في
الذكرى الخامسة لأحداث 11 أيلول!
أكرم
البني
لا يستطيع المرء أن يقدر فيما إذا كان لدى قادة تنظيم القاعدة،
ممن خططوا لتفجير الطائرات في نيويورك وواشنطن، رغبة أو حافز ما للقيام بجردة
حساب أو للوقوف نقدياً مما حصل، وتقويم نتائج هذه العملية التي هزت العالم؛ وما
قدمته من زاوية الربح والخسارة للأهداف السياسية التي يسعون اليها. وتالياً،
فيما إذا كانوا يمتلكون الجرأة والمسؤولية التي ميزت الأمين العام لحزب الله،
السيد حسن نصرالله، في قوله بعد أقل من أسبوع على وقف إطلاق النار بأنه "ما كان
ليتخذ قرار أسر جنود إسرائيليين لو عرف أنه سيقود الى هذه النتيجة"!
هل وضع أولئك في حساباتهم ماهية الواقع السياسي والعسكري الجديد
الذي خلفته أحداث أيلول 2001؟! وكيف شكلت ذريعة قوية لاجتراح الحروب، وتأكيد
الزعامة الأميركية على العالم؟! وأي حقنة من النشاط والفاعلية أعطوها لإدارة
البيت الأبيض التي يناهضونها، وهامشاً واسعاً للحركة ما كانت لتحلم به، فصارت
القواعد العسكرية والسجون السرية تقام بسهولة في أي مكان تحت عنوان مكافحة
الإرهاب، وشنت الحروب الاستباقية كمهمة مسوغة لتفادي أمثال هذه التفجيرات، بدأت
بالحرب على أفغانستان، مع أوسع تغطية دولية لضرب معاقل حركة طالبان، وربما لن
تنتهي بالحرب على العراق واحتلال أرضه، ناهيكم عن استخدام ما جرى كذريعة قوية
لتحرير الفعل الأمني الأميركي عالمياً، ودفع دور الدولة العسكري التدخلي الى
الأمام، وإرغام الجميع تحت لواء شعارها المتطرف "من ليس معنا فهو ضدنا" على حسم
مواقفهم، والويل لهم إذا ادخلوا أي اعتبارات تحول دون انتمائهم الكامل الى
استراتيجية مكافحة الإرهاب؟!
فكل شيء صار مباحاً ضد الآخر، بما في ذلك التدابير الاحترازية
الصارمة التي اتخذتها معظم البلدان للحؤول دون تكرار مثل هذه الأعمال، كقانون
باتريوت الذي أقره الكونغرس الأميركي، ثم تشريعات مكافحة الإرهاب التي اعتمدتها
لندن، وأخيراً قرار الأمم المتحدة الذي صدر منذ أيام لمكافحة الإرهاب!
ربما لم يقدّر قادة القاعدة قوة المارد الذي أطلقوه من قمقمه،
لينهال قمعاً وتنكيلاً بكل مشتبه أو من يضعه حظه العاثر في موضع ارتياب وشك!
كما لم يقدّروا كيف ساهم عملهم في تقوية تيارات الغرب المتطرفة التي تنظر
بازدراء الى العرب والمسلمين، بما في ذلك تعزيز فاعلية الخطاب السطحي نفسه الذي
يختزل سائر مشكلات الحياة في صراع أزلي خطير بين الشر والخير، منذراً بحروب
شاملة ومفتوحة لا بد أن تستعر ولا بد أن تخاض، سمها ما شئت: حروب حضارات أو
حروب ثقافات، بأمل جعل العالم تحت قبضة أصولية تدعي احتكارها لقيم الخير، ومن
واجبها أن تفرض ما تعتقده صحيحاً على الناس أجمعين، وما يترتب على ذلك من تسويغ
للأحادية، وإلغاء التنوع والنقد، وتحريم العقل، وإباحة القتل والذبح في أي مكان
وضد أي كان!
في المقابل، وبرغم الشعارات التي رفعتها الولايات المتحدة عن
الحرية واحترام التعددية وعن ضرورات الإصلاح والتنمية لإزالة بعض أسباب نشوء
الإرهاب وتطوره، لا يخفى على أحد، أن تفجيرات نيويورك وواشنطن قد أضرت، في
المحصلة النهائية، بمسيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فعرفت انحساراً ملموساً
بعد ان شهدت زخماً لم يعرف له مثيل خلال السنوات التي تلت سقوط المنظومة
الاشتراكية، كان أوضح تجلياته الحضور القوي للفكر الليبرالي ومبادئ الحرية في
تقويم الأنظمة السياسية، ومعايرة مدى صلاحيتها.
