|
<أوَدُّ أن أعلن أنه من الضروري ضمّ ما بين النهرين إلى الهند، مستعمرة للهند
والهنود بحيث تقوم حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج، وتوطين
أجناس البنجاب المحاربة فيها> (آرنولد تالبوت ولسن: 28 11 1914)
بات من الواضح أن تغيير
الجعفري إلى المالكي ينطبق عليه المثل القديم : إنه نفس النبيذ ولكن بقوارير جديدة.
ولاستكمال اللوحة المعقدة في المشهد السياسي القائم لا بد من الإشارة أولياً إلى
حملة <مواد> مهمة موجودة في صلب الحقائق السياسية العسكرية في العراق.
أولاً: إن الاحتلال باق إلى
فترة طويلة لا يمكن تحديد مسافتها الزمنية حالياً لأنها أصبحت مرتبطة بالإدارات
القادمة حسب تعبير بوش، وهي شفرة <بيروقراطية> يقصد بها أن القرار أصبح الآن بيد
المؤسسة الأميركية وليس الإدارة، وتعليق ضباط قاعدة (بلد) الجوية يشير إلى أن حركة
الطيران فيها ليل نهار أكبر حجماً من مطارات مدن كبرى في العالم من نمط لندن أو
برلين.
ثانياً: ان الاحتلال السياسي
مواظب على الاستمرار في <صياغة> العراق الجديد، بغض النظر عن الإخفاقات التي
يواجهها أحياناً. وإنه يغير جلده دائماً وعلى ضوء المستجدات الحادة والمفاجآت التي
تبرز أحياناً في مجرى صنع القرار وتطبيقه. وإن الشغل الشاغل للاحتلال السياسي (وهذا
أصبح مكشوفاً ولا يدافع عنه أحد أبدا)، هو رسم السياسات التكتيكية اليومية بما
يتلاءم مع المتغيرات التي تبدو أحياناَ أنها تعارض <وجوده الطويل> أو تدعم هذا
البقاء. وإن الاحتلال السياسي قد فرض على الجميع جدولاً سياسياً منفصلاً كلياً عن
الهدف المركزي للبقاء الطويل، وهو يحجز هؤلاء في دائرة ضيقة، لا يمكنهم التنفس فيها
إلا من خلال وجهة نظرهم في التشكيلات السياسية (ومنها الوزارة... الخ) والمحاصصات
الطائفية العرقية المرتبطة بها، بحيث لا يمكنهم أبداً التفكير أو المغادرة خارج هذه
الكتلة السديمية من الأوهام والتنويم الاستعماري المغناطيسي. وإن أي محاولة من
هؤلاء للنقاش خارج إطار <العملية السياسية> المباشرة سادفع الاحتلال إلى الضغوطات
باتجاهات أخرى تدفعهم للرجوع إلى دائرة <العملية السياسية> صاغرين ومذعنين.
ثالثاً: لم يقصر الاحتلال
العسكري أبداً في تنفيذ واجباته السياسية طيلة الأشهر المنصرمة والتي تتلخص في
توجيه كل نيرانه الكثيفة إلى مختلف الأهداف التي وضعها نصب عينيه وبما يخدم جدوله
السياسي. وفي هذا السياق يمكن أن ندرج: أ تهديم الضريح العسكري. ب استمرار القصف
اليومي على المناطق التي تقاوم عسكرياً والغرض تأديبها سياسياً عسكريا. ج تكرار
عمليات اختراق المدن وتطويقها وتمشيطها.
الضغط عسكرياً وبالقوة
العارية المنفلتة على <قوى> شخصها الاحتلال، من ضمنها تيار الصدر وحزب الجعفري نفسه
<على أنها تعرقل العملية السياسية> ويتهمها بأنها ضد التوجيه العام لتشكيل <حكومة
وحدة وطنية>، وكذلك إصرارها على < التفاهم الطائفي>، وليس الحفاظ على وحدة البلد
واستقراره السياسي. وقد نجح كثيرا في تحطيم <الجملة العصبية> للتيار الصدري، حيث
استدار هذا التيار باتجاه التفاهم الكامل مع جدول الاحتلال.
