمام تفتقر إلى:
1 - بناء استراتيجية واضحة للعمل في المفترة المقبلة، فما تزال
الحركة الديمقراطية مرهونة بخيارات فردية، ونشاطات مرهونة إلى حد كبير بحسابات
شخصية، وهي غالباً ما تكون في حدود الرهان على البقاء وحفظ النفس.
وعندما نتحدث عن استراتيجية فإننا لا ننسى أن معظم نشطاء المعارضة
السورية في الداخل لا يمتلكون ثقافة سياسية، ولا حتى خبرة سياسية، فمعظمهم ينحدرون
من تنظيمات يسارية أيديولوجية ثقافتها السياسية دفنت منذ عقدين! ومثقفو المعارضة
يمارسون السياسة من خلال الثقافة، والسنوات الست التي تشكلت فيها المعارضة الداخلية
لم تنضجهم بعد. صحيح أن الحراك السياسي الذي شكلته المعارضة في الداخل لعب دوراً
كبيراً في تطوير الفكر السياسي لنشطائها، إلا أنه لا يزال أمامهم الكثير ليحققوه.
غير أن ذلك لا يمنع من صياغة استراتيجية لعمل المعارضة في الداخل، إذ بالرغم من ذلك
لديها كوادر تمتلك القدرة على المساهمة الفعالة في صياغة هذه الاستراتيجية.
2 - وحتى تستطيع بناء استراتيجية لها فإنه لا بد أن تعمل جيداً من
أجل تنظيم نفسها، وتنظيم المعارضة لا يقتضي أبداً وجود إطار حزبي أو تنظيمي موحد،
بل إن تنظيم صفوف المعارضة يقوم على جملة توافقات محددة تنهض بحماية الحركة
الديمقراطية، وتقيم أسس للتفاعل والتحرك فيما بينها.
3 - ما تزال مطالب المعارضة السورية كلية، أعني أنها تطالب بالتغيير
دفعة واحدة في وقت أن الهامش المتاح والتعامل الواقعي مع حقائق النظام على الأرض
يتطلب مرحلة (جعلها على مراحل) المطالب، أو لنقل تجزئتها إلى مطالب عملية بإمكانها
أن تخطو خطوات متتالية على هذا الأساس، وفي كل الأحول فإن التوصل إلى مرحلة المطالب
يتبع بناء استراتيجيه واضحة.
4 - تفتقر المعارضة أيضاً إلى تصور واضح عن شكل وجوهر العلاقة
بالخارج، ومازال هذا الموضوع يثير نقاشاً في أوساطها، يعود ذلك إلى الخلط بين
"التدخل الخارجي" وبين "الاستفادة من الضغط الخارجي"، فالخيط الرفيع بين "العمالة"
للذين يستهدفون سورية وبين السياسة للاستفادة من الظروف الإقليمية والدولية.
5 - تشكل المعارضة الكردية جسماً مستقلاً إلى حد ما، ففي الوقت الذي
تحاول فيه المعارضة الكردية تسويق خطابها عبر إدماجه في الخطاب الوطني، وتعميم
قضيتها، فإنها تواجه اعتراضاً يجمع عليه كل المعارضة الداخلية فيما يتعلق بحق تقرير
المصير، وتجزئة البلاد على أسس فيدرالية، ذلك أن المعارضة الكردية تستند إلى
التجربة العراقية، وهي في سورية تمثل أقلية ديمغرافية وتشغل مساحة جغرافية صغيرة
تتوسع في مخيلة ناشطيها إلى حدود لا تحتمل، والطريف أن ناشطيها يشيرون دوماً إلى
نجاح التجربة العراقية كما لو أن العراق هو "كردستان العراق" وحسب!
إن لم تتخل المعارضة الكردية عن حلمها القومي في الأراضي السورية
ستجد نفسها طرفاً هامشياً ليس فقط في المعارضة الوطنية، بل أيضاً على المستوى
الشعبي؛ فمن المعروف أن مطالب الأكراد الانفصالية تثير حساسية شعبية واسعة، وحتى
تستطيع المعارضة الكردية السورية الاندماج في الحطاب الوطني للمعارضة السورية بشكل
عميق وفاعل فإن عليها أن تعيد حساباتها على أساس "وحدة التراب الوطني" حصراً، وفي
هذا السياق يبدو من المفيد العمل توقيع "وثيقة تفاهم" أو "إعلان مبادئ" بين أطراف
المعارضة الكردية وشركائهم في "المعارضة السورية" للعمل السياسي الوطني على أسس
واضحة جداً. وإذا لم يحصل هذا، وهو الأمر المتوقع، فإن الأكراد سيكونون الخاسر
الأكبر في المستقبل.
إن ما قامت به السلطات مؤخراً من اعتقالات للمثقفين والنشطاء
السياسيين في المعارضة كشف عن مدى تأثير المنظمات الدولية وأهمية دورهم في وقف
انتهاكات النظام ضد المعارضة السلمية الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان. لقد خسر
النظام الكثير من صورته، وصورته هي الأمر الوحيد الذي يملكه الآن، لهذا السبب فإن
استمرار الإسناد لهذه الحركة الديمقراطية والمجتمع المدني السوري، من خلال جهود
المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لحماية النشطاء مهم جداً في المرحلة القادمة
التي يتوقع أن يقوم النظام فيها بحملة واسعة لتصفية المعارضة الداخلية، فما الذي
يمكن أن يُقدم الآن استباقاً للحدث؟
كاتب سوري