لبنان ..من المقاومة الميدانية إلى المقاومة المدنية


 

 عصام نعمان



هاجس الجميع في لبنان يترجمه سؤال ملحاح: إلي أين من هنا بعدما هدأت الحرب؟ هذا السؤال يستبطن أسئلةً عدّة يطرحها مختلف أطراف الإجتماع السياسي اللبناني، أبرزها:
ما دور سلاح المقاومة بعد الحرب. بل ما دور المقاومة نفسها؟
هل تنفيذ القرار 1701، مـع ما ينطوي عليه من قرارات دولية أخري، ممكن من دون استتباع النظام اللبناني لأمريكا وأوروبا؟
هل يمكـن تنفيذ ميثاق الطائف أم أنه فقد صلاحيته بعد خروج سورية من لبنان؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هو البرنامج السياسي البديل من ميثاق الطائف؟
الحقيقة أن سلاح المقاومة لا يمكن تحديد دوره إلاّ في ضوء تحديد دور المقاومة نفسها. المقاومة كانت تحوّلت موضوعيا، مع تحرير معظم أجزاء الجنوب اللبناني في 25 أيار (مايو) 2000، قوةً رادعة. عملياتها المحدودة بعد التحرير، لاسيما عملية 12 تموز (يوليو) الأخيرة، كانت في واقعها ومرتجاها تحركا هادفاً غايته إستعجال تحرير الأسري اللبنانيين من سجون إسرائيل لتسويغ تحوّل المقاومة قوةً رادعة تتجه قيادتها السياسية الي هندسة تكاملها مع الجيش في منظومة وطنية دفاعية. ألم يفصح قائدها السيد حسن نصر الله عن هذا التوجّه بمشروع الإستراتيجيا الدفاعية الذي عرضه علي مؤتمر الحوار الوطني قبل أسابيع معدودة من إندلاع الحرب؟
ليس من قبيل المبالغة القول إن حرب إسرائيل علي لبنان وتداعياتها، وإقرار القرار 1701 بعد مخاض ملحوظ قد كرسا راهنية المقاومة كقوة رادعة، ووضعا مسألة الأسري في عهدة توافق وطني عام أساسه العمل علي تحريرهم بطريق مبادلتهم بأسري العدو. الأمر نفسه ينطبق علي مسألة تحرير مزارع شبعا. فقد أصبحت هي الأخري في عهدة توافق وطني أساسه التمسك بلبنانيتها، وبضرورة تحريرها بطريق جعله شرطاً لتنفيذٍ متوازنٍ ومتزامن لبنود القرار 1701.
بهذا المنطق، بل بهذا التعاهد السياسي الجماعي، يصبح تنفيذ بنود القرار 1701 التي تخصّ لبنان مشروطاً بقيام توافق وطني علي مسألتي سلاح المقاومة ودورها من جهة وعلي مسألة مبادلة أسري العدو الإسرائيلي بالأسري اللبنانيين في سجونه من جهة أخري. هذا المنطق والتعاهد السياسيان يستتبعان الحرص علي ان يكون الهدف الأساسي من تنفيذ ما يخصّ لبنان من بنود القرار 1701 تحقيق ثالوث الحرية والسيادة والاستقلال في وجه إسرائيل العدوانية، وبمعزل عن المخططات الإقليمية والدولية لأمريكا وأوروبا. إن تحقيق أقانيم الثالوث علي هذا النحو يبريء الدعوة لها والنضال في سبيلها من أية شبهة، ويقنع سورية بضرورة إحترامها وإلتزامها كضمانة لتعزيز إستقلالها الوطني وحمايـة وأمنها القومي.
