حقائق حول الإرهاب

أكرم البني


 


حقيقتان هامتان تستحقان التوقف عندهما بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي في العراق، أولاهما، أن اليد العسكرية الأمنية التي وصلت الى الزرقاوي وقتلته كان لا بد لها أن تصل إليه، إن لم يكن اليوم فغداً، وربما ما يشاع عن ضلوع أحد المقربين من الزرقاوي في تقديم معلومات أكيدة عن مكان تواجده قد اختصر الزمن.

الهدف الإرهابي هو هدف ساقط استراتيجياً بالمعنى التاريخي وهو ما أكدته العديد من التجارب الملموسة، إن حصلت مثل هذه الخيانات أو لم تحصل، كونه هدفاً معزولاً في نهاية المطاف يحمل في أحشائه مقومات اندحاره الذاتي، طالما لا يقيم وزناً للسياسة ولا يعير الناس ودور القوى الاجتماعية أي اعتبار في الحياة والتغيير. ما يشجع على القول أنها كانت مسألة وقت لعزل الزرقاوي أكثر فأكثر وتوفير فرصة حقيقية لقتله، وأنه تحصيل حاصل انحسار الوسط الاجتماعي والسياسي الذي حضنه ومكنه لسنوات من متابعة مسلسل القتل اليومي الذي أتقنه في العراق. ولعل في عيانية ما جرى ما يقنع الكثيرين الذين حولوا الزرقاوي الى ما يشبه الأسطورة بأن أمر الإرهاب محدود وعمره الافتراضي قصير وأن نهايته آتية لا محالة مهما كانت الأسباب والدوافع الحافزة لنشوئه واستمراره.

في الستينات والسبعينات كان العنف الثوري مقدساً ومبجلاً وكلنا يتذكر أسماء كانت ذات ألق في مخيلتنا كغيفارا مثلاً، ونتذكر أيضاً كيف تهاوت كبيوت من الرمال الأساطير التي نسجت حول الألوية الحمراء في ايطاليا وبادر ماينهوف في ألمانيا والتوبوماروس في أميركا اللاتينية والجيش الأحمر الياباني وكيف انتهت بصفقات بائسة أسطورة كارلوس وعبدالله أوجلان وغيرهم.

تشير التجربة التاريخية في غير مكان ومحلة بأن ثمة مرحلة لا تطول لتألق الإرهاب، يعرف خلالها تعاطفاً ومداً يستمد جذوته من الشعور بالظلم وانسداد أفق السياسة والتغيير بفعل وطأة الاستبداد والديكتاتورية وشدة الحيف الذي يقع على الشعوب الضعيفة، لكن لا يفتأ هذا المد أن ينحسر ويتراجع ويتنامى شعور بعدم الجدوى والفشل لاكتفاء أسلوب العنف بالتخريب والتدمير وعجزه عن البناء والنهوض بما يضمن حاجات البشر ومصالحهم. ونتساءل أين حال الإرهاب وقواه اليوم، وأين صارت أوضاعه وقد أخفق في إيقاظ الجمهور وحفز دوره كما لم تنجح الاضطرابات الأمنية التي خلفتها عمليات القتل والتفجير في ضعضعة قوى أعدائه وتفكيك صفوفهم أو زعزعة سلطانهم، بل على العكس مكنّتهم من إعادة ترتيب قواهم ومنحتهم ذريعة قوية لاستخدام العنف المضاد على نطاق واسع وبصورة لم يسبق لها مثيل.

يمكن القول أن ثمة حالة من اهتزاز الثقة تنتشر اليوم حول فاعلية أساليب العنف وجدواه، وثمة حالة من الشك تتنامى في نفوس الكثيرين حول أفق تطوره وقدرته على تحقيق أهدافه، ويستطيع أي مراقب أن يلمس تراجعاً لافتاً في حجم التعاطف الشعبي الذي كان يجده التيار الجهادي لدى قطاعات واسعة من الأوساط الإسلامية لنجاحه في مغازلة شعورهم بالقوة وبأنه رد لهم بعضاً من كرامتهم التي هدرتها سطوة الاستبداد أو قوات الاحتلال. ما يعني أن الدعوة إلى العنف التي استولت على قلوب الفتية والشباب في المرحلة المبكرة مما سمي الصحوة الإسلامية تفقد بريقها اليوم بعد حصاد هزيل بمعياري، التقدم نحو الغاية السياسية المرجوة أو القدرة على تعديل توازن القوى لصالحها، الأمر الذي يفسر اضطرار بعض الحركات المتطرفة، في محاولة لتأكيد حضورها وتعويض فشلها السياسي واسترجاع ما حازته من تعاطف سياسي وشعبي، اضطرارها للاندفاع نحو الأمام واللجوء إلى صور من الوحشية في القتل والترويع تظهر أسوأ مشاعر الحقد والكراهية للجنس البشري، بدءاً بتكاثر العمليات الإرهابية ضد المدنيين العزل في العراق وقتل الأطفال على أبواب مدارسهم، مروراً بهدم المعابد فوق رؤوس زوارها، انتهاءاً بالتحول نحو فنادق الأردن والدار البيضاء ومحطات نقل الركاب في مدريد ولندن!