رابعاً: إن الاحتلال حجم
الجميع < طائفياً وطوائفيا>، بمعنى، أنه لا توجد قوة سياسية انخرطت في <العملية
السياسية> تتمكن من الحديث المضاد للمحاصصة الطائفية بدون أن تغرق أكثر في مستنقعها
الطائفي وفي تكتيكاتها الطوائفية المخجلة. وهنا لا يمكن التفريق بين <الطوائفية
الشيعية> التي تقودها المرجعية وينفذها المجلس الأعلى بالحذافير، وبين <الطوائفية>
السنية التي يقودها <الوقف السني> بقيادة احمد عبد الغفور السامرائي وينفذها
التوافق العراقي بدقة وأمانة. علماً بأن السامرائي قد شارك في ندوة مفصلة في مطلع
السنة الحالية في معهد أميركان انتربرايز لمناقشة الوضع الديني الطائفي في العراق،
وكان متألقاً في سجالاته مع الآخرين لا سيما راول مارك غريشيت الضابط السابق في
المخابرات الأميركية المركزية، ومايكل روبن المتعهد الإعلامي لشركة لنكولن والموظف
السابق لدى بول بريمر في سلطة الائتلاف الموقتة. ومن خلال الضغوطات العلنية <التي
تحدث عنها خليل زاد في
CNN
بصلافة، ثم فرض إسقاط الجعفري وترشيح شهاب الدين المالكي بدلاً عنه!! وإذا عرفنا
التفاصيل عن <الفروقات> بين الجعفري والمالكي، توصلنا إلى استنتاج واحد، أن
الاحتلال لن يوافق على شيء بدون إرادته وعلى الآخرين الانصياع الشامل. أما النقطة
الأخيرة خامساً: فهي المقاومة الوطنية المسلحة. لقد ثبت، بالرغم من كل النقد
السياسي الذي يمكن توجيه سهامه إليها، أن المقاومة المسلحة هي القوة الثانية
العسكرية والسياسية في البلاد بعد الاحتلال، وأن الاحتلال لم يتمكن إلى الآن من
ترويضها عسكرياً وسياسيا، وأن الفشل التفاوضي، بين الطرفين، الذي يمكن أن يؤدي إلى
تغيير كامل في اللوحة السياسية، هو الذي أدى إلى <طبخ> وزارة المالكي بسرعة على عكس
التذرع بالوصول إلى النتيجة المطلوبة خلال أربعة أشهر طويلة. لذلك يمكن القول فعلاً
بأن استمرار المشاورات مع المالكي لن يقطع خيوط المفاوضات السرية، وإنما سيدفع بهذه
إلى اتجاهات جديدة والى كشف بعض الأوراق المستورة على طاولة المباحثات والمساجلات
وبالتدخل المباشر والجديد لبعض الدول الإقليمية العربية المهمة. لكن المسألة
الجوهرية في الوضع (السياسي الذهني) للمقاومة المسلحة هو الذي <بجاذبيته> الخاصة،
يثير الانتباه والقلق لدى أوساط خبراء الاحتلال في العراق وفي داخل الإدارة
والمؤسسة في الولايات المتحدة. ويمكن الاهتمام والاشارة أيضاً، لبعض الملاحظات التي
أبديت حول الخط السياسي لهذه المقاومة مؤخراً وتأثيراته المحلية والإقليمية. ففي
نصف القرن الأخير، كان يمكن الحديث عن عدة اتجاهات فكرية سياسية مناهضه للمشروع
الاستعماري للمنطقة ( ومنه زرع إسرائيل وتحويلها إلى قاعدة عسكرية سياسية له)، يمكن
الإشارة إليها بالتيار القومي والليبرالي والإسلامي واليساري. ولكن في النصف الأول
من المرحلة هذه، كانت القوة السائدة فيها للتيار القومي الذي مثلته الناصرية بأعلى
قدراتها وإمكانياتها السياسية والجماهيرية. أما النصف الثاني من المرحلة نفسها،
فتأسس على ضوء صعود التيار الديني بديلاً للناصرية الشعبية، وتوسعه جماهيرياً ليصل
إلى ذروته في <الخمينية السياسية> في المنطقة. إذا كان يمكن الاستعارة بالهيغلية