بإختصار، يصبح إستقلال لبنان مشروعاً وشرعيا ً وشعبياً بمقدار ما يكون في شكله ومضمونه وبالدرجة الأولي إستقلالا عن إسرائيل ورفضاً قاطعاً لمحاولات أمريكا وأوروبا الهيمنة علي إرادتنا وقدراتنا او فرض وصايتهما علي نظامنا السياسي وعلي علاقاتـنا الخارجية وصلتنا الرحمية بمحيطنا القومي وعالمنا العربي والإسلامي.
إلي ذلك، فإن إتفاق الطائف أصبح ميثاقاً وطنياً لأنه أصبح جزءا لا يتجزأ من الدستور. التخلي عـن ميثاق الطائف او التنكر له يعني التخلي عن الدستور والتنكر له. هل في جعبة أيٍّ من أطراف الإجتماع السياسي اللبناني مشروع مغاير او بديل من الدستور؟
هذا التثمين لميثاق الطائف لا يعني البتة وضعه فوق النقد. كلا بالتأكيد. من هنا قولنا إن علته الكبري لا تثوي في نصه بل في منطلقه. ذلك انه في مبتدئه وخبره جهدٌ موصول لإعادة تنظيم الطائفية من حيث هي آلية لتقاسم السلطة والنفوذ والمغانم بين متزعمي طوائف، ورجال أعمال وأموال، وقادة متنفذين في أجهزة الأمـن والإستخبارات. الشفاء من هذه العلة يكون بالعمل علي تجاوز الطائفية تدريجيا. ذلك لا يتمّ بقرار بل بسلوك مسـار يبدأ بتنفيذ المادتين 22 و95 من الدستور بالتوافق وبالتزامن.
تدعو المادة 22 من الدستور إلي أن يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية (الطوائف) وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية ، وذلك مع (وليس بعد) إنتخاب أول مجلس نواب علي أساس وطني لا طائفي . كما تنص المادة 95 من الدستور علي وجوب ان يقوم مجلس النواب المنتخب علي أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بإتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسـة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة الي رئيس مجلس النواب ورئيس مجلـس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية . وتنص المادة 95 أيضا علي ان مهمة الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية وتقديمها الي مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية . كمـا تنص المادة نفسها علي ان تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة ، وعلي ان تلغي قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الإختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة ... الخ. إن روح هذه النصوص ومضمونها يشيران بما لا يقبل الشك إلي جواز، إن لم يكن إلي وجوب، المبادرة إلي تنفيذ منطوق المادة 22 من الدستور بلا إبطاء، لأن تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة معمول به حاليا وليس ثمة ما يحول دون إعتماده مستقبلا إلي حين الفراغ من المرحلة الإنتقالية التي تتعلق بتقاسم الوظائف في إدارات الدولة ومؤسساتها العامة ليس إلاّ.
هل يجوز، بعد مرور نحو 80 سنة علي إقرار الدستور (1926) وأكثر من 15 سنة علي إدخال بنود ميثاق الطائف في صلبه، أن تتأخر القوي الحية في الإجتماع السياسي اللبناني او تتواني عن النهوض الي تحقيق هدف جلل هو تجاوز الطائفية وتطوير المؤسسات الدستورية بما يكفل إعادة بناء الدولة علي أسسس وطنية مدنية ديمقراطية؟
مع ذلك يطرح السعي إلي تحقيق هذا الهدف الوطني الجلل سؤالاً مفتاحيا: ما النهج الأفضل لتحقيقه بالسرعة الممكنة؟
من معاينة الواقع ومن معين الخبرة المتراكمة عبر سنوات طويلة من العمل الوطني الديمقراطي أجيب بلا تردد ان القوي الوطنية الحية مدعوة إلي تحقيق ذلك الهدف المركزي الإستراتيجي، وان النهج الأفضل الواجب إعتماده في هذا السبيل هو العمل الشعبي الديمقراطي.
القوي الحية المطالبة بالنهوض إلي تحقيق الهدف الجلل هي عبارة عن مروحة واسعة من القوي الوطنية والقومية والإسلامية واليسارية والديمقراطية، أبرزها فعاليات وشرائح جادة في حزب الله، والتيار الوطني الحر، والشيوعيين، والقوميين الإجتماعيين، ومنبر الوحدة الوطنية القوة الثالثة ، والشريحة الشوروية في الجماعة الإسلامية، والشريحة الشابة في حركة أمل، والشرائح الديمقراطية المستقلة في صفوف القوميين العرب والبعثيين والناصريين والأرمن الطاشناق والأرمن اليساريين وجمعيات حقوق الإنسان وسائر الفعاليات والشرائح الداعية والعاملة في سبيل قيام دولة مدنية قادرة وعادلة تسلك مسلك الحياد بين المراجع والمؤسسات الدينية، وتحرص في عملها العام علي نهج الشوري والديمقراطية وحكم القانون والشفافية والعدالة والتنمية المستقلة والمستدامة.
المقصود بالعمل الشعبي الديمقراطي توخي التركيز علي القضايا الإجتماعية والنضال الإجتماعي المطلبي حيث يتلاشي الفعل الطائفي والمذهبي، وذلك بإعتماد المناهج والوسائل الديمقراطية السلمية في ممارسة العمل العام داخل المجتمع الأهلي ومؤسسـات المجتمع المدني، بما في ذلك جواز بل جدوي اللجوء الي العصيان المدني، إذا إقتضي الأمر.
لا خـوف ولا حرج من اللجوء الي العمل المباشر، لاسيما الي العصيان المدني، بدعوي محاذرة الإنزلاق الي حرب أهلية. فالمزاج الشعبي في الوقت الحاضر منافٍ للعنف الطائفي وغير مقتنع بجداوه، والطوائف كلها منقسمة علي نفسها وموزعة الولاء علي إتجاهات وأهداف ومطالب شتي الأمر الذي يعطّل الإصطفاف الطائفي الصارم والعصبوي.
لعل منطلق نهج العمل الشعبي الديمقراطي يكون بإعتماد ورقة التفاهم المشتركة التي توصل إليها حزب الله والتيار الوطني الحر وإغناء مضمونها وتطويرها وتوسيع عضوية المستعدين للإلتزام بها لتشمل، باديء الأمر، في تحالفٍ أو إئتلافٍ عريض، الشيوعيين والقوميين الإجتماعيين و القوة الثالثة ، علي ان تتكامل لاحقاً بالتعاون مع سائر شرائح القوي والفعاليات الحية المار ذكرها.
إن الهدف المرحلي لهذا الإئتلاف الوطني العريض هو ممارسة الضغط الشعبي بمختلف الأشكال والوسائل الديمقراطية علي الطبقة السياسية المتحكمة بغية تحقيق توافق وطني عام علي إقامة حكومة إتحاد وطني مع صلاحية إشتراعيـة لسنّ قانـون انتخاب ديمقراطي عادل علي أساس النسبية، والإشراف علي إجراء الإنتخابات. ذلك كله ليكون المجلس النيابي الجديد بمثابة جمعية تأسيسية لمباشرة عملية إصلاح سياسي ديمقراطي وشامل علي الأسس المبينة آنفاً.
بإعتماد هذا النهج الديمقراطي يتحول حزب الله من مقاومة ميدانية إلي مقاومة مدنية من دون ان يتخلي بالتأكيد عن دوره كقوة رادعة خلال مرحلة الإنتقال من النظام الطوائفي القاصر والفاسد إلي الدولة المدنية الديمقراطية القادرة والعادلة. كما تتحول بقية القوي الوطنية الحية من معارضة سياسية كلامية إلي مقاومة شعبية مدنية فاعلة.
هل ثمة نهج آخر لتأسيس، نعم لتأسيس، دولة لبنان المدنية الديمقراطية، أو علي الأقل لإعادة بناء الدولة الراهنة المشرفة علي الإنهيار؟
باب الحوار والمناقشة مفتوح علي مصراعيه.