الحقيقة الثانية، أن ما حصل للزرقاوي هو هزيمة جديدة لأصحاب العقلية التآمرية التي روجت أنه مجرد شخصية وهمية صنعتها أميركا إعلاميا كذريعة تستخدمها لمزيد من تفتيت الوضع العراقي وتسويغ أسباب استمرار قواتها العسكرية هناك. ولا نعرف كيف يمكن لهؤلاء أن يبرروا ادعاءهم بعد أن رأوا بأم أعينهم الزرقاوي مضرجاً بالدماء؟! أم لعلهم لا يعدمون وسيلة، كما جرت العادة، للتوغل أكثر فأكثر في العقلية التآمرية ليقولوا أن ما شاهدوه هو جثة تشبه الزرقاوي صنعها الأميركيون إيذاناً بأن دور هذه الأداة قد انتهى، كما كانت الحال عندما أنكروا جثتي عدي وقصي صدام حسين واعتبروا الأمر خدعة، أو رفضوا الاعتراف بأن من اعتقل في جحر تحت الأرض هو صدام حسين نفسه!

طبعاً ما كان المرء ليعبأ أو يهتم بمثل هذه الذهنية المريضة والطرائق اللاعقلانية في التفكير لو لم يتكرر استعمالها من قبل البعض، للتأثير بالرأي العام وللنيل من العقلانية أو أي إنتاج معرفي لا يتفق مع هواه وأغراضه السياسية، بل لا يوفر هذا البعض جهداً، حفاظاً على مصالحه واستمرار الأوضاع القائمة، لمحاربة طرائق الفكر العلمي النقدي الذي دونه لا نتمكن من قراءة ناجحة للوقائع في تشابكها وتعقدها ومن بناء رؤية نهضويه ترى الحقائق كما هي وتحدد المواقف المحتملة في سياق تحولات الأحداث وتطورها كما تجري على أرض الواقع لا كما ترسمها العقول والأفكار.

أخيراً، إذ نعترف أن عمر الإرهاب قصير وأنه يمكن أن يضعف الى حد ما عسكرياً وأمنياً ويذلل بذات الأساليب التي يعتمدها، لكن نعترف أيضاً أن هذه الآفة لا يمكن أن تعالج جذرياً إلا في حال تضافر مجموعة من العوامل، السياسية والاقتصادية والثقافية، وتكاملت أدوارها.

إن تأمل المشهد السياسي والثقافي العربي الراهن والبحث عن سبب تحوّل العنف والعنف المضاد إلى ما يشبه ظاهرة ثابتة من ظواهر الحياة اليومية، يقودنا إلى اكتشاف خلل عميق، لا يتعلق فقط بضغوطات الخارج أو مؤامراته الهادفة إلى إلحاقنا بمصالحها وإجهاض تطورنا السياسي، وإنما يتعلق أساساً بالأمراض الذاتية المزمنة والمستوطنة في مجتمعاتنا، منها ما يعود الى مناخات القمع والاستبداد ومنها ما يرجع إلى الفقر والعوز والشروط البائسة لحياة الناس ومنها ما يرجع إلى الشعور بشدة الحيف والظلم الذي تعاني منها الشعوب العربية وبخاصة الشعب الفلسطيني، ومنها أيضاً ما يعود الى البعد الثقافي والمعرفي، بالجهل وخسوف الاتجاهات النقدية وتراجع المشروع التنويري وغياب الاهتمام ببناء خطاب عقلاني يعيد الاعتبار لجوهر الإسلام الحقيقي ويضحد تالياً تلك الاجتهادات التي تحاول تسويغ الإرهاب أو تبريره باعتباره وجهاً من وجوه ما يسميه البعض "فريضة الجهاد "، دون أن يغيب عن البال أن أصحاب هذا الخطاب العقلاني ما كانوا ليهزموا في الماضي لو ما هزيمة حرية المجتمع وانتصار الدولة الشمولية وتسييد الأحادية الأيديولوجية والسياسية، ما يعني بالمقابل أن نصرة قواعد العمل الديمقراطي والإصلاحات السياسية واحترام التعددية وحقوق الإنسان هي المناخ الوحيد لتفتح النقد والإبداع بما فيها الاجتهاد الديني والفقهي وتجددهما.

كاتب سوري