اليسارية في ترتيب هذا النسق التاريخي، وحيث إن الموضوعة <الخمينية> قد نفت
<الموضوعة الناصرية>، فإن الوحدة الهيغلية العليا الجديدة، لا سيما بعد فشل
الخمينية الذريع، ستجد معبراً عنها في التجربة الجديدة في العقد الأخير مروراً
بمحطات ثلاث: 1 انتصار حزب الله في تحرير الجنوب اللبناني، 2 صعود الحركة الإسلامية
الوطنية في فلسطين عبر الانتفاضة الأخيرة، 3 احتلال العراق وصعود المقاومة المسلحة
على الأسس <الوطنية الإسلامية> الجديدة. إن <الوطنية الإسلامية> ليست بمعزل عن
النجاحات والإخفاقات القديمة. وهي ليست بديلاً عن كل المكونات السابقة، لكنها
<ضرورة> تاريخية جديدة في مجالين: 1 سقوط الاتحاد السوفياتي ونهوض القطبية الواحدة
وأهمية استمرار النضال الشعبي الدولي ضدها وضد الإمبريالية الاميركية التي تمثلها؛
2 استقطاب الصراع الدولي في منطقتنا الذي جعل الحرب واحتلال العراق أهم سمة جديدة
في تعريف الإمبريالية المعولمة وانتشارها الكولونيالي الاحتلالي الجديد. لقد أعادت
<المقاومة الوطنية الإسلامية> النقاش مرة ثانية وفتحت أبواباً جديدة للسجال حول هذه
المقاومة في العراق أو في المناطق الأخرى من العالمين العربي والاسلامي، بل حتى على
المستوى الأممي. ولقد نبهت الكثير من المحللين إلى المجرى التاريخي الجديد للحروب
العالمية ومحتوياتها السياسية وأشكالها العسكرية. ولذلك لا بد من تسليط الضوء على
نقطتين مرتبطتين ببعض: 1 المخطط العام الذي وضع لاحتلال العراق في أعوام 20012
.2002 <الانحراف> الطبيعي الذي حصل في هذا المخطط بعد التنفيذ الفعلي للاحتلال، وهو
انحراف يرتبط مباشرة مع الخط العام للعولمة العسكرية وليس مع بعض ما يطرح بسذاجة
حول الشخصية الهزلية للرئيس بوش أو العناد العنجهي للشاعر رامسفيلد أو للدناءة
المالية التي يتمتع بها ديك تشيني. يقول المحلل العسكري المحافظ <ويليام لند>، إن
المشكلة الأساسية التي تعاني منها الأدارة هي: أن البنتاغون ما زال مصراً على
انتهاج <عقيدة عسكرية> تقول بأن التكنولوجيا العالية جداً تضمن فوز <قواتنا من نمط
الجيل الثاني> على قوات العدو البدائية التكنولوجيا من <الجيل الرابع>، وهو يقصد
حرب الغوار. وعليه فإن هذا الخبير في حديثه، يلخص تقريراً مهماً وخطيراً نشره <معهد
الدراسات الاستراتيجية> كلية الحرب الأميركية، والذي أشرف عليه <ديفيد هندريكسون>
مع <روبرت تاكر>. وفي كل الأطروحات التي يناقشها الخبيران، يكشفان عن <الأكاذيب
والأضاليل> التي اتبعتها الإدارة في تمويه الهدف الأساسي: الاحتلال والبقاء لفترة
طويلة. كانت أسلحة الدمار الشامل، الطغيان السلطوي والفتك بالأقليات، مسألة
الديموقراطية، النفط، إسرائيل، كلها ألعاب نارية أطلقتها قوى الشر في الإدارة لترسم
خطة الحرب وتنفيذ الاحتلال... وبعد ذلك لكل حادث حديث. ولقد كشف مؤخراً عن العديد
من الوثائق التي تسلط الضوء على النقاش الذي جرى تحديداً في عام 2002 حول احتمالات
الحرب والاحتلال. ولعل أهمها وأخطرها، وثيقة الباحث القدير والأكاديمي المدني
العسكري <مايكل دونوفان> التي وزعها بشكل خاص في كانون الأول 2002 من خلال <مركز
أمن المعلومات>. ومن الأهم أن نطرح نقاط هذه الوثيقة والربط بين مفاصلها وما حدث
ويحدث لاحقاً أو الآن.
أولاً: إن دونوفان لم يضع
الحرب الا في السياق الأخير وطلب من الإدارة إشباع كل الاحتمالات الأخرى قبل اتخاذ
القرار المصيري. ثانياً: إن دونوفان أكد أن الحرب ستكون دموية وليست بسيطة كما
يحاول البعض التلاعب بها. وإن الاحتلال هو القسم الدموي والأكثر تعقيداً من الحرب
نفسها.
ثالثاً: إن القوى العسكرية
الضخمة والضاربة والتي تصل إلى تعداد، على الأقل ربع مليون، هي القادرة على حسم
الأمور نهائياً.
رابعاً: إن الحفاظ على
استقلال وسيادة العراق قضية جوهرية للبلاد وللمنطقة عموماً.
خامساً: إن الحفاظ على
<الدولة> مركزي ويجب عدم التفكير نهائياً بخلاف ذلك.
سادساً: إن الاحتفاظ <بالجيش
والقوات المسلحة والشرطة> جزء أساسي من الاحتفاظ بالدولة، وإعادة البناء يجب أن تتم
<من داخل> هذه الحقائق وليس <من خارجها>.
سابعاً: على الولايات
المتحدة خلال فترة ليست أكثر من ستة أشهر، تسليم البلاد إلى المجتمع الدولي (وفي
المركز منه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية ومنها جامعة الدول
العربية)، وعدم التورط نهائياً في <الوضع الداخلي العراقي>.
ثامناً: الانسحاب الفوري
والشامل هو الصيغة الوحيدة لإنهاء الحرب والاحتلال وعدم التفكير نهائيا <بإقامة
قواعد عسكرية موقتة أو ثابتة>!!!
تاسعاً: إن الإشراف الدولي
الإقليمي والحفاظ على سيادة العراق هما اللذان سيفرزان الأسلوب الجديد للحكم في
العراق الذي سيكون تعددياً ديموقراطياً ومركزياً للحفاظ على سيادته وموارده
الطبيعية.
عاشراً: إن التنسيق الكامل
بين (المنظمات الدولية والإقليمية) مع دول الجوار العربية قضية أساسية، لأنه بدون
ذلك سيعرض العراق لهزة <جيو سياسية> عميقة قد تدفع مضاعفاتها المنطقة كلها ثمناً
لذلك. ومن هنا يجب التحاشي الكامل وتجنب التدخل الخارجي وتحديداً إيران وتركيا في
الشؤون الداخلية العراقية واللعب بأدواته الخاصة وتجييرها خدمة لمصالحها الإقليمية
والاستراتيجية. هل يوجد أكثر وضوحاً من هذا الطرح! وعلى أعلى المستويات! فلماذا لم
تأخذ الإدارة بهذه الحسابات؟؟ ولماذا فضلت المراوغة؟ وكيف كانت علاقاتها مع الغرب
الأوروبي إبان صعود هذه <الخطط> الحربية والاحتلالية ومنذ أزمة الكويت عام
19901991؟ وتحديداً: يمكن السؤال، إذا كان هدف الولايات المتحدة الاحتلال وصياغة
العراق سياسياً بعد ذلك على ضوء المتغيرات الذرائعية للإمبريالية الاميركية؟ فما هي
النوايا التي تحملها البيروقراطية الأوروبية تجاه العراق... وعلى الأقل منذ نفس
الفترة الزمنية!
(?) سياسي وكاتب عراقي
|
|
|
|
|
©2006 جريدة السفير |