والاعتراف بهذا الضرر معناه أن نقدر حق التقدير ماهية التحول
الذي شهده عالم اليوم، مع تقدم الحلول الأمنية والعسكرية إلى الواجهة، وتراجع
أشكال الصراع السلمي، السياسي والاقتصادي. لتعود بنا الذاكرة، لكن هذه المرة
تحت عنوان مكافحة الإرهاب، إلى أجواء الحرب الباردة، وما ميزها من ضعف اهتمام
بقضايا الحرية وحقوق الإنسان، وسعي كلا قطبي النظام الدولي وقتئذٍ الى مختلف
الوسائل لإيقاع الهزيمة بالعدو أو ردعه بالحد الأدنى.
ثم لا نعرف ما إذا كان أصحاب فكرة "أرهبوا أعداءكم" قد اقتنعوا
أخيراً، وبعد خمس سنوات من التجريب، بأن طريقتهم كانت بلا جدوى وبلا أفق، وأن
جُلّ ما أفضت إليه هو المزيد من البؤس والتردي والإساءة، ليس فقط إلى حالنا
الراهنة، وخاصة في فلسطين والعراق، وإنما أيضاً للحقوق والأهداف التي نتطلع
إليها، ولسوية علاقتنا بالحضارة الإنسانية، لتغدو أعمالهم في نظر كثيرين مجرد
رغبات في التشفي والثأر، أو أفعالا عبثية غرضها التخريب وزرع البلبلة والفوضى،
دون أن تعير انتباهاً للنتائج والآثار السلبية المترتبة سياسياً وإنسانياً على
المجتمعات العربية والإسلامية؟!
فإذا كان الغرض من هذه التفجيرات، وما تلاها من أعمال مشابهة،
هو إضعاف العدو وكسر إرادته، فالنتائج المأساوية التي نجمت عن سنوات من هذا
القتل العشوائي تشير إلى العكس! وإذا كان الهدف هو فضح تخاذل السلطات، وتأليب
الناس ضدها، وكسب مزيد من الأنصار، فقد أخفقت هذه المواجهات الدامية في إيقاظ
الجمهور وحفز دوره، بدليل تراجع التعاطف الذي كان تجده هذه العمليات لدى قطاعات
واسعة من الأوساط الإسلامية، لشعورهم بأنها ترد لهم بعضاً من كرامتهم التي
تهدرها قوى الاستبداد أو قوات الاحتلال، وبدليل تقدم عدد من المنظمات الإسلامية
خطوات واسعة نحو تجديد خطابها السياسي، برفض أشكال الصراع الدموي وفرض التسلط
والاستبداد باسم الدين، وقبولها التعددية وطرائق العمل الديمقراطي والتعايش مع
تيارات عقائدية وسياسية كانت تناصبها العداء المستحكم حتى الأمس القريب، ناهيكم
عن أن حالة الاضطراب الأمني الناجمة عن عمليات التفجير والقتل لم تفض الى ضعضعة
الأنظمة وتفكيك صفوفها أو زعزعة سلطانها، بل على العكس مكنّتها من إعادة ترتيب
قواها، ومنحتها ذريعة قوية لاستخدام العنف المضاد على نطاق واسع، وبصورة لم
يسبق لها مثيل!
وأخيراً، إذا كان الغرض إثارة الرأي العام العالمي، وشد الأنظار
صوب مشروعية حقوقنا وقضايانا، فقد حصل النقيض أيضاً! فالمواطن الغربي، ومع
تكرار العمليات الإرهابية، لم تعد تهمه، تحت وطأة حقه في الأمن والحياة،
معاناتنا أو ما نكابده، أو حتى تمييز الحدود بين الإسلام والمسلمين عموماً وبين
جماعة توظف الدين لأغراض دنيوية وغايات سياسية. وهنا لا يمكن وضع اللوم على
العقل الغربي حين يهمل حقوقنا، وحين يغدو العربي أو المسلم في تلك البلاد
محاصراً أكثر بعيون الناس وخوفهم، وربما بازدرائهم أيضاً.
بعد خمس سنوات من أحداث 11 أيلول وما تلاها، يخطئ من يقول إن
الإرهاب لم يكن فاعلاً ومؤثراً في تخريب حياتنا الإنسانية والسياسية، وعلاقتنا
مع أنفسنا ومع الآخر؛ فعملياته ارتدت ضدنا، وجعلت مجتمعاتنا، وهي في أضعف
أوقاتها وإمكاناتها، مركزاً للضغوط المتنوعة، ولأفعال الحرب والقوة.
ربما آن الأوان، في ضوء هذه الثمار المُرّة، أن ننتصر لقيم
العقل، ونتخلص من هذا الهوس بلغة العنف والقوة، فنبحث عن الجدوى الحقيقية
لتحصيل حقوقنا وحريتنا في مجتمع إنساني يعيد الاعتبار للمُثل النبيلة، ولمعنى
الكرامة البشرية، ويرسخ قيم التسامح والحوار واحترام تنوع الآراء واختلاف
المعتقدات والثقافات، دون عزل أو إهمال أو إقصاء.
كاتب